19 - 06 - 2024

الكاتب الصحافي كرم نعمة: الصحافة في حرب غير متكافئة مع العصر الرقمي

الكاتب الصحافي كرم نعمة: الصحافة في حرب غير متكافئة مع العصر الرقمي

** الصحافة أداة كل من يستخدم الإنترنت ولم تعد “مهنة” الصحافي وحده
** الإعلام المعبر عن مصالح سياسية وتجارية ودينية اليوم أكبر بكثير من إعلام مدافع عن حرية المجتمع في العالم العربي

تواجه وسائل الإعلام عامة والصحافة الورقية خاصة تحديات مؤلمة وغير محدودة، ليس من بينها تراجع الحريات وعدم إقبال القراء فقط، ولكن أيضا على مستوى التمويل ودخول العصر الرقمي ممثلا في وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر وانستجرام وغيرها واستغلالها بث الشائعات والأخبار والتقارير الكاذبة من قبل جماعات مصالح ودول..وهذه الرؤية التي تطرحها مقالات هذا الكتاب "السوق المريضة الصحافة في العصر الرقمي" للكاتب والصحافي العراقي القدير كرم نعمة تأتي انطلاقا من تجربة طويلة عاش فيها في لجة مطبخ ساخن لصحيفة يومية كمدير تحرير لجريدة العرب اللندنية. ليكون الشاهد والمتابع لأزمة وجودية كسرت عمودا في مبنى الصحافة، لم تشهد مثله على مر التاريخ المعاصر.

يؤكد نعمة أن وسائل الإعلام المطبوعة لم تعش زمنا غير عادل بحقها مثلما مر عليها منذ أن فتح علينا السيد "غوغل نوافذه". ولم تدخل في تاريخها منافسة غير عادلة، إلا عندما صنعت شبكة الانترنت نموذجها الإخباري في وسائل التواصل الاجتماعي، وشكل فيسبوك جمهورية افتراضية يسكنها أكثر من ثلاثة مليار مستخدم.كان على الصحافة أن تعبّر عن نفسها في تلك الحرب غير المتكافئة في العصر الرقمي وهي تدار من جيوش المواطن الصحافي والأخبار الزائفة. مع ذلك بقيت صامدة فيما سمي عصر ما بعد الحقيقة، وبقيت نماذجها المثالية المخلصة لجوهر الصحافة وحدها مثالا تاريخيا كما كانت وكما ستبقى في العصر الرقمي

في مقالات الكتاب الصادر عن دار لندن للطباعة والنشر يجد القارئ احتفاء بتلك الأمثلة التاريخية في الصحافة الورقية عندما نعرف الأرقام المليونية المستمرة إلى اليوم في توزيع صحف مثل فايننشيال تايمز ونيويورك تايمز. ووفقا للمؤلف "لسوء الحظ لا أجد مثالا عربيا هنا".

ويرى نعمة إن وحدة متن هذا الكتاب تفرضه طريقة التفكير عند كتابته، وإن تجزأ إلى مقالات مستمرة كتبت على مدار أكثر من عشر سنوات تعبّر عن زمن كتابتها، من دون أن تفقد استمرارية تأثيرها على صناعة الرأي. فهي تمتلك خصوصية المؤرخ للحدث أولا، مثلما تعرض تداعيات وتأثيرات ذلك الحدث وما ترتب عنه لاحقا. ذلك ما أراه أحد أهم المصادر للمهتم بمصير وأزمة الصحافة الوجودية، مثلما يمثل مرجعا للدارس لمفاهيم وسائل الاعلام .صحيح أنني لم أفرط في كل مقالات الكتاب بالأسئلة بوصفها المعبّر المتصاعد والمستمر عما تعيشه الصحافة المطبوعة ووسائل الإعلام بشكل عام، في العصر الرقمي، لكن ثمة إجابات أيضا بقيت مخلصة ومستلهمة لجوهر الصحافة أثبتت أهميتها بمرور الوقت، وستبقى كذلك، لأنني أومن أن الصحافة لن تموت، بل ستبقى تعبر عن نفسها وإن تغيرت الطرق والوسائل والأدوات التي تُقدم بها. كنت صحافيا عندما كان القلم والورقة وسيلتي وسأبقى كذلك وأنا اصنع قصتي بهاتفي الذكي. ذلك ما توصلت اليه في كتابي هذا".

يقول نعمة أن الاستقلال التحريري والنزاهة هما أكبر أسلحة وسائل الإعلام في الدفاع عن خطابها أمام منافسة متزايدة، هذه ليست مجرد مسألة أخلاقية في العصر الرقمي، فجملة "ثق بي، أنا صحافي" لا يمكن إطلاقها لمجرد المزاح، الأمر أكبر بكثير من مصالح المعلنين والتجار ورجال الدين وأصحاب القرار السياسي .لكن الصحافيين أنانيون مثل أي إنسان آخر، وهم يمنحون أنفسهم دورا في القصص الإخبارية والإعلان عن مواقف تلغي فكرة الشاهد الطامح إلى حرية نشر المعلومات واحترام وعي الجمهور.

ويلفت إلى أنه لسوء حظ الصحافة، الأنانية أضحت مرحلة متأخرة قياسا لما يحدث في التلفزيونات العربية اليوم، هناك جيل إعلامي يمارس العبث الصحافي والتسطيح المريع والتخلي عن صناعة الأفكار العميقة والاكتفاء بالتكرار واستخدام لهجات ركيكة في التعبير وكأن اللغة باتت عاجزة، بل أن المحاورين على شاشات التلفزيون لم تعد من مهامهم صناعة الأسئلة، هم يتحدثون عن أنفسهم كشركاء في القصص أكثر مما يقدمون للمشاهد صورة عن منجز المُحاور!.. عندما يكون الصحافي جزءا من القصة ينتهي نضال الصحافة الحرة من أجل حريتها. فإحدى مقدمات الاستبداد هي تقويض شرعية الإعلام المستقل. الهدف واضح: لفسح المجال لأجهزة الدعاية المتطرفة والحكومات الفاسدة وتحويل الصحافة إلى مشروع تجاري أو ديني، ليس من مهامه ربط المجتمع في ديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.وفي المحصلة هناك إعلام يتجاوز مفهوم التابع والمتبوع، بل أكثر إيغالا في التبعية، إعلام مطابق فعليا لفعل الحشد في صوره ومحتواه. من صنعه إذن غير الجماهير وإعلامها وفق نظرية غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير".

ويؤكد نعمة أن الإعلام المعبر عن مصالح سياسية وتجارية ودينية اليوم أكبر بكثير من إعلام مدافع عن حرية المجتمع في العالم العربي، الأمر الذي يعبر عن الارتداد والنكوص، إعلام يقدم نفسه لجمهور ليس بحاجة إلى مثل هذا التقديم!من يساعدني بأمثلة عن وسائل إعلام عربية لا تضع نفسها جزءا من القصص السياسية؟. إن هناك مرحلة متأخرة من الصحافة، لسوء الحظ تزداد تأخرا مع مرور الوقت، مع أنها موجودة في كل بلدان العالم بما فيها الغربية، لكن التي تزداد تأخرا أكثر هي الصحافة العربية، لا يمكن أن نصدق أن الصحافي يزداد غباء مع مرور الوقت، لكننا لا نمتلك غير بدائل من صحافة فيها من التكرار ما يزعج، وكدس كبير من المقالات التي لا تقول شيئا، وتعجز عن صناعة فكرة جديدة.

ويرى أن نمو الصحافة على الإنترنت أشبه بنمو الفطر، أما تنوعها على الشبكة العنكبوتية فيبدو أشبه بتشابك الحقول المرجانية في أعماق البحار، لذلك ستكون تسمية "صحافة المايكروخبر" جديرة بالوفاء لما ينقله تويتر مثلا أو المدونات الخاصة من أنباء قصيرة.لم تعد الصحافة بمفهومها الجديد تتحمل الرأي بصفته نموذجا مطولا ومستقلا، بل سيكون موضع تجاهل في مواجهة تقديم معلومات بمحتوى هام في نفس وقت حدوثها، وتشغل حيزا كبيرا من اهتمام الناس.وهكذا يندفع جيل إعلامي جديد للاستكشاف الحقيقي للعالم الجديد بدلا من المشي على الطرق المعروفة، وعدد مضاف من الصحافيين لإطلاق منافذهم الإعلامية في "صحافة المايكروخبر" كما يعرض كتاب يحمل الاسم نفسه "مايكروخبر- المغامرات الرقمية في وقت الأزمات"، الذي اشترك في إعداده إيفا دومينغيز وجوردي كولومي.

ويقول نعمة إن ايفا دومينغيز تتوقع أن تنفذ وسائل الإعلام أكثر إلى صحافة "المايكروخبر" الأمر الذي يحول المشاريع الشخصية من قبل المواطن الصحافي والأخرى التي يطلقها الصحافيون الذين فقدوا عملهم نتيجة الأزمة المتصاعدة، إلى مشروع يدر مقابلا ماليا.وتؤمن هذه الصحافية الإسبانية التي درست الإعلام، بأن التعليم الجامعي اليوم بات ميتا، حيال التحرك المطرد لإعلام المواطن، ويجب أن ينظر إليه على أنه مجرد أداة للتحفيز لا أكثر للتخلص من التوتر الذي تسببه المناهج التعليمية التقليدية، لكنها تثق تماما بأن الوقت كفيل لإطلاق حلقات دراسية تعيد دراسة المشاريع الصغيرة للمواطن الصحافي. صحافة "المايكروخبر" منشغلة بتطوير أدواتها ومحتواها في آن، ولا تبدو مهتمة كثيرا بالسباق بين الورقي والإلكتروني، هي معلم صبور بامتياز تماما مثل صبر الكمبيوتر على مستخدمه، مكتشفة بشكل تلقائي للمواهب، ومشجعة على الاعتقاد بأن المستخدم قادر على العطاء وليس لعب دور المُستقبل من الإنترنت .النموذج الجديد أدار ظهره للأدوات التقليدية في الصحافة، بعد أن حبس أصحابه أنفسهم مع الأفكار والأقلام والأوراق، وهو يترقب أن يحمل ماركته التجارية قريبا، فهل نسينا كيف انطلق فيسبوك، ليصبح بعدها بهذا الثراء؟.

ويثير نعمة قضية الصحافة ما بعد الإنترنت موضحا أن "الحياة برمتها من دون إنترنت اليوم أشبه بصورة متحفية تثير التأسي !الإنترنت أداة حياتنا اليوم في العمل واللهو معا، لكن الصحافة أسوة ببقية شؤون العالم كانت مستفيدة من هذا الابتكار المذهل، وبقدر أقل متضررة إلى حد ما.ومناسبة هذا الكلام هو ذكرى إعلان السير تيم بيرنرز لي في مارس من عام 1989 فكرة نظام الويب المعتمد على ربط نظام المعلومات للمساعدة في ربط عمل عدة آلاف من العلماء والباحثين والإداريين في سيرن “البيت الأوروبي للأبحاث النووية".

ويتابع إن "مكتشف “الويب” طور مقترحه إلى عمل وبحلول عام 1990 وضع أول خادم لصفحات الويب، وكان أول متصفح الراحل ستيف جوبز مؤسس شركة أبل حيث أطلقت أول صفحة في السادس من مايو 1991 عن مركز الأبحاث الأوروبي “سيرنinfo.cern.ch وأراد تيم بيرنرز لي أن يصبح الويب أداة قوية في كل مكان لأنه بني على مبادئ المساواة، لكنه عبر لاحقا عن خشيته من تلاشي هذا التنوع عبر تهديده بطرق مختلفة. ولم يكن بمقدور أي ذهن آنذاك تخيل التنوع والوجود المطلق والوظائف التي تقوم بها شبكة الإنترنت اليوم.والصحافة تكاد تكون ثيمة ما يعرض اليوم على الشبكة، بعد كل تلك السنوات من التجريب والعمل، لم يعد الصحافي وحده من يمتلك المعلومة ليطلقها للقراء. الإنترنت أنهى هذا التفرد وأنزل المحرر من برجه العالي ليكون المستخدم شريكا له من هاتفه المحمول .فكل الذين يعملون على الإنترنت يمارسون بطريقة أو بأخرى عملا صحافيا في تقديم وعرض المعلومة والصورة عن أنفسهم أو نتاجهم أو ما يحيط بهم.أو بتعبير كاثرين فاينر رئيس تحرير صحيفة الغارديان، يعتبر انتقال الصحافة الورقية إلى الرقمية، أشبه بالتحول من الحالة الصلبة التي تقدم الكتب والصحف المطبوعة إلى التدفق الحر في حالة سائلة، مع إمكانيات لا حدود لها وبسرعة هائلة تكاد لا تصدق.

ويؤكد أن الإنترنت دمر التسلسل الهرمي الذي كان يضع المحرر في مستوى مرتفع عن القراء، وكان في أفضل الأحوال يعرف علاقته مع القراء عبر الرسائل التي يتلقاها منهم وقد ينشرها أو يرفضها.وما يثار اليوم هو قدر كبير من حرية الإنترنت وخصوصية معلومات المستخدم وسعي الحكومات إلى اختراق هذه الخصوصية، وكأنها تدخل غرف نوم الأشخاص، بينما ثمة جانب يهدد أسلوب صحافة كان سائدا لقرون على أنها المصدر الوحيد لبث المعلومات. إن الصحافيين ووسائل الإعلام باتوا يدركون أن شبكة الإنترنت وصلت إلى مستوى من النضج كأداة ديمقراطية حيث يصبح من المستحيل السيطرة عليها أو حصرها بفئة أو جهة أو حكومة معينة. الكل شركاء في صناعة المعلومات، ولهذا يبدو البشر مهددين بكم هائل من المعلومات يفوق قدرتهم، ويولد ضغطا عليهم.

ويرى أن الصحافة هي أداة كل من يستخدم الإنترنت، ولم تعد “مهنة” الصحافي وحده، فالتلميذ صحافي بشكل ما وهو يقدم صورة عن نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي، والرجل المتقاعد صحافي عندما يشارك بوجهة نظره في المدونات، وربة البيت صحافية وهي توصل إلى معارفها طريقة مصورة لعملها في المنزل والمطبخ… كذلك بات على الصحافي أن يعيد رسم دوره في زمن رقمي متسارع، أنهى حصر المعلومة بين أصابعه، فالقلم ليس أداة الصحافي اليوم.
--------------------------
تقرير - محمد الحمامصي






اعلان