17 - 07 - 2024

بعد وجع البعاد لاشىء يهم (من بكائية إحسان إلى هويدا صالح وأخوات الفقد)

بعد وجع البعاد لاشىء يهم (من بكائية إحسان إلى هويدا صالح وأخوات الفقد)

 ما أقسى أن تستيقظ صباحًا فتمدُّ عينيك على من تعوَّدت أن تستمدَّ شعاع الشَّمس من نظرةِ عينيه؛ فتجدُ شمسَه قد كسفتْ عنكَ! وألَّا تنامَ إلَّا بعد أن تُشبعَ عينيك في قمرهِ؛ فتجدُه قد خسفَ بعيدًا! واعتدت ألَّا تطربَ إلا لتطريبِ صوته؛ فتلتمس صباحاتك المشرقة؛ فإذا بالصَّوت المفعم بحياتك قد غار، وما أشدّ مرارةَ أن تفتحَ مسامعكَ بعد دعواته المسائيَّة فلا تسمع إلَّا نهام البوم، ونعيق الغربان، وطنين ذباب الموت! 

ولاشكّ أنّ "وجع البعادِ" أشدّ قسوةً من الموت؛ فالموت تسليم واستسلام، وقدر محتوم، وتناسٍ وغفرانٌ، ولكن وجع بعاد حبيبٍ غادرَ يتركُ طعم الحنظلِ في الحلق، ووخزة قلب وإحساسًا بخفّة الوجود، وتفاهة الأشياءِ؛ فتخرج حشرجات صوتك ممزوجة بدموع عينيك وأنين قلبك؛ فتصرخ مع ميلان كونديرا :لاشيء يهمّ! 

وتتعدد اختيارات الأسى، ويتردد صداها في جوانحك؛ فتجد وجع البعاد أقساها تأثيرًا وأمضها أثرًا.

ومن ثمّ جاءت عناوين رواياتنا العربية كاشفة عن "وجع البعاد"؛كما كتب يوسف القعيد، و"لاشيء يهم" كما كتب قبله إحسان عبدالقدوس، و"الباقي من الزمن ساعة"  عند محفوظ" ...إلخ.

ولكن بعد استقراء عدد غير قليل من الرّوايات النّسويّة الجديدة، لاحظت سيطرة الإحساس بالفقد عليها، تعبيرًا عن انكسار الذات الأنثوية أمام وحشية العالم الذي رسم خريطته القبيحة أطماع الذكور ، وحروب الذكور ، وشرور الذكور، فأحست أنثاه بهشاشة العالم من حولها؛ فتجلّى ذلك في حكي شهرزاد .

    وقد عرَفَ السّردُ النّسويُّ العالميُّ مجموعةً من السَّاردات اتّسم إبداعهنّ بالإحساس بالفقد؛ كالإنجليزية سارة كين(1971-1999م) التي برزت عندها هذه النّزعة،وانعكست على سردها في الخطاب والحكي. وتجلى في تركيزها على آلام الجسد، وعذابات الروح، ومهاجمة الموت لشخصياتها.

وأوصل هذا الإحساس الإنجليزيّةَ كريستين أنجو(1959م-) إلى رؤية الدّم في كل شيءٍ حولها،كما لزم هذا الإحساس الفيتناميّة ليندا لي(1963م-   ) وانعكس على سرودها. 

ويمكننا أن نلحظ ذلك بتحليقة طائر، بنسب متفاوتة،عند أمينة زيدان، وهويدا صالح، ونهلة كرم في مصر، ولطفية الديلمي،وعالية ممدوح  في العراق، ومها الحسن في سوريا،وعلوية صبح،وجنى فواز،وبسمة الخطيب في لبنان، وفاتحة مرشيد، وزهور كرام، وزكية خيرهم في المغرب، وآمال مختار في تونس،وبدرية البشر في السعودية، وبثينة العيسى في الكويت، وجميلة عمايرة في الأردن، وغيرهنّ كثيرات. 

ولعل الأنثى  الساردة كانت أكثر إحساسًا بهذا الفقد؛ لما تتسم به من عاطفة حادة، جعلت النكبات العامة والخاصة تمزقها جسديّا وروحيّا جراء فجيعتها في وطنها، وأبيها، وزوجها،وأخيها، وولدها، فضلا عما تجده من عنف ذكوري غير مبرَّر، وتهميش موروث لم تستطع الحضارة الحديثة ولا ثقافتها المميزة، وما تسنمته من مراكز مهمة أن تنقذها منه، أو تقلل من حدته، إلا في حالات نادرة، سرعان ما ينكشف بعدها ضعفها،وزيف ما وصلت إليه، وسطحيته متى ما تعرّضت لهزة عنيفة، وما أكثر الهزّات التي تواترت على قلب المرأة العربية المعاصرة وروحها!إنه الإحساس بالفقد؛ مما جعلها تصرخ طالبةً،على حد قول مها الحسنّ: "تعويذة للرَّحم"  وبتعبير هويدا صالح:"تعويذة لرحيل قادم،وفقد محتوم".

رفقًا بالقوارير أيها الرّحماء! وابتسم كل يوم... ليس لكونك ربحتَ، بل لأنك لم تفقد. اللهم إنَّا نعوذُ بك من السَّلب بعد العطاء، ومن السُّخط بعد الرّضا!
------------------------
بقلم: د محمد سيد علي عبد العال

(أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة العريش)
من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ