16 - 08 - 2024

أيهما أفضل مع صندوق النقد ؟

أيهما أفضل مع صندوق النقد ؟

إذا سلمنا جدلا أنه لاخيار ولا مفر من الاقتراض من صندوق النقد الدولي ـ وهذا أمر محل نظر واختلاف ـ فالسؤال الذي أطرحه الآن على ضوء تجربتي مصر وتونس هو : أيهما أفضل في التفاوض والتعامل مع الصندوق: نظام حكم تخضع فيه السلطة (رئيس الدولة والحكومة) للمساءلة والنقد والمشاركة ويقوم على هوامش معارضة واحتجاج قوية ومساحة أكبر من الشفافية .. أم نظام يقوم على حكم الفرد و"الحكومة القوية " نافذه الكلمة والقرار في الداخل دون أن تعبأ بمعارضة في برلمان أو من المجتمعين السياسي والمدني أو في الشارع والصحافة ؟.

 والمقارنة بين مصر وتونس اليوم والأمس ليست أمرا مصطنعا، أو لاعتبارات ذاتية محضة باعتبار أن كاتب المقال صحفي مصرى يتابع الشئون التونسية منذ ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 يناير 2011، ولطالما زار تونس بعدها وأقام مراسلا بها "للأهرام" بين 16 و 2018 . فصندوق النقد الدولي أعلن في منتصف هذا الشهر (أكتوبر 2022) عن التوصل الى إتفاق جديد يستغرق تنفيذه عامين لإقراض الحكومة التونسية 1,9 مليار دولار.وبعد أقل من أسبوعين وفي 27 أكتوبر عاد وأعلن إتفاقا آخر جديدا مع الحكومة المصرية يستغرق 46 شهرا بقرض يبلغ ثلاثة مليارات دولار. وهي قبل هذا الإعلان والاتفاق ثاني مقترض من الصندوق بأرقامه وبياناته المنشورة على موقعه، وبعد المقترض الأول (الأرجنتين). 

في تاريخ البلدين خبرات قاسية مع اتفاقات الإقتراض من صندوق النقد الدولي والتفاوض معه وبشأن شروطه وإملاءاته، وبينها رفع أسعار السلع الأساسية جراء تخفيض الدعم. في مصر اندلعت انتفاضة شعبية في 18 و 19 يناير 1977. وفي تونس وقعت انتفاضة مماثلة نهاية ديسمبر 1983 ومطلع جانفي ( يناير ) 1984. واضطر حينها الرئيسان  "السادات" و" بورقيبة" لإعلان التراجع عن رفع الدعم والأسعار، وإن سارا وخلفاهما " مبارك" و"زين العابدين" على نهج الرفع التدريجي والمراوغ.

 مع إتفاق أكتوبر المصري هذا العام ، صحب الإعلان تخفيضا رسميا للعملة الوطنية ( الجنيه) أمام الدولار الأمريكي بنسبة 15 في المائة. وأدى فورا إلى ارتفاع حاد في الأسعار يلحق الضرر بالمصريين  ويزيد معاناتهم المعيشية، وبخاصة الفقراء والطبقة الوسطى. وسبقه في مارس الماضي تخفيض مماثل وبالآثار ذاتها، وبينهما تخفيض تدريجي لقيمة الجنيه. وهو ما ينكأ ويعيد ذكرى تعويم العملة الدرامي مع إتفاق نوفمبر 2016 مع الصندوق. لكن هذه المرة سبق الإتفاق الجديد بيع غير مسبوق لشركات عامة استراتيجية في الصناعات المصرية كالحديد والصلب والفحم والألومنيوم، فضلا عن رهن أصول مهمة من مقدرات البلد وعائداتها للأجانب، وبخاصة من الإمارات والسعودية وقطر.

 ومع إتفاق أكتوبر التونسي هذا العام، جرى تجنب إعلان تخفيض رسمي لقيمة العملة الوطنية (الدينار) أمام الدولار. وهو ما نجحت فيه حكومة سابقة مع قرض عام 2016، على خلاف الحالة المصرية في المرتين. وفي كل الأحوال، يتضح أن الدينار التونسي انخفض بمعدلات أقل كثيرا من الجنيه المصري. ففي عام 2015 كان الدولار الأمريكي الواحد يساوى رسميا نحو 1,9 دينار و نحو 7,2 جنيها مصريا . واليوم في 29 أكتوبر 2022 بلغت قيمة الدولار ورسميا أيضا نحو 3,2 دينارا و 23 جنيها. واللافت أن انخفاضا نسبيا طرأ مؤخراعلى قيمة  الدولار في تونس بعدما بلغ  3.3 دينارا في 10 أكتوبر 2022 . وهذا على الرغم من الإعلان عن الاتفاق الجديد مع الصندوق. 

بين عامي 16 و 2018 كان يمكنني أن أقارن من تونس ومع متابعة أحوال أسرتي وبلدي مصر، الفارق في مستويات أسعار السلع والخدمات الأساسية، والتي كانت أكثر "رحمة بالتونسيين". وأيضا بين كيفية ونسب رفع الحكومتين هنا وهناك لأسعار سلع مهمة كالوقود. كان هناك فارق واضح بين أسلوب " الصدمات" في مصر و " التدرج والحذر" في تونس. ومع هذا، فإن إعلاما موجها في بلدي بدا وكأنه مع كل "صدمة " عندنا يروج ولو بالافتراء والمبالغات والتضليل لأن تونس تنهار اقتصاديا وعلى وشك الإفلاس، وأن معاناة المواطن التونسي معيشيا تفوق المصري. وأيضا وكأن "مايسترو" يوجه ببث هذه الافتراءات والمبالغات والضلالات من أجل الاستهلاك المحلي في مصر، وأيضا بشهوة الانتقام من كون الثورة التونسية كانت الأولى والرائدة، و بمثابة الشرارة لاندلاع الانتفاضات و الثورات في مصر والعديد من المجتمعات العربية الأخرى.

 وخلال هذه الفترة كذلك، أدركت من خلال نقاشات جرت بيني وعدد من رموز النخبة في تونس، وبما في ذلك خبراء ومسؤولين مختصين بأحوال الاقتصاد والمال، أن " النموذج المصري" في الحكم والاقتصاد السياسي بعد صيف 2013 بدا جذابا وملهما. ولم يكن الأمر يتعلق بالأساس وفقط بالحديث عن المشروعات الكبرى للطرق والكباري والعاصمة الإدارية. بل في أن في القاهرة حاكما وحكومة يتمتعان " بالقوة" ـ أي  بسلطة ليست محل معارضة أو محاسبة ـ تجعل بالإمكان أكثر المضى في تنفيذ ما يسمى بسياسات "الإصلاح المالي والاقتصادي" المطلوبة والمقترحة من جانب صندوق النقد والبنك الدوليين. وبالطبع كان في هذا  الحديث التونسي سخط على معارضة "اتحاد الشغل" وقوى داخل البرلمان وفي الصحافة  وقطاعات المجتمع المدني تعرقل "تفويت"/ خصخصة  شركات القطاع العام. وبخاصة تلك التي ينظر إليها بأنها " فاشلة وخاسرة"، ودون التمعن في إمكانية إصلاحها أو دراسة لأسباب هذا الفشل والخسارة. وكان أيضا هناك سخط على مساحة الحريات التي تحظي بها تحركات المواطنين في الفضاء العام بالميادين والشوارع طلبا للحق في العمل ولما أسموه " تحميل الدولة والحكومة مسؤولية ايجاد فرص العمل والحفاظ على زيادات في المرتبات للعاملين تثقل كاهل الميزانية وتشل يدها عن الاستغناء عن أعداد زائدة عن الحاجة".

 هذا القطاع من النخبة التونسية  ـ ومن بينهم أصدقاء أعزاء ـ في العادة لا يقدم نفسه بالإعلان عن الانتماء صراحة لأيديولوجية "الليبرالية الجديدة" في الاقتصاد مع عدم الاكتراث بالتحول سياسيا ومجتمعيا نحو الديمقراطية. بل في نظر هذا القطاع فإن "الديمقراطية" جلبت إلى تونس بعد ثورتها "الحكومات الضعيفة " و "الفوضى" وعجز الإدارة عن اتخاذ "قرارات مؤلمة" لكنها ضرورية لتعافي الاقتصاد و" خلق الثروة" واجتذاب الاستثمارات. ولذا كان الانبهار والإعجاب الذي سمعته هناك عن "القوة والقرارات الجريئة" لرئيس الدولة في مصر وحكومته، وحتى لو انحسر هامش الحريات وغابت المعارضة والسياسة وفرص النقاش حول القرارات والخيارات والأولويات، وتم إضعاف المؤسسات، وتقويض المجتمع المدني.

 ولاحقا لم يكن خافيا على المتابع للشئون التونسية أن هذا "النموذج المصري" مجسدا في حكومة وسلطة "قوية"على هذا النحو ظهر وتجلى في تعبيرات مؤيدة وداعمة لإنقلاب الرئيس التونسي "قيس سعيد " من داخل دستور 2014 ثم عليه اعتبارا من 25 جويلية ( يوليو)، وذلك طلبا  "لرئيس قوي" واسع الصلاحيات وشبه مطلق السلطات، ورغبة في إنهاء مرحلة الحكومات الائتلافية الموصوفة عندهم "بالضعيفة" والبرلمان المتعدد القوى الحزبية والنفوذ المؤثر للنقابات والمجتمع المدني، وغيرها من منتجات التحول إلى الديمقراطية بعد الثورة.

 بالعودة إلى اللحظة الراهنة في تونس ومصر ومع تنامي الشعور بين قطاعات واسعة من المواطنين هنا وهناك بتعاظم الأزمة الاقتصادية والسياسية وبالعودة للإقتراض من الصندوق دون تحسن مؤشرات المعيشة يصبح السؤال / عنوان هذا المقال ملحا: أيهما أفضل في التفاوض والتعامل مع صندوق النقد وجهات الإقراض الدولية : حكومة توصف من البعض بـ" الضعف" في الداخل، لكنها أكثر تأثرا واستجابة لضغوطه واحتياجاته وأكثر قدرة على مقاومة ضغوط صندوق النقد وأخواته والخارج وعندها هامش مناورة لمواجهة شروط الصندوق وعلاجاته " القاسية الصادمة"، والتي يتضح أنها لاتضمن شفاء للاقتصاد ولا المالية.. أم حكومة توصف من البعض "بالقوة" في الداخل وتعمل في بيئة غير ديمقراطية تصادر الحريات والسياسة والمجتمع المدني وتنفرد بالقرارات ودون دراسة أو محاسبة ورقابة من برلمان أو مجتمع مدني أو صحافة حرة مستقلة، لكن يتضح أنها ضعيفة في المفاوضات مع صندوق النقد وأخواته؟

 على هامش التجربة المصرية، لدينا اعتراف طريف في الموقع الإلكتروني لهيئة الاستعلامات الحكومية ـ الموكل إليها ملف الدعاية الرسمية والتعامل مع مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية ـ حين يذكر أن المفاوضات تعثرت مع صندوق النقد الدولى من أجل الاقتراض خلال عهدي المجلس العسكري والرئيس الدكتور "محمد مرسي"، ولم يتم التوصل إلى إتفاق. ولم تفصح الهيئة عن كون الحكومات وقتها كانت عرضة لضغوط الداخل أكثر من الاستجابة لضغوط  الخارج .

 وفي صميم التجربة التونسية اليوم وحيث لم يتم بعد "تفويت" / خصخصة شركة أو موسسة عامة واحدة منذ الثورة وبحلول يوم 23 أكتوبر 2022،  صرحت مديرة صندوق النقد " كريستنيا جورجيفا" في لقاء مع قناة " سكاي نيوز " الإماراتيه :" أننا كنا نتطلع إلى أن تعمل تونس على خصخصة بعض المؤسسات لكن المبادرة جاءت من الجانب التونسي، حيث أبدى رغبة في خصخصة بعض المؤسسات العمومية ..وهذا إنجاز مستحق بامتياز للحكومة التونسية". وفي يوم هذا التصريح نفسه، أعلن بيان لحزب العمال اليساري التونسي عن سابقة أخرى. وهي اعتقال ثلاثة من أعضائه في شوارع مدينة القيروان خلال توزيعهم بيانا سابقا للحزب ضد غلاء الأسعار مع مواطن رابع كان يقوم بتصوير استخدام قوات الأمن للعنف اثناء عملية الاعتقال هذه.  

 ولعله من المفيد أيضا أن نذكر هنا أنه قبل شهور عديدة أعلن الرئيس التونسي "قيس سعيد" عن لجنة تحقق وتفحص في كيف جرى إنفاق اموال الديون الخارجية على مدى السنوات التالية للثورة ، وبينها بالطبع قروض صندوق النقد؟ وإعلان النتائج على الرأي العام في بلاده، ملمحا إلى شبهات فساد. لكن لم يتم الإعلان عن شيء لليوم. بل وشكت العديد من القوى في تونس ـ وبينها اتحاد الشغل ـ من أن المفاوضات  الأخيرة جرت مع صندوق النقد الدولي هذه المرة بدرجة أعلى وأشد من السرية. وهي مازالت لليوم تطالب بالكشف عن بنود الإتفاق كاملة.وللأسف في الحالة المصرية، يبدو أنه ليس بالإمكان لا المطالبة بهذا ولا ذاك وبهذا الإلحاح والثقة في الطلب .

.. ويظل السؤال في الحالتين التونسية والمصرية معا: أيهما أفضل مع صندوق النقد الدولي ؟. وهذا إذا سلمنا بأن الاقتراض والاستدانة من الخارج، وعلى هذا النحو و من هذا الصندوق، هو الخيار الوحيد والأفضل.
--------------------------
بقلم: كارم يحيى
من المشهد الأسبوعية 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال