19 - 06 - 2024

بهاء طاهر حين يبوح لهالة البدري: رفع يوسف السباعي شعار "من ليس منا فهو ضدنا" فعشت أصعب سنواتي

 بهاء طاهر حين يبوح لهالة البدري: رفع يوسف السباعي شعار

كاتبة شابة انتظرها وأصدقاؤه الكبار لأكثر من ساعتين في مطار أوروبي
البحث هو الرحلة .. حين يتوقف تنتهي الحياة!
- أشياء مشتركة في غاية الغرابة، وجمل بعينها متطابقة بين "أنا الملك جئت" و"الخيميائي" رغم أن الأولى سبقت بثلاث سنوات
- طه حسين أكثر الناس تأثيراً في حياتي ومازلت أتعجب لروايته "أديب" ..كيف يستطيع كاتب يرى ببصيرته لا بصره أن يكتب مثل هذا الوصف البديع
- للعمل الأدبي قوة داخلية بعيدة عن الفهم والتفسير، قادرة على التغلغل داخل الإنسان بعيدا عن العقل يمكن أن نسميها موسيقى داخلية 
- لا أحد يعرف الحب الحقيقي .. هو مثل الحالة التي يصفها الصوفية للحلول. الإنسان يحيا في هذه العلاقة، وكل الحاجات الأخرى مظاهر زائفة

حقق الكاتب الكبير بهاء طاهر منذ عمله الأول، مكانة بين كتاب جيله في الستينات من القرن الماضي قلما وصل إليها كاتب بهذه السهولة. عرفته من خلال أعماله ككاتب كبير قبل أن ألتقي به حين عاد ذات صيف من الخارج في عطلة بعد أن ترك مصر بقرار سياسي برفته من إذاعة البرنامج الثاني دون الإشارة إلى السبب ، وقد سمى هذه السنوات سنوات التشرد لسياحته في بلاد عديدة بحثا عن عمل، وعلى الفور نشأت صداقة بيننا قوامها الرعاية منه والإعجاب مني بكتابته وبشخصه النبيل الراقي شديد الوضوح في أفكاره ومواقفه في كل تصرف. يقف على يسار النظام - أي نظام - معارضًا له داعمًا لمطالب أهله وناسه، يهتم بما أنشر ويعلن إعجابه به ببساطة تذهلني يقول رأيه في كلمات قليلة نافذة يتابع ندواتنا نحن الجيل التالي له جيل السبعينات لا يقلقه نجاحنا على العكس يعضده بالرأي المعلن في ندواتنا وما نطرحه في كتاباتنا ، لا يتدخل أبدا فيما لا يعنيه ويختصر الأمور إلى الهدف الذي يشاء. 

وأذكر لكم مثالا بسيطا على تواضعه وحسن رعايته لمن هم أصغر منه وأقل خبرة ككتاب:

 كنت قد دعيت إلى شاتو دي لا فيني في مدينة جنيف التي يقيم بها الكاتب الكبير بهاء طاهر حيث يعمل مترجما في الأمم المتحدة هناك وهي دعوة تتيح للكاتب التفرغ لمدة شهر في قصر يملكه الناشر الألماني الشهير"هنريش روهلت"،  مع ستة من الكتاب من كل أنحاء العالم لكي ينجز عمله في هدوء وراحة، وحين نزلت إلى المطار فوجئت به ومعه العديد من الكتاب المصريين وأعضاء السفارة في انتظاري، من بينهم زوجته الجميلة ستيفكا والكاتب الراحل جميل عطية إبراهيم وزوجته روت والراحل أيضا المترجم محمد مستجير والكاتب محمد توفيق وزوجته دكتورة أماني أمين و الكاتبة الكبيرة د. فوزية أسعد ود. فائزة سعد، والمستشار الثقافي بسيمة، وغيرهم من الكتاب والشخصيات المصرية التي لم أكن قد تعرفت عليها بصفة شخصية بعد ، وكنت قد كففت منذ زمن طويل عن انتظار أحد في المطارات، وأراه مشقة هائلة لا ضرورة لها، ومع تعطل طائرتي لساعتين قبل إقلاعها من مطار القاهرة، هل تتخيلون كاتبة شابة ينتظرها بهاء طاهر مع أصدقائه في مطار أوروبي بعيد عن وطنها ، أظن أن هذا الحادث قد أثر بي مدى الحياة وأحمد الله أنه وهبني مثل هذه الصداقة العظيمة العميقة مع الكاتب الكبير بهاء طاهر 

 حاورته عدة مرات وكتبت عن أعماله حبا في مستواها الفني الراقي وأعيد نشر هذا الحوار الذي دار بيننا في عام 2005 ونشرته صحيفة الخليج تقديرًا له وللمحبة التي تدوم حتى لو أنه امتزج بالنور الآن وفارقنا جسديًا.

بهاء طاهر: البحث هو الرحلة  

هدوءه الظاهر، يخفي فوراناً داخلياً، تستشعره، وأنت تقرأ أعماله مغلفاً بكثير من الحكمة والصبر والقدرة على ضبط النفس، حتى أن ألمه الذي يخفيه ويسميه حزناً يشع من أعماله كلها بلا استثناء. له قدرة على اكتساب الناس بسهولة، يتفق عليه الجميع حتى لو كانوا أضداداً. يخط طريقة بالحفر البطيء دون ضجيج فتحترم خياراته. هو بهاء طاهر القاص والروائي، المذيع والمترجم والمخرج الإذاعي أيضاً. عمل نائباً لرئيس البرنامج الثقافي في الإذاعة المصرية، ومترجماً حراً بعد إبعاده السياسي عن الإذاعة، ثم مترجماً محرراً في الأمم المتحدة بجنيف لسنوات طويلة. كتب العديد من الروايات والقصص منها "أنا الملك جئت"، "خالتي صفية والدير"، "ذهبت إلى الشلال"، "الحب في المنفى"، "الخطوبة"، "نقطة النور". وأيضاً كتاب "في مديح الرواية"، ومن ترجماته "الخيميائي" للكاتب البرازيلي باولو كويللو. ترجمت أعماله للعديد من اللغات، وهو متفرغ الآن للكتابة.

التقيته في القاهرة وأدرت معه هذا الحوار المفتوح في يوليو 2005:

* قلت له أراك مشغولاً هذه الأيام بالاشتراك في نشاط المعارضة والمطالبة بتغيير الدستور في مصر لاختيار رئيس الجمهورية.

-قال: أنت تعطينني أكثر من حقي. أنا فقط مشترك في محاولة عمل تجمع للأدباء بقصد أن يكون للأدباء والمثقفين دور في هذه الفترة التي تتعالى فيها الأصوات من أجل الإصلاح والتغيير .. في هذا الوقت لابد أن يكون للمثقف دور وصوت في الديموقراطية، فإذا كانت كل الاتجاهات الأخرى: النقابات المهنية، والتجمعات السياسية تعمل هذا الدور، فمن باب أولى أن يكون للمثقفين دور، حتى ولو كان دوراً متواضعاً، بأن يقولوا رأيهم فيما يدور .. أليس كذلك؟

* إلام وصلتم الآن هل تمكنتم من عمل هذا التجمع؟

- أعتقد بالفعل أن هناك تجمّعاً تحت اسم "كتـّاب ومثقفون من أجل التغيير". وهو يضم فنانين تشكيليين، وسينمائيين وكتـّاباً، ومجموعة كبيرة من العاملين المبدعين في كل الحقول.

* هل يتم هذا من خلال نقابة الصحفيين؟

- ليس لنقابة الصحفيين شأن .. ومازلنا نبحث عن مكان.

* ما رأيك فيما يحدث في الشارع المصري؟ هل تعتقد أن هذا ينتج عنه تغيير، أم أنها ستكون فترة فوران، وتنتهي إلى لا شيء، وتستتب الأشياء كما كانت عليه؟

- المرجو أن تلتقي هذه التجمعات التي تحدثنا عنها في النقابات المهنية، وبين المفكرين والصحفيين والمبدعين على بلورة رؤية معينة عن شكل التغيير المرتقب ومضمونه، وأن هذه الرؤية التغييرية تتم بصورة سلمية وديمقراطية. فلا أحد يسعى إلا لذلك، أن يتم التغيير - بصورة ديمقراطية وسلمية - نحو مزيد من الحريات والعمل المشترك لمصلحة هذا الوطن، فلا يريد أحد طموحاً شخصياً ولا حتى طموحاً حزبياً .. الكل يلتقي على الرغبة في أن يكون هناك تغيير ديمقراطي من أجل صالح هذا الوطن لا من أجل صالح فئة أو من أجل صالح حزب ..

* أين أنت من صدور "نقطة النور"؟

- في الحقيقة لست كاتباً غزير الإنتاج. أنتج كتاباً كل ثلاث أو أربع سنوات، والآن أعمل في كتاب، وعندما ينتهي سأنشره ولكن متى الله أعلم (ضاحكاً).

* وما نوع الكتاب؟

- رواية أيضاً.

* في "نقطة النور" حس صوفي، هل ينمو هذا الاتجاه عندك الآن؟

-حقيقة لا أعلم إذا كان هو حقاً صوفياً أم حس البحث عن يقين. تحدث الكثيرون عن وجود نزعة صوفية في الرواية، ولكل قارئ بالطبع أن يرى في الرواية ما يشاء، ولكن بالنسبة لي رأيت فيها - وهذا شيء يوجد في الروايات الأخرى منذ أن بدأت الكتابة - البحث عن اليقين، وهذا البحث أخذ في الرواية شكل الرغبة الكامنة عند الباشكاتب بطل الرواية في أن يكون متصوفاً، أي أنه يطمع في أن يكون متصوفاً، وهناك فرق كبير جداً بين الاثنين، وهو يعلم أنه ليس صوفياً، ولا يتمتع بمقومات الصوفي حتى أن ابنه يسخر منه، ولكن لديه مثل أعلى هو الشيخ أبو خطوة الذي تعرف به، وقد كان متصوفاً ومتصالحاً مع نفسه جداً، لهذا كانت لديه الرغبة في أن يصبح متصالحاً مع نفسه على غرار هذا الرجل لكنه لا يملك تلك المقومات. هو ممتلئ بالدنيا وبالحياة ويريد أن يقمع تلك الحياة التي بداخله لكي يصل إلى ذلك النقاء الصوفي.

في آخر حياته يتساءل: هل وصل أم فشل؟ وربما هناك شيء في الصفحة الأولى من الرواية ترد على هذا السؤال كله عندما يقول الحكيم له إن الرحلة نفسها هي المنتهى، وليست الرحلة لها نهاية معينة، فالبحث في ذاته هو النهاية والغاية، لذلك فإنني أرى أن الذي يقول إنها رواية صوفية ينزع إلى نوع من التبسيط الشديد للعمل .

* لم أكن أقصد أنها رواية صوفية، وإنما قصدت أن بها حسّاً صوفيّاً أو همّاً صوفيّاً وهناك فرق كبير، فهل هذا الهم الصوفي قد بدأ يغزوك؟

- في تصوري ليس هماً صوفياً، وإنما هَمّ البحث عن المعنى في رواياتي وقصصي. في "أنا الملك جئت" ستجدين أن هذا الموضوع يشغلني منذ بدء الكتابة، حتى في القصص القصيرة مثل قصة "اللكمة"، وكذلك في مجموعة "الخطوبة"، هذا المسعى في مجموعة القصص القصيرة "ذهبت إلى شلال"، "أسطورة حب"، فيها ذلك السعي، وربما هذا شيء مرتبط بالسن، الإنسان حين يصل إلى سن معين يفكر بين الحين والآخر عن معنى الوجود ويكون هذا السؤال الأساسي في فترة من العمر، وهذا بالنسبة لي شخصياً تطور طبيعي.

* ولكنك كنت مشغولاً منذ البداية بالوجود ولم يأت الانشغال بسبب السن؟

- منذ البداية نعم، ولكني كنت مشغولاً بقضايا أخرى أيضاً. أي أن هناك أهمية نسبية لقضايا معينة تظهر بين الحين والآخر .. وبالفعل في سن معينة تشعرين بأن الوزن النسبي للقضايا يتغير، فقضية البحث عن معنى الوجود لها أهمية كبيرة جداً وأعتقد بأن كل كاتب مسعاه - بصورة أو بأخرى حتى لو لم يتحدث عن الميتافيزيقا بأي شكل من الأشكال - إنه يعطي للوجود معنى فهناك من يقول إن كل القصص تنتهي بالموت مثلاً .. هل هذا يدل على أن فكرة الموت قد شغلته جداً .. أنا أنظر إلى رواية مثل "العجوز والبحر" ليس باعتبارها فقط صراعاً للإرادة، وإنما أيضاً باعتبارها بحثاً عن معنى: هذه أسماك القرش التي أكلت الصيد الذي اصطاده. شيء له مقابل في الوجود، فالزمن يأكل أشياء يهيأ لنا أننا حققناها، أو اكتسبناها. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الرجل لم يكن معنياً إطلاقاً بالقضايا الميتافيزيقية، ولكن لو نظرت إلى عمله نظرة أعمق تجدين بالفعل أن الهم الميتافيزيقي موجود فيه، حتى في كلمته إن كل القصص تنتهي بالموت - انشغال بالهم الميتافيزيقي.

* هيمنجواي نفسه اختار متى يموت بالانتحار. البحث هو الرحلة، والرحلة هي البحث، والرحلة هي الغاية في حد ذاتها.هل هذا هو ما أعجبك في (الخيميائي) ساحر الصحراء باولو كويللو؟

- هذا سؤال مهم جداً .. لقد كتبت مقدمة شديدة الوضوح لـ "ساحر الصحراء" وقلت فيها إنني عندما بدأت أقرؤه ألقيت على نفسي بعض التساؤلات: أولها: لماذا أقامت كل هذه الضجة؟ .. وقلت في التصدير الذي كتبته للطبعة الثانية، والتي صدرت مؤخراً، والتي تحدثت فيها عن المجد الخرافي الذي حققته هذه الرواية، إنه لا يكفي أن نقول إنها رواية تغازل الأماني الموجودة عند كل إنسان، وإنما لابد من وجود سبب أعمق لهذا النجاح الكبير، وقد تلاحظين أن هذا النجاح لم يتكرر بالنسبة لبقية الروايات الأخرى. فالروايات الأخرى تبيع على حس هذا النجاح الرائع للخيميائي. والرواية لا تتحدث عن الجنس أو السياسة وهي ليست رواية بوليسية وليس فيها عناصر التشويق التي تدفع الإنسان لكي يدفع بها إلى أن تكون "بست سيلر" الأعلى مبيعاً في العالم. كتبت في المقدمة أنها قد باعت 60 مليون نسخة وأن هذا أكبر عدد يباع لرواية، وأنها أكثر رواية برازيلية باللغة البرتغالية قد بيعت، ثم ظللت أفكر لماذا؟ وأعتقد أن هذه الرواية تحمل رسالة منعشة في جو خانق، فالحياة خانقة الآن، محبطة للإنسان من الضغوط الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية .. هذه الرواية تقول إن هناك أملاً، ويبدو أن الناس تريد أن تسمع تلك الكلمة فقط وتريد أن تصدقها حتى لو كانت تملك شكوكها، ولكنها تريد أن تصدقها. لذلك تجدين أن المعجبين بهذه الرواية تتفاوت مستوياتهم الثقافية .. هذه الرواية ناجحة باللغة الهندية والسويدية، وفي لغات أمريكا الجنوبية، وناجحة في أفريقيا، وأكثر مبيعاتها في جنوب أفريقيا .. كيف على كل تلك الثقافات المتباينة من أمريكا الشمالية، إلى أمريكا الجنوبية، إلى آسيا، إلى اليابان، إلى أفريقيا الجنوبية، كيف التقت كل هذه المشاعر الثقافية المتباينة على الإعجاب بهذا العمل إلا إذا كان يحمل رسالة مطلوبة بغض النظر عما إذا كانت قيمتها الفنية عالية، أو متوسطة، أو كبيرة، ولكنها رواية ظاهرة .. وظاهرة أشاد بها الناس من كل الثقافات التي ترجمت إليها، فلا ينبغي تناولها بخفة، ينبغي البحث والتفكير لماذا؟ وأنا قدمت إجابتي وقلت إنها تحمل أملاً في عصر خانق، ولا توجد أشياء كثيرة تفعل مثل هذا الآن .. بالعكس فالروايات العالمية كلها - بما فيها رواياتنا - يغلب عليها الاكتئاب (ضاحكاً).

* أنت كاتب حزين. هذا ما تصرح به وما نراه. وأنت من ترجم هذه الرواية وأنت مدرك أن سبب نجاحها هو التفاؤل، ومع هذا مازلت حزيناً ككاتب.

- نعم مع الأسف. ولكن لا يوجد أدب يلغي أدباً آخر. سنظل نحب كافكا، ونحب توماس مان وشكسبير، لكن هذا لا يمنع أن تكون هذه الرواية قد شقت طريقاً مختلفاً ووصلت للقارئ وعلينا أن نسلم بهذا، وربما يكون تفسيري خاطئاً، وعلينا أن نبحث عن تفسير لهذا النجاح.

* هناك تقارب كبير في الكتابة بينكما خاصة في رواية "أنا الملك جئت" إذ إن بعض عباراتها تتطابق مع الخيميائي. ما تفسيرك؟ رغم أنك حزين وهو متفائل.

- كتبت روايتي قبله بثلاث سنوات، هناك أشياء مشتركة في غاية الغرابة، وجمل بعينها متطابقة، ولكن له مسلكه في البحث الذي يختلف عن مسلكي، فرواية "أنا الملك جئت" ليست متفائلة على الإطلاق، لكن دلالة الرحلة في الصحراء موجودة في البحث عن النفس وهي جوهر العملية. رغم اختلاف السعي ونتيجة البحث.

* في معظم الروايات الحديثة الآن لا نتيجة، النهاية مفتوحة. وهو عكس ما نراه في رواياتك التي توصلنا إلى نتائج مع بطلها.

- هذه ملاحظة نقدية أسمعها للمرة الأولى. أشكرك عليها. لكني أرى أن هناك درجة من الغموض مستحبة في العمل الأدبي ودرجة ممقوتة. وكذلك درجة من الوضوح مستحبة ودرجة ممقوتة، فلو استطاع الكاتب أن يجمع بين نوع من الغموض يدفع القارئ إلى التفكير والمشاركة ودرجة من الوضوح لا تجعل العمل لغزاً - يكون قد حقق أقصى ما يستطيع، لأن العمل الأدبي ليس تعليمياً وليس رسالة على غرار الرسائل الأخلاقية وليس لغزاً أيضاً. وإذا عدنا إلى كافكا الذي يوصف بالغموض فكل من يقرؤه يصل إلى فهم معين. وهناك عشرات، بل مئات الدراسات النقدية التي تحاول أن تشرح كافكا، والقارئ العادي لا يقرأ هذه الأشياء، وإنما يصل إلى ما يريد أن يصل إليه من كافكا. وبالطبع هناك تأثير الكتابة، فمن يقرأ مثلاً لشاعر مثل ت. اس. إليوت لا يفهم ثلاثين بالمائة أو أربعين بالمائة، ومع هذا تؤثر فيه القصيدة جداً. فللعمل الأدبي قوة داخلية بعيدة عن الفهم والتفسير، قادرة على التغلغل داخل الإنسان، يمكن أن نسميها موسيقى داخلية أو شيئاً يتسلل إلى النفس بعيداً عن العقل.

* أغرتني سلاسة الحديث أن أسأله عن أصوله الثقافية التي ساعدته على اكتشاف الكاتب في نفسه وهيأته للكتابة.

- أنا قارئ نهم، كل قراءة تترك أثراً في نفسي، والأعمال التي أحببتها لا نهاية لها، أول رواية قرأتها كانت من روايات الجيب، ومع الأسف لم يعلمنا أحد القراءة مثلما يحدث في التعليم في بلاد كثيرة، بل تعلمنا من التجربة والخطأ. قرأت "الحب الضائع" لطه حسين وعشقتها، وكنت أسمعه في الراديو وأقلد طريقته في الحديث وأسلوبه، وقرأت باقي كتبه، وأعتقد أن طه حسين من أكثر الناس تأثيراً في حياتي حتى هذه اللحظة، وله رواية أعشقها هي رواية "أديب"، ومازلت أتعجب كيف يستطيع كاتب يرى ببصيرته لا بصره أن يكتب مثل هذا الوصف البديع. ومن بعده اكتشفت "المازني" والكتاب الذين لا يعرفهم جيلكم، ومنهم "إبراهيم الورداني" وكان أعظم كتاب القصة القصيرة آنذاك وكاتب أحبه جداً هو "صلاح كامل"، ومحمد التابعي الذي أعترف أن أسلوبه هو مثلي الأعلى للكتابة. لأنك حين تبدئين قراءة جملة له، تجدين نفسك قد أنهيت الكتاب. هذه السلاسة الساحرة والأسلوب الذي يغري القارئ بالمتابعة ولا ينفره، وفي الأسلوب أيضاً تأثرت بابن المقفع صاحب البساطة والسلاسة الآسرة والذي إذا قرأه الجاهل ظنّ أنه يحسن مثله تلك البساطة الصعبة جداً. ثم جاءت مرحلة الجامعة التي تعرفت فيها على نجيب محفوظ وكان ينشر أعماله في خمسمائة نسخة وهي الأعمال العظيمة الأولى "بداية ونهاية، السراب، .." وقد دلني عليه صديقي مصطفى أبو النصر، ثم قرأت إحسان عبد القدوس، وأنا أحبه رغم وجود جيل يأخذه بخفة شديدة. وقد قرأت مسلسلاته في روز اليوسف ومسلسلات نجيب محفوظ في الأهرام، ومازلت أحب قراءة العمل مسلسلاً لمدة طويلة. وفي سنوات الخمسينات تأثرنا جميعاً بالأدب الوجودي: "ألبير كامي، سيمون دي بوفوار، جان بول سارتر" ومن حسن حظي أنني قرأتهم في لغاتهم الأصلية. وأكرر أنه لم يعلمنا أحد القراءة، لهذا أتمنى أن نعلم أولادنا القراءة وفق منهج يعلمهم الأصول المنهجية "شكسبير، موليير، جراهام جرين، .." حتى يُكوِّنوا ذائقتهم الشخصية بعد تكوين خلفية يتعرفون خلالها على تطور الأدب.

* قلت: مع الأسف نظامنا التعليمي توقف عند تيمور لنك وليس محمد تيمور، حتى نجيب محفوظ يدرسون له كلمته في حفل حصوله على جائزة نوبل، وليس أحد أعماله.

- قال ضاحكاً: لحسن الحظ كان لدينا في الثانوية العامة كتاب التوجيه الأدبي الذي اشترك في تأليفه: طه حسين، أحمد أمين، وآخرين. وهذا ما دلني على الأدب اليوناني القديم، ولهذا من أول أعمالي ترجمة المسرحية اليونانية "برومثيوس" لتقديمها في الإذاعة. أيضاً يجب أن أشكر "حلمي مراد" الذي أشرف على مجلة "كتابي" الشهرية، والتي لخص فيها أعمالاً أدبية وفكرية متعددة حتى أمير ميكيافيلي، ولكن لم تكن أيضاً تتبع منهجاً محدداً، كانت اختياراتها بالصدفة، الصدفة أيضاً قادتني لترجمة محمد عوض محمد البديعة لـ "فاوست"، وترجمة حسن عثمان لـ "الكوميديا الإلهية"، لا أعرف ماذا فعلت أنت.

* قلت: الصدفة أيضاً، ولكن الأعمال الكبيرة تقود إلى بعضها.

- نوعاً ما .. ولكن أليس من الأسهل إقامة مثل النظام التعليمي الغربي. أتعرفين أسماء الشعراء المعاصرين في الكتب المدرسية الحالية. أتحداكِ لو تعرفين واحداً منهم.

* قلت له إنني أجريت بحثاً عمّا يدرسه الطالب من الأدب العربي المعاصر حتى الثانوية العامة ووجدت كوارث. قصة "نظرة" ليوسف إدريس. وأسماء الشعراء فاروق شوشة، فاروق جويدة، وفي القسم الأدبي محمد عفيفي مطر اسماً لا شعراً.

- قال: ناهيك عن كارثة اللغة. انهيار كامل. لو أننا نريد مشروعاً قومياً بحق، فعلينا أن نركز على التعليم.

* نعود إلى تطور ثقافتك، ماذا عن الكتاب العرب؟

- عرفت في مرحلة الجامعة حنا مينا، عبد السلام العجيلي، فؤاد التكرلي، نهاد التكرلي، وشعر بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي الذي مازلت متأثراً به حتى الآن وعملته أحد شخصيات رواية "الحب في المنفى"، وقد تعرفت عليهم أولاً عن طريق مجلة الآداب البيروتية، هذا وقد ترك في نفسي الأدب التاريخي أثراً كبيراً مثل "ابن إياس، والجبرتي". وأذكر أنني جلست مع صلاح عبد الصبور وقررنا سد الثغرات في ثقافتنا، ولقد سددت بعض هذه الثغرات مثل قراءة المثنوي. لكن ما فاتنا في بداية عمرنا لم يؤهلنا أن نختار ما نميل إليه.

* قلت: اغتراب لمدة طويلة، ماذا حدث في صدمة العودة؟

- قال: تركت مصر في فترة حدثت فيها تطورات جسيمة في السبعينات بعد الانفتاح الذي أدى ليس إلى تغير اقتصادي، بل إلى تغير اجتماعي كبير جداً، وعندما رجعت لم تكن قيمة العملة وحدها التي تغيرت بل اللغة وطريقة التعامل بين الناس في الشارع والتجمعات، وكأنني عدت إلى بلد آخر، واحتجت إلى وقت طويل لكي أقرأ الواقع الجديد كأنني ذهبت إلى بلد أجنبي لا أعرفه. وحتى الآن لا أعتقد أنني قرأته القراءة الصحيحة، ولقد حاولت في رواية "نقطة النور" أن أتحدث عن التطورات التي أصابت أسرة متوسطة في السبعينات وحتى الآن. لا أعرف كيف يكون المخرج فهي أزمة متشابكة: اقتصادية، اجتماعية، نفسية، سكانية. لهذا حتى الآن رغم مرور عشر سنوات على عودتي مازلت أستشعر غربة وأتذكر كلمة لأبي حيان التوحيدي "ليس الغريب من فارق الدار لكنه من كان غريباً في الدار" ذلك أنني أشعر أحياناً بالعجز عن التعامل مع الناس لكني أسمع هذه الكلمة نفسها من جيلي، ويبدو أن هذه المسألة لا دخل لها بسفري أو رجوعي، بل لها علاقة بسرعة التغيير الفادحة.

* هل تشعر بالمرارة بسبب سرعة تغير المجتمع وانفصاله عنك وجيلك؟

- مرارة ومسئولية، ولقد كتبت هذا في "الحب في المنفى" يقول الشاب يوسف للراوي وهو من جيلي: لقد تخليتم عنا وقت أن كنا نحتاج إليكم. مسئولية جيلنا أن يعيد القيم التي اختفت إلى حد ما. وقد كانت هذه الفكرة هي محور كتابي "أبناء رفاعة، الثقافة والحرية" تحدثت فيه عن قيم المجتمع المصري الزراعي الثابتة عن التعاون والتنظيم الاجتماعي، ولا أعتقد أن قيماً عاشت سبعة آلاف عام تنهيها أزمة عاشت عشرين عاماً.

* قلت: في المجتمع الدولي الآن قيم جديدة أسميها "عبئ وأفرغ" شريط غناء يلعلع في السماء ثم ينطفئ، نجم يلمع ثم يختفي، كتاب يشتهر ثم ينسى، أفكار سريعة جذابة ثم انطفاء ليعود غيرها، أين أنت من هذا كله؟ 

- قال: أنت تلخصين الثقافة الاستهلاكية. الآن هي الثقافة السائدة في مجتمعنا برغم ضعف الإمكانيات، ونحن آخر مجتمع في الدنيا يصلح أن يكون مجتمعاً استهلاكياً لأن الناتج القومي يتيح حد الكفاف إذا أتيح توزيع عادل للثروة، لكن نتيجة للتغيرات الاقتصادية استقطبت الموارد بحيث تتيح للقلة استخدامها لكي تعيش حياة استهلاكية، وأغلب الناس يعيشون على حد الكفاف. ولا تنسي أننا 70 مليوناً. إذا تسللت الثقافة الاستهلاكية وعاش 10% أو 15% عليها فسيكون هناك سبعة ملايين مواطن مستهلك.

* قلت: ما هو سؤال الإبداع العربي الآن؟

- قال: سؤال الإبداع العربي كان منذ بداية النهضة هو التقدم، وما كان يعتبر تقدماً منذ خمسين عاماً نعتبره الآن طفرة. كان هناك حرية فكر، تعبير، مجتمع منفتح يقبل الفكر الجديد. وعلى سبيل المثال رؤية الإمام "محمد عبده" للدين والقيم الدينية الصحية التي تتفق مع روح الإسلام نعتبرها الآن طفرة بجانب الأفكار الظلامية السائدة والدعاة الجدد وهم ليسوا بدعاة على الإطلاق (ضاحكاً).

* هل الإبداع العربي مشغول بالفعل بهذا؟

- الذين يؤدون دورهم في هذا المجتمع الآن هم المبدعون، وأنا لا أقرأ عملاً أدبياً جديداً إلا وأجد فيه هذه الهموم، وليس كل عمل يتناول هموم مجتمعه ولكن زاوية منها. فمثلاً في كتاباتك تتناولين قضية المرأة من منظور التقدم فتتحدثين عن الظروف المؤدية إلى القمع، وعن إمكانيات الحرية. وهذه مهمة كبيرة، وعندما يكتب غيرك في رواياته عن إمكانية الإصلاح الاقتصادي بتبيان الخلل الاقتصادي الموجود فهذه رسالة من أجل التقدم. الآن تكتب روايات كثيرة عن الحياة في المناطق العشوائية والأصل أن تديني هذا. يقول تشيكوف: "أنا لا أكتب عن الأشياء المحزنة من أجل أن تبكوا عليها، ولكن من أجل أن تغيروها" هذا النوع من الكتابة هو رسالة احتجاج تريد للقارئ أن يغير هذا من أجل التقدم. المبدع يؤدي دوره ولكن المهم الاستجابة المجتمعية، لهذا لابد من وجود حرية إبداع، وحرية نشر، ونظام تعليمي يسمح بتذوق الأعمال والقدرة على فهمها.

* أريد أن أقترب من عالمك الشخصي، عملك، رحلاتك، حياتك.

- عملت بالترجمة في هيئة الاستعلامات قبل تخرجي، ثم مذيعاً ومخرجاً ومحرراً ومترجماً بالبرنامج الثقافي، ثم انتدبت إلى العمل في صوت العرب لمدة سنتين في فترة الوحدة مع سوريا وأنشأت برنامج "قصة عربية" وهو أول برنامج يعتمد على الإعداد الدرامي للروايات، وقدمت فيه ثلاثية نجيب محفوظ التي نجحت نجاحاً باهراً، ثم عدت إلى البرنامج الثاني بعد الانفصال وتدرجت في الوظيفة حتى أصبحت نائب مدير البرنامج الثاني في الفترة من 68 - 1975 حتى أبعدت عن العمل في عهد الراحل يوسف السباعي، ثم نقلت إلى وظيفة لم تكن موجودة في حينها ولم توجد حتى الآن اسمها مراقبة دراما في البرامج الأوروبية. قال هذا ضاحكاً بشدة رغم صوته الهادئ.

* كانت فترة الإبعاد صعبة؟                      

- جداً. خاصة من الناحية المادية. بعد أن رفع السيد الوزير شعاراً يقول: "من ليس منا فهو ضدنا".

* هذا شعار موجود دائماً.

- قالها في اجتماع، فقضيت خمس سنوات من الطواف في العالم باعتباري مترجماً حراً من سريلانكا إلى السنغال، إلى يوغوسلافيا فسيراليون. تحت الاستدعاء. حتى قبلت العمل في الأمم المتحدة في جنيف عام 1981 في وظيفة ثابتة حتى أحلت نفسي إلى التقاعد في عام 1995 وعدت إلى مصر.

* هل تعرف من أنت؟

- لو عرفت من أنا فلن يكون هذا شيئاً جيداً. فالبحث عملية لا تنتهي، حتى الكتابة هي نوع من البحث. والإنسان الذي يحيا وفي ذهنه أن الأشياء مكتملة يكون قد حكم على نفسه بالإعدام.

* ما هي أقرب صورة توصلت إليها عن نفسك؟

- هذا أصعب سؤال. لقد حاولت في الحياة، ومازلت أحاول. لا أعرف طريقة أخرى للحياة غير أنني مازلت أحاول، وأكرر كلمة البحث وعندما تتوقف رحلة البحث تتوقف الحياة.

* أليست رحلة حب؟

- الحب جزء من البحث وليس كل البحث (ضاحكاً).

* هل تنقصك السعادة؟

- أكون كاذباً إذا قلت لا، الحياة هي الحب الحقيقي.

* ما هو الحب الحقيقي؟

- لا أحد يعرف. هو مثل الحالة التي يصفها الصوفية للحلول. الإنسان يحيا في هذه العلاقة، وكل الحاجات الأخرى مظاهر زائفة. الحب أن تكون داخل العاصفة.

* قلت له: أتمنى أن تعيش داخلها.

- قال ضاحكاً: شكراً لك. 

-------------
كان هذا الحوار في عام 2005 نشر بعده بهاء طاهر عدة أعمال منها "واحة الغروب" التي قدمت في التليفزيون المصري في مسلسل شهير وعاش بهاء طاهر منخرطا في الحياة الثقافية المصرية والعربية و العالمية لم يبعده عنها صعوبة الحركة في سنواته الأخيرة. ظل شعلة من نور.

------------
بقلم: هالة البدري
من المشهد الأسبوعية







اعلان