26 - 06 - 2024

لم يمت .. بل ولد في رحمة الله

لم يمت .. بل ولد في رحمة الله

لا أكتب مرثية ولا استدرارا لعطف وإنما كى يخف الألم الذى ألم بجسدى منذ أمس..خلق الله اجسادنا وقلوبنا مربوطة برابط خفى .

"توفى إلى رحمة الله اللواء خالد إبراهيم سالم...." جملة ملأت فضاء التواصل الاجتماعي أمس وأول أمس على صفحات أبنائك وأخوتك وأبنائهم وأخوتى وأبنائهم، قرأتها بعينى ولم أفهمها..لاأدرى لماذا تقف الكلمات امام أخبار الفقد فتُخبر به ولاتٌعبر عنه فى ذات اللحظة. كتبت نعى أمى بيدى ونشرته بضغطة من اصبعى وتناقلته كل الأيادى ولم أفهمه حتى الآن!

توفى إلى رحمة الله اللواء خالد...اللواء؟ اللواء هو العلم كما تعلمناه فى اللغة العربية، حمل فلان لواء الحرية..حمل فلان لواء الجيش فى الحرب..كنا نلعب لعبة الحرب أنا وأنت وأميرة، نشكل الأوراق مثل الكرات لتصبح قنابل ونستخدم مضارب الناموس بنادق، وتحت الكنب مخابيء ونموت ونحيا عدة مرات فى الدور الواحد من اللعبة، كنا متأثرين بحرب أكتوبر التى ترتبط فى ذهنى بك أنت وأميرة وخالتى ووالدك الضابط الطبيب رحمة الله عليه على الجبهة، كنتم معنا فى بيتنا حين وقع الصاروخ قرب منطقة المصانع فى بلدتنا وعشنا جميعاً يوماً عصيبا أنهيناه أنا وأنت وأميرة تحت السرير مختبئين نناقش مسألة الصاروخ وكيف نحمى بيتنا إذا ما سقط صاروخ آخر، كنا نناقش موضوعات كبيرة ونحن دون الرابعة.

"توفى إلى رحمة الله اللواء خالد" تبدأ هذه الجملة فى الضغط على أعصابى كلما قرأتها، متى حيينا ومتى توفيت؟ كنا بالأمس القريب نلعب فى ساحة بيتنا، ونقرر قرارات جهنمية بتجربة حياة أولاد الشوارع وتسللنا من الباب خلسة بملابس البيت دون احذية، ولحظِنا العثر رآنا والدى وحين عاد من عمله تلقيت أنا العقاب نيابة عن فريق المتشردين كلهم، واختباتم أنتم كلكم تحت السلم كى لا ينالكم الضرب! مش "جدعنة يا خلودة والله كنت انت تاخد عصايتين وانا عصاية واميرة واحدة  ، بس ماشى" وظللت أنت تعايرنى سنوات بعقاب تلقيته نيابة عنكم جميعاً!

"توفى إلى رحمة الله اللواء خالد.." صنعنا أرجوحة من الحبال، ثبتناها على الحبال فى بلكون غرفتى ووضعنا عليها مخدة، كنا نقع من فوقها أكثر مما نتأرجح، ولكننا لم نتوقف أبداً، وحين سافرت أسرتك إلى الخليج فى أواخر السبعينيات ظلت الأرجوحة مكانها ، ولكننى لم أستخدمها ثانيةً أبداً، كان هذا اليوم من أسوأ أيام مُنى الطفلة، فقد فقدت أصدقاء طفولتى، لكن كانت عودتكم السنوية عيداً تبدأوه من عندنا وتتخلله زيارة الأسكندرية معاً.، ثم الأسكندرية فى الصبا والشباب، كل الأماكن فى الاسكتدرية ياخالد، كلها مرتبطة بك وبأميرة وأسرتك. 

لم نتوقف عن المشاغبة أبداً "والمناكفة" فى بعضنا البعض. ولم يكن لأحد أن يعترض فقد كنا حرفيا "مولودين فوق رؤوس بعض" , سبقتك أنا فيها بثلاث شهور، لكن الخطط والمقالب الجهنمية لم تفارقنا أبداً. حين ذهبنا بصحبة أمى للمباركة لزميلتها العروس تسللنا وفتحنا كل أدراج دولابهم، وكيف حين عزمنا والدك جميعا بالخارج على عيد ميلادك، طلبنا وحدنا أطباق جديدة خِلسة وورطناه، وكيف نظر وقتها من آخر المائدة الطويلة بحب ممتزجاً بغيظ ممتزجا بضحك وكأن لسان حاله يقول "ملعوبة ياعفاريت"، حتى حين أصاب الفيروس اللعين قلبك ، واصطحبتك من مستشفى العجوزة إلى مينا هاوس لنلتقى أنا وأنت والطبيب الأمريكى المتخصص فى حالتك، وارتديت لبساً ملوناً رغم أن ميتة أبى كانت لاتزال طازجة حتى لا تبتئس ولا تتشاءم ، كنت أقوم بدور المترجمة، كنت تمازحنى وتقول "ترجمى كويس يابت احسن أفضحك وأقول للدكتورعلى العلقة بتاعة زمان!" "ماشى ياندل وهو انت بتعرف انجليزى أصلاً ؟" " طبعاً ياختى!" " أمال جايبنى ليه ياروح خالتك؟"  " عشان أكون متأكد من المعلومات يا مومون!" وظللنا نعاند بعضنا البعض ونسينا أن الطبيب موجود ينظرإلينا ويبتسم وكأنه شعر أن مايحدث أمامه شقاوة إخوة.

"توفى إلى رحمة الله اللواء خالد.." ستة وعشرون عاماً من الابتلاء والتعافى والانتكاس والمعافرة والتعافى، ستة وعشرون عاماً من وجع فى القلب تسبقها سنوات من وجع القلب، ستة وعشرون عاماً من الصبر والتصبر والبحث عن طريق ينير القلب. ستة وعشرون عاماً فرقتنا الأشغال والأعمال وحمل العيال وجمعتنا بيوت الأهل والأحباب، كنت تقول لى " أصبحتِ برَّاوية من ساعة ما سكنت القاهرة!" وكنت أسكت. كيف أشرح لك ثقل العاصمة مقارنة بخفة بلدتنا؟ وصعوبة الجمع بين حياة الباحثة والزوجة والأم؟ والكثير من الأمراض التى أصابتنى وأصلها كان التوتروالانهاك؟ ولماذا أشرح أصلاً وقد كان هذا حالك أيضاَ! أحوالنا جميعاً! كانت كل طاقة للحياة الاجتماعية تنفد تحت وطأة كل هذا، عشنا حياة مختلفة عن أبائنا وسيعيش أولادنا حياة مختلفة عنا وهذه سنة الحياة! فقط كنت أتمنى ألا يكون هذا رأيك فعلا! لابد أنك تعلم الآن.

ياخالد، يثير الموت داخلى قهراً! قهر العجز، قهراً كتبه الله علينا بحق اسمه القهار، وتثير رحمته بداخلى سلاماً بحق اسمه السلام، حتى نوقن أن الأمر بيده وحده، يحيى ويميت ويرحم و يعفو ويجود ،إنه على كل شيء قدير، يعرفنا رب العباد  بنفسه بقوة أسمائه الحسنى وبغيرها، فهو الرحمن الرحيم وهو الرؤوف الرزاق الجواد وهو المحيى المميت القهاروله من الأسماء والصفات ما نجهله وما يعلمه لبعض عبيده وما يستأثر به فى علم الغيب عنده.

\سنوات أنارت قلبك بنور حضرة النبى وأهل بيته، نور رآه كل من حضر جنازتك أول أمس، يرتبط الموت دوماً بنور ينطفيء، لكن يوم خروجك من ضيق الدنيا يا صديقى كان كأنه نور ينبعث ولهذا لن أكتب "توفى إلى رحمة الله تعالى اللواء خالد سالم" ابن خالتى وتوأم طفولتى وأخى بل "وُلد فى رحمة الله تعالى لحياته الخالدة عبد الله ابن عبدالله ابن أمة الله خالد سالم، الصابر المحتسب الممتليء قلبه بنور حب رسول الله وأهل بيته، المسلم أمرَه إلى الله تعالى، التارك وراءه أحباباً يوقنون فى رحمته وفى لقاء الأحبة الصالحين معاً فى جنات النعيم بإذنه تعالى، اللهم إنى أسألك ثباتاُ لأمه وأخته وزوجته وأبنائه وأخوته وأحبته ولنا، ولقاءً يجمعنا جميعا فى ظل عرشك ومستقر رحمتك.

ولد فى رحمة الله.
-----------------------------
بقلم: د. منى النموري *
* أستاذ الأدب الإنجليزي بآداب طنطا

مقالات اخرى للكاتب

فى رثاء الخالة: متلازمة الصدمة





اعلان