17 - 07 - 2024

المشهد .. قصة تستحق أن تروى

المشهد .. قصة تستحق أن تروى

(أرشيف المشهد)

19-10-2011 | 18:44

منذ نهاية الثمانينات كان واضحًا أن يدًا ما قد أتمت وضع مصر على منحدر التردي.. قطاع عام تتم تصفيته بأي ثمن.. وعلاقات خارجية لا تعتمد على روابط شفافة مع دوائر الحكم الغربية الطافية على السطح بقدر ما تصاغ في أقبية المخابرات والغرف المظلمة للوبيات.. وعمولات تطاير هنا وهناك للمحاسيب والمقربين الفاسدين, من توكيلات .. أموال معونة.. صفقات سلاح .. وسلطة قابضة على الزمام من خلال أدوات القمع, لا يهمها إلا رضا الغرب وإسرائيل.. أما المواطن فآخر ما كانت تفكر فيه.. إذا جاع أو تعرى أو لم يجد عملاً فذلك ذنبه هو وليس ذنب الحكومة, لأنه كثير الإنجاب وعليه أن يتحمل توابعه!!

كان العمل في الصحافة بأخلاقية يشبه السير في نفق مظلم فالمطبوعات مصنفة بين قومية وحزبية.. القومية تسبح بحمد الحاكم ليل نهار والحزبية لها مصالحها وتوازناتها مع السلطة, ولها معاركها التي تتخيرها بحساب دقيق.. ولها شخوصها الذين يبدأون المعارك ويختتمونها.. وأحسست بوحدة قاتلة, فليس هناك مكان يليق بشخص يريد أن يكون مستقلا عن التيارات والأحزاب.. والمصالح.. والرغبة في الحياد المطلق.. وعزوف عن النجومية الشخصية.. ووفي للحقيقة المجردة.. ولم يكن لسان حالي غير بيت سكه المبدع الأردني طاهر رياض فيما بعد "يابن أبى .. عزفك سحري لاشك ولكن ..عزفك منفرد"

وكانت خيارات أحلاها مر لخصها واحد من أبناء عمومتي بمداعبة لطيفة "طول ما زكى بدر وراك .. هيقعدك في البيت" وأحد اعمامى يقول له "مش هايسيبوه يتقدم خطوة .. ده شتم الرئيس".

لم تكن الخيارات أوسع من: العودة من حيث أتيت, أو الانسحاق أمام الواقع والتكيف معه, أو الصبر والجلد للاستمرار في مهنة الصحافة مع الاكتفاء بالحد الأدنى الذي يسمح به الهامش المتاح.

واخترت الأصعب.

       عام 1993 بدأت نافذة الصحف القبرصية تنفتح, فقلت لا بأس من التجربة, قابلت الصديق الراحل حسنى أبو اليزيد.. مؤلف كتاب من "قتل السادات" الذي سطا عليه احد الكتاب الكبار وأعاد صياغته وتبديل تكنيك كتابته وأخرجه باسم آخر, مما أسهم كثيرا في نجوميته -اللامعة حتى اليوم- وطلبت منه ان يؤسس شركة في قبرص لإصدار صحيفة, وتم ذلك بالفعل, وخرجت الصحيفة "الملايين" التي احتفى بها من رآها.. فقال الفنان حمدي احمد إنها تذكره بالملايين التي كانت تصدر في الأربعينات, وحملها الصديق الدكتور عزازى على عزازي -محافظ الشرقية الحالي- إلى اجتماع قيادي في حركة الكرامة وهو يقول "هذا الشاب المغمور يخرج هذه الصحيفة بما هي عليه, وبجهود فردية, ونحن لا نستطيع -كحركة جماهيرية لها عمقها الايدولوجى- إصدار صحيفة".  وضحك الصديق حمدين صباحى -المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية- إما سخرية من المقارنة بين فرد وتيار, أو لعدم تريث عزازى وصبره, لأن الكرامة حين تصدر صحيفة ستهز الدنيا. ومع أن التجربة كانت واعدة إلا اننى قررت أن يكون العدد الرابع آخر أعدادها, والسبب صحفي حصل على إعلان للصحيفة عبر ابتزاز إحدى الشركات بمستندات لديه فقلت لنفسي حين عرفت بالأمر: لم أخلق لأرتكب مثل هذه الفضائح, ولا أتعامل مع هذا الصنف من الصحفيين, رغم أن اغلب الصحف تعتمد عليها. ووأدت ابنتي في المهد لأنها لم تكن تلك التي انتظرها.

**************

كان هناك حالم آخر، شكله الزخم الطلابي ضد السادات في السبعينات، وحينما بدأ الحياة العملية علمه شرف العمل -كرجل أعمال أخلاقي- الراحل محمد غانم، وهو رجل عصامي من مؤسسي شركة النصر للتصدير والاستيراد.. عمل طوال حياته في البيزنس ولم يخلف تركة تذكر وقت رحيله، ولم يكن غير سيد موسى الذي زهد في الصعود وتكوين الثروات، وقتما كان الأمر لا يستلزم إلا أن تمنح ضميرك إجازة.

ظل حلمنا مشتركا بصحيفة تقاوم الفساد ولا تفسد، وإن لم يبح به أحدنا للآخر، لكن كان محسوسا في تصرفاتنا، وتعليقاتنا، وطريقة عيشنا.

ومع الوقت صادفت زهرة بيلسان، شاب تخرج بتفوق من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وبدا لامعا حين بدأ يطرق أبواب العمل بالصحافة.. كان طاهرا ونقيا كندف الثلج، وحين حاول صاحب صحيفة استغلال موهبته ومهارته في تنظيف صورة حاكم عربي رفض بإباء نادر من صحفي يخطو خطواته الأولى.. شجعته قائلا: مهما تكن الصعاب لا تكن إلا نفسك، ولا تكتب إلا قناعتك.

أدرك أكرم خميس أن ما تشع به نفسه من صفاء وصدق وحلم بصحافة نظيفة، ليس عزفا منفردا لذاته مع ذاته، فلامس جوهره النقي، وقرر أن يكون ذلك مرشده ، حياة وموتا، ومن وقتها اصطفيته لنفسي.

**************

تغربت أنا بالإمارات، احباطا مما أجده في مصر، وتغرب أكرم بالسعودية، وتغرب سيد هنا.. وفي لحظة من عام 2006 رأينا أنه لا بد من صحيفة، تمثل حلم المصريين في مطبوعة معبرة عن ضميرهم، لا تشوبها كدرة صحف السلطة، ولا نزوات صحف رجال الأعمال ومصالحهم، ولا تجوف الصحف الحزبية التي تماهت مع الأحزاب الصادرة عنها.

كان حسني أبو اليزيد قد سألني عام 2000، ما الذي يحتاجه إنشاء صحيفة، أجبت ربع مليون جنيه كي توضع في البنك لبدء إجراءات الترخيص. أخرج الرجل دفتر شيكات وحرر شيكا بربع مليون جنيه وشفعها بقوله: رتب الأمر واعتبر نفسك رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا للتحرير، وان احتجت لجهدي معك فسأتشرف أن أعمل معك حتى ولو في بوفيه الصحيفة، ورغم أنني كان يفترض أن أقبل رأسه على تواضعه الجم ورغبته في المغامرة بأغلب ما يملك في سبيل حلم داعب خياله، كما داعبني.. أعدت له الشيك شاكرا، وأخبرته أني أريد صحيفة تشارك فيها أطياف مختلفة تعبر عن ضمير الشعب بمختلف تياراته وانتماءاته وأديانه، وتشارك في تأسيسها لا أن تكون حكرا علي وعليك.

ولذلك عندما نبتت فكرة الصحيفة فاتحته ثانية وأبدى الرجل سعادته، وإن تخوف من عدم سماح السلطة في مصر بصحيفة كهذه، فهي لا تمنح التصاريح الا لرجالها ومعارضيها المختارين بعناية لإكمال المشهد، وذكرني بعبارة قالها لي أحد مساعدي وزير الداخلية عام 2000 عندما كنت أحاول جس نبض السلطة في إصدار ترخيص صحيفة، فقال ألا تذكر لقاءك مع فلان وقوله لك "افسد شوية .. عشان نسمح لك تأسس جرنال". طمأنته أن الظروف اختلفت ويمكن أن نجمع عشرة مساهمين على استعداد لتحمل التبعات وخوض معركة شريفة في مواجهة السلطة، واقتنع، وأكملنا عشرة مؤسسين كان من بينهم، سيد موسى وأكرم خميس، وحسني أبو اليزيد، وخالد محمود، ومؤمن أحمد، ونادية كيلاني، ويحيى القزاز، ولسبب مجهول حتى اليوم اعتذر حسني أبو اليزيد في آخر لحظة.. وتقرر تأجيل المشروع لأن أبواليزيد لم يكن شريكا عاديا، وإنما شريك حلم.

*****

في عام 2009 اتصل بي الزميل عبد الفتاح فايد -مدير مكتب "الجزيرة" الآن- وقال أعرف أنك شرعت في تأسيس صحيفة وتوقفت، وحاولت أنا ومجموعة زملاء نفس الشيء وتوقفنا لماذا لا نجمع جهودنا فربما يخرج الحلم إلى النور، واتفقنا على لقاء لمناقشة الخطوط المشتركة، ثم انضم لنا الزميلان مصطفى عبد الرازق وقطب العربي ومن بعده الزميل محمود الحضري، وبحثنا عمن يمكن أن نضم من صفوة نختارها بشروطنا ويتسق حلمها مع حلمنا فوجدنا ناصر عراق -الصحفي اللامع والروائي- وصلاح العربي وعبد الرحمن اسماعيل، ثم انضم في وقت لاحق الزملاء محمد زكريا وسامي عبد الرؤوف وعصام مرسي وأحمد حافظ وأشرف شوبك ومحمد موسى وأسامة عسل وعبد الفتاح منتصر وأسامه حسني. ومن بعدهم جاء أشرف خليل واضعا مساهمته في يدي ورافضا مجرد السؤال عن ماذا ننوي أن نفعل وكذلك أن أروي له أية تفاصيل عن المشروع، ثم مجدي صالح ورشا رمزي اللذان كان حماسهما بالغا للتجربة، وأخيرا حسن شرف ورمضان العباسي، وجميعهم إما أناس نادرو المعدن أو يجمعون ذلك مع المهارة الصحفية.

في الطريق كانت هناك عقبات واختلافات رؤى زادتها مماطلة الأجهزة الأمنية والهيئات الرسمية في منحنا الترخيص، فانسحب البعض، لكن كل من أصر على البقاء متشبثا بالحلم، ومن اختار الانسحاب يظلون شركاء حلم. كذلك الذين قابلوا الفكرة بحماس منقطع النظير وكرسوا لها 24 ساعة من يومهم وعلى رأسهم محمد يوسف وعبد السلام لملوم وساهر جاد وطلعت إسماعيل وأمنية طلعت والرائع عصام حنفي الذي ينضح ألقا ووطنية وعشقا وأحمد عتريس وعشرات الشباب الحالمين الذين أبدوا استعدادهم للتضحية بفرص عمل تدر عليهم عشرة أضعاف ما يتقاضونه من "المشهد"، ونقلوا الموقع الاخباري من فكرة الى واقع يناطح منافسين لديهم امكانات بشرية ضخمة وأموال بعشرات الملايين.

كل هؤلاء انحني لهم وأقول: اليوم يبدأ حلمنا في التحقق مع انتزاع ترخيص صدور الصحيفة المطبوعة بفضل الله ومنه، وكذلك بصبر الصابرين وبثورة 25 يناير التي نأمل أن نكون ضميرها بحق، لا ادعاء مجوفا ولكن حقيقة حية متجسدة في كل ما نفكر وننشر.

إن مصر تستحق منا أن نضحي بالروح، وحين ننجح في تقديم صحافة نظيفة وطاهرة فإننا لا نقدم الكثير.

مقالات اخرى للكاتب

تباريح | مصر ليست مجرد أغنية!