17 - 07 - 2024

طبق فول في شارع فيصل

طبق فول في شارع فيصل

(أرشيف المشهد)

24-9-2011 | 18:41

في مدن مصنوعة من الزجاج والبلاستيك، وشوارع فسيحة وثعابين الاسفلت الأسود تتمدد وتتفرع على خارطة الصحراء، في مدن تختلط فيها الالوان واللهجات واللغات، لا تسمع فيها صوت نفير سيارة ولو لمرة واحدة، تنام وتصحو ولا شيء تغير فيها... في مدن كهذه واضحة ومنظمة وآلية يحق لك أن تحلم بطبق فول بالزيت الحار وصحن سلاطة بالشطة والكمون ورغيفين على قفص جريد، وعلى رصيف في شارع فيصل، تتلذذ بكل لقمة بينما تطالع السيارات تروح وتجيء وتطلق نفيرها كل دقيقة فتملأ المكان ضجيجا، يروق لك أن تتابع بنظرك امرأة شابة تجر طفلين في يدها بينما تشير للعربية الفولكس وهي تصيح : طالبية ياسطى.. فيرد بإشارة يده أن اركبي بينما هو لم يتوقف بعد. والمسافة الفاصلة بين المكانين كبيييييرة، ربما تجتازها في سنين، حتى تصل الى هدفك المنشود فترتمي على الارض وتمرمغ وجهك في ترابها بينما تجهش بالبكاء المسافة بين بلدك وبلاد الآخرين لا تحسب بالطائرة والفرق بين الاثنين لايحسب بفرق العملة، ولا بساعات الدوام الرسمي. وحشاني يامصر لا يسعدني أن اعترف بأن الغربة عقاب يستحقه المهزومون الذين لم يقدروا افضالك عليهم واستعجلوا في الهروب من حضنك فعرفوا حقيقة ما اقترفوه قبل ان تحط الطائرة في البلد الآخر، وبأن كل الناس الطيبين البسطاء في هذه البلاد وكل هذه الأشياء المرتبة، وكل هذه الرفاهية والمباني الفاخرة والاشجار والريالات لا تمنع هذه الغصة في الحلق كل صباح . "المتغرب" عنك مثل طفل فقد أبويه ولم يعد يرى هؤلاء الذين يغمرونه بالحنان والقبلات في بيت الجيران.. فهل يعرف كل من قرر البعد عنك أنه سيخسر كثيرا جداً إذا فارقك... وأنه حتى اذا حاول العودة مبكراً فلن يستطع الوصول الى عنوان بيتهم القديم.. ربما لن يستطيع الوصول الى شارع حبيبته الاولى، وقد لايتعرف الى اصحابه القدامى من النظرة الاولى، وقد لا يجد في احضانهم ما كان يشعر به قبل السفر لو كنا نعرف لما تركناك وسافرنا هربا منك ومن عساكرك وأمناء شرطتك وسائقي ميكروباصاتك وطوابير عيشك وسحابتك السوداء.. لو كنا نعرف لأدركنا أن التوك توك نعمة كبيرة.. يطوف بين الازقة فيريك ما لن تراه ولن تشعر به في بلد آخر... سلام عليك وعلى شبابك وشيوخك وبناتك... سلام على زحام البنات والاولاد صباحاً يسرعون قبل ان يبدأ الطابور، وعلى زحام المترو وركابه فرداً فرداً، وعلى مواقف الميكروباص في كل ميدان وشارع وبلد، على غرز الشاي والمعسل وعربات الكشري والكبدة والفول والطعمية وفتارين الملابس والاحذية الرخيصة... سلام على كل فرش بضاعة صيني وكل قفص فاكهة يجلس اليه احدهم ولا يسمح لك بأن تنتقي ما تريد، سلام على كل قاعة محاضرات ومعمل وكافيتريا، على الاولاد والبنات يملأون الحياة صخباً وعطراً وزهوراً في حرم الجامعة، كل جامعة، سلام على شوارع الكورنيش، على النيل والبحر، من شبرا الخيمة لحلوان، ومن اسكندرية للترعة الابراهيمية في اسيوط لو كنا نعرف والله يا أم الدنيا ما هربنا منك ... كان لازم نصبر شوية .. نتحملك قبل .. أن نرمي بمستقبلنا في الصحراء ...

مقالات اخرى للكاتب

طبق فول في شارع فيصل