17 - 07 - 2024

"ما أحلى الرجوع إليها"

(أرشيف المشهد)

25-9-2011 | 15:10

هل أنت مجنون حتى تترك هذه المدينة الساحرة التي يتهافت على زيارتها الملايين، وتعود إلى أرتال القمامة والغبار وتنحشر وسط شوارع مكتظة أكل الزمان عليها وشرب؟! هل هناك عاقل يفارق الحياة المرتبة المنضبطة مثل ساعة بيج بن، ويرمي بنفسه إلى التهلكة في بلد تعمه الفوضى ولا أحد يعلم فيه يده من رجليه؟ هل تودع نمط العيش الذي تطلب فيه لبن العصفور فيجاب بمجرد لمس زر جهاز كمبيوتر أو مكالمة من هاتف محمول، إلى الاعتماد على بضاعة عم عبده البقال وصياح الباعة الجائلين في الحواري والأزقة والميادين؟

هل.. وهل، إلى آخر"الهلهلات" التي تبرهن على أن العودة إلى المحروسة من بلاد الغربة في هذا التوقيت بالذات ضرب من الجنون، وخبل ما بعده خبل.

تلك رؤية بعض الأهل والأصدقاء ممن لم يكابدوا فراق المحبوبة ويشعروا بألم البعد عنها، خاصة وهي تشهد مولدها الجديد على أيدي جيل يؤمن بأننا نستحق أفضل مما نحن عليه، بعد ثلاثين عامًا من الجمود والنهب والسرقة لأفضل ما فينا، روح مصر التي أرضعت البشرية جوهر الحضارة، ومكنون الضمير الإنساني منذ فجر التاريخ.

مشهد ميدان التحرير لا يمكن أن يمحى وقد ازدان بالمليونيات التي أزاحت نظامًا جثم على أنفاس البلاد والعباد بالبطش والاستبداد، وأذاق المصريين كل أصناف العذاب، بتكريس الفقر والجهل والمرض، وفتح الباب على مصراعيه أمام حفنة من اللصوص ليعيثوا في الأراض فسادًا دون وازع من ضمير.

اللجان الشعبية وقد تحولت إلى العين الساهرة على الأهل والأحبة من فلول البطجية وقطاع الطرق الذين صنعهم النظام البائد للاستعانة بهم وقت الحاجة لترويع الآمنين، إبداع مصري خالص يعطي الآخرين الدرس في حب الأوطان، وكيف تكون الثورات.

صور الصبايا والشبان والأمهات بأطفالهن الرضع، مع الكهول والعجائز والجميع منهمك بإخلاص في تنظيف ميدان التحرير، بعثت فينا - ونحن في بلاد الغربة - الأمل في الغد المشرق بإذن الله وإن علت المشهد أحيانًا غمامة رمادية تبعث على الاكتئاب.

نعم نعاني اليوم حالة من الارتباك تصل أحيانًا إلى الفوضى، بعد أن تكالب الانتهازيون ومن في بطونهم مرض على سرقة ثورة صنعتها الملائكة، وحماها شعب صبر كثيرًا على الظلم والظالمين، قبل أن يخرج بالملايين إلى الميادين لاسترداد الحق ومحق المفسدين.

نعم يصعب على المرء أن يرى الانتهازيين على اختلاف مشاربهم وهم يسعون بقضهم وقضيضهم لانتزاع مكاسب آنية على حساب جثة بلد يريدون تفصيل مستقبله على مقاسهم، وكأنه ناقة لا صاحب لها، متجاهلين أن هناك شعبًا يشاهد ويراقب، وليس بغافل عما يحاك حوله من دسائس ومؤامرات، يرفع بعض صناعها شعارات  "الشعب يريد" زورًا وبهتانًا.

فات هؤلاء أن الوطن ليس مطية لكل من يريد ركوبها أو أن يسوسها ولو مرة من باب التجريب، فالأوطان أكبر من عبث الصغار، والباحثين عن فرصة لتحقيق احلام مخادعة، والتلويح بالسراب.

ورغم هذا المشهد المرتبك، ما أحلى الجنون وما أجمل الخبل إذا كانا سببًا في الارتماء في أحضان وطن حلمنا دومًا أن نكون وقود رفعته، فإذا الأيام تدفعنا إلى الرحيل عنه إلى أرض الله الواسعة، قبل أن نعود اليه مهرولين، نطلب الصفح والسماح عن الهرب مكرهين ، قبل اكتمال لحظة الشروق الجميل.

مقالات اخرى للكاتب

روح مصر