(أرشيف المشهد)
- 21-4-2015 | 06:25
كان جرس البيت يدق بشدة، نظرت إلى الساعة وأنا أتململ فى مكانى ، الوقت ﻻ يزال مبكرا و لكن ﻻ بأس فأمامى يوم طويل، نهضت من الفراش متجهة صوب الباب ولكن زادت وتيرة الطرق حتى تحول إلى " رفس " بالقدم ايضا، داخل الخوف قلبى، فمثل هذا الطرق لم اسمعه من قبل اﻻ فى فيلم اللص والكلاب حين جاءت الشرطة للقبض على شكرى سرحان. ... الطف يا رب، أيكون زوجى قد هرش مبلغ الخمسين جنيها التى سلكتها من جيبه باﻷمس وقام باﻹبلاغ عنى؟ فتحت الباب ثم تنفست الصعداء، إنه محصل الكهرباء. .... أخبرنى بعصبية واضحة أن المبلغ المطلوب مائتى جنيه. ... مائتى جنيه ونحن ما زلنا فى الشتاء؟ ليه؟ إيه اﻹفترا دا؟ .... عادت الصعداء مرة اخرى بعد ان كنت قد تنفستها، سددت المبلغ وانا فى أوج غضبى، ثم دخلت لتغيير ملابسى إستعدادا للنزول بعد أن جهزت براد الكهرباء لإعداد النسكافيه، وما أن دلفت إلى باب الغرفة حتى انقطع التيار .... يا الله!! بناقص النسكافيه....... هكذا قلت فى نفسى، ولو ان الشرر الذى كان يتطاير من عيني وقتها كان كفيلا بتشغيل مصنع بأكمله.
لحظات وكنت بالشارع، انطلقت بالسيارة فى طريقى الى مكتب الشهر العقارى، ادرت جهاز الراديو وكانت عفاف راضى تشدو بأغنية "مصر هى أمى" تذكرت معاناة الصباح فعبست قليلا ولكنى ارجعت البصر كرتين فطالعتنى صفحة النيل العظيم وهو يتلأﻷ كالفضة فإمتلأت نفسى بالبهجة، وحمدت الله اننى من الجيل الذى شهد جريان النهر قبل ان تشفطه اثيوبيا "بالشاليموه" ، و رحت أردد كلمات اﻻغنية بحماس بالغ أثناء وقوفى فى إحدى اﻻشارات، وبنفس الحماس وجدت سيارتى تصطدم من الخلف ﻷندفع "رشق" فى الدريكسون أحسست فى الحال أن قفصى الصدرى قد تحول الى قفص فراخ.
نزلت من السيارة فوجدت سيارة ميكروباص قد إصطدمت بى و قد نزل سائقها وبدأ وصلة الردح المعتادة، نظرت إلى السيارة فى ذهول وقد تناثر زجاج الفوانيس بينما إعوجت مؤخرتها، حاولت اﻻستعانة بالمارة ليستدعوا امين الشرطة، بيد انهم كانوا مشغولين بتصوير الواقعة بواسطة هواتفهم المحمولة، وبعد ان التقطوا الصور السيلفى معنا، وصل اﻷمين وعاين الحادث، ثم إنفرد بى ليخبرنى هامسا أن مثل هذه المحاضر ﻻ طائل من ورائها واننى سأبدد وقتى وجهدى بغير فائدة ترجى واﻷفضل أن أساومه على مبلغ من المال ﻹصلاح التلفيات، فأجبت بدورى أننى ﻻ أريد محضرا وﻻ غيره وكل ما ابغيه اﻻعتذار فقط .. نظر إلى الشرطى طويلا ثم قال بنفاد صبر : يعنى حضرتك نادتينى وسيبتينى شغلى عشان يعتذر!!! اعتذر يابنى وخلصنا ، فتنهد اﻻخير بإرتياح قائلا : خلاص يا مدام، عندى انا دى ،إعتبرينى على سبيل اخوكى الصغير على سبيل اخويا الصغير!!! من الواضح ان افلام السبكى قد اثرت على خلايا جمجمته.
إنطلقت بالسيارة ، وما هى إﻻ دقائق معدودات حتى توقف الطريق بسبب إختناق مرورى، وهو امر معتاد بالطبع فى شوارع المحروسة. أخذت أقطع المسافة ببطء شديد حتى وصلت ثم بدأت الرحلة المكوكية للبحث عن مكان لصف السيارة.
فى سيراليون والدول المتقدمة، عادة ما يكون هناك أماكن لانتظار السيارات مخصصة لمثل هذه المنشآت ولكن بلا فخر نحن نختلف عن اﻵخرين، مشيت بالسيارة بعيدا حتى وجدت مكانا ملائما ولكنى إضطررت للاستعانة بسيارة اجرة للعودة مرة أخرى.
كان سلم المكتب ضيقا للغاية ﻻ مكان فيه لموضع قدم والمشكلة الأكبر انه كان 2way، فكان الشخص الصاعد يرتطم بالهابط ثم تسمع عبارات استهجان من كل صوب، فمن أمامك يقول (ما تزقش) ومن فى الخلف يصيح (يا عم فتح، وراك بنى ادمين) أما من فى محاذاتك فجملة (أنا إتفرمت) هى سيدة الموقف ، و غير مستغرب أن تتداخل اﻻصوات فتجد أحدهم يرد على من امامه قائلا : أهو إنت اللى بارد، فيعاتبه اﻵخر قائلا : دا جزاتى عشان باقولك شكرا !!! وهكذا.
لم أتبين باب المبنى الداخلى من شدة الزحام وللأمانة فأنا لم ادخل بمجهودى وانما عن طريق التدافع، وقفت أو باﻷحرى " إنحشرت " فى شقة اصغر من مطبخ بيتنا وقد اكتظت بالبشر عن آخرها، وقد إصطفوا فى طوابير متداخلة لضيق المكان ،و اللافت للنظر أن وقفة جميع الموجودين تقريبا كانت كعلامة القوس، فتجد الشخص محنيا من أعلى للأمام ثم يتقوس فى منطقة البطن وينحنى مرة اخرى من أسفل، والمحظوظ فقط هو من يأخذ وضع علامة اﻻستفهام فيكون محنيا للأمام من أعلى ثم يتقوس من الوسط ويستقيم مرة اخرى من اسفل، و كان من السهل ان تلاحظ نظرات الحسد التى كان تبدو على وجوه الواقفين فى مؤخرة الطابور لمن أصابه الدور ، حتى تخاله سيخرج من المكان مشلوﻻ من أثر العيون الجاحظة التى كانت تتطلع اليه بحرمان.
أحسست بتعب شديد بعد أن طالت فترة وقوفى ،حتى وصلت أخيرا بحمد الله وتوفيقه فختمت الموظفة الورق الخاص بى قائلة بجفاء شديد : روحى إدفعى فى الخزنة عند مدام فوزية، أخذت الورق وأعدت السيناريو ذاته، ومن فوزية إلى فوقية لتصوير اﻷوراق ومن فوقية لعنايات كى استلم المراد.
احتضنت اﻻوراق ككنز ثمين ونزلت بالصعوبة ذاتها وأعتقد أننى قابلت وجوها كانت ما تزال على السلم منذ أن تركتها أثناء عملية الصعود، لم يوفقها الله بعد فى الدخول.
عدت إلى سيارتى بواسطة سيارة أجرة مرة اخرى وانطلقت بها الى المنزل ، و لكن فى منتصف الطريق وجدت تحويلة ، فقد كانت هناك بعض اﻻصلاحات تستدعى إخلاء الشارع بدون أى تنويه قبلها بمسافة كافية.
أصبحت مجبرة على الدخول فى شوارع لم تطأها قدماى من قبل، وبدأت رحلة السلم والثعبان فأخذت أنطلق ثم أعود من حيث بدأت،حتى قادنى أحدهم مشكورا الى بداية الطريق.
وأخيراً عدت إلى المنزل، حقا من خرج من داره إتقل مقداره.....بدأت الدموع الحبيسة تتساقط من عيني لتعبر عن قهر بالغ وفجأة تذكرت أن لى أما رءوما لن يرضيها بالطبع ما تعرضت له ،فمصر هى أمى كما تقول اﻷسطورة.
خرجت إلى الشرفة ونظرت إليها من عل بحب جارف، ورحت اخاطبها:
يرضيكى يا ماما ما حدث لى؟
اجابت : وماذا تريدين؟
قلت ببراءة شديدة: اريد حقى فيكى.
فإذا بصفعة قوية تهوى على وجهى، وقبل أن أفيق، قالت لى بقسوة : انتى مالكيش حق عندى.
أجبت بإنكسار : إزاى؟ أنا بنتك ولى حق عليكى.
فقالت بنفس اللهجة القاسية : إنتى مالكيش أى حق عندى، إنتى مش بنتى، إحنا لميناكى من الشوارع، أنا مش أمك وﻻ المصريين إخواتك إنتى لقيطة، سامعة. .. لقيطة ، لقيطة
فإتسعت حدقتا عيني و رددت بمنتهى الحزم : أتحداكى أن تفرقى بينى وبين إخوتى ثم نظرت إلى أحد المارة وناديت عليه : يا أخ حسن يوسف ، أنا مش أختك ؟
صمت طويلا وهو ينظر إلى بشفقة ثم تحول فجأة قائلا بغلظة : إمشى يا بت، غورى من هنا هو أنا ناقصك إنتى كمان؟
ثارت ثائرتى وأعدت النظر إليها وأنا اقول مهددة : يظهر الذوق مش نافع، و ربنا لأنا نازله لك.