26 - 06 - 2024

صيحة تحذير انطلقت منذ 22 عاما ولم ينصت لها أحد: "سد النهضة .. خطر جنوبي"

صيحة تحذير انطلقت منذ 22 عاما ولم ينصت لها أحد:

(أرشيف المشهد)

5-6-2013 | 18:43

حرب إسرائيلية باردة بالوكالة لتصحير مصر
همس إسرائيل في أذن الإثيوبيين في عهد ناصر تحول إلى واقع في زمن مرسي
نصيحة أمريكية – إسرائيلية لدول المنبع :"إذا كان العرب يبيعون النفط .. فلماذا لا تبيعون الماء؟!"


 منذ ما يقرب من 22 عاما نشرت سلسلة حلقات بعنوان "مياه النيل في خطر" ، كانت الحلقات عبارة عن تحقيق استقصائي طويل أعددته مع الصديق أيمن نور ونشر على ست صفحات كاملة بجريدة الوفد (من 7 إلى 14 أكتوبر 1991) . كنا ساعتها أول من يقرع أجراس الخطر ، ولحقنا بعدها بسنوات الدكتور رشدي سعيد بكتابه القيم في نفس الموضوع .
نبهت وقتها إلى أن إدارة مصر لملف مياه النيل .. شريان الحياة الوحيد في أرضنا .. تعاني خللا كبيرا ، وأن أصابع خارجية تتسلل ، ومشاريع تعد ، وأحلام شعوب مجاورة تستثار ، كما قرعت جرس إنذار بأن الدبلوماسية المصرية ليست على المستوى الذي يناسب واحدا من أهم ملفات أمن مصر القومي .
وأكدت وقتها أن الحاضر ، وإن لم يكن يبدي نذر أزمة ، فإنها في طور جنيني تتشكل وتنمو ، مع تزايد النمو السكاني في دول الحوض ، وما يتبعه من تزايد الاحتياجات البشرية ، ومع استمرار طموحات ونوايا قوى اقليمية وعالمية في خنق مصر وإضعافها ، عبر حرب باردة لا تستخدم فيها الجيوش بقدر ماتستخدم المخططات الاستراتيجية طويلة الأمد.
لم أتوقف وقتها عن قرع الأجراس ، متيقنا من أننا إزاء خطر حقيقي ، وأنه لايجب أن نسير مغمضي العيون حتى نجد انفسنا في حقل ألغام ، أو في خضم أزمة كبيرة تستدعي تدخلا عسكريا دفاعا عن أمن مصر ، فنشرت بعد شهور قليلة كتابا بعنوان "المياه الصراع القادم في الشرق الأوسط" واخترت وقتها دار نشر حكومية هي "دار المعارف" عله يكون تحت سمع وبصر صناع القرار ، كما اجتهدت وقتها في إيصال النسخ يدا بيد لمسؤولين في وزارة الخارجية ووزارة الأشغال العامة والموارد المائية وجهاز المخابرات وديوان رئاسة الجمهورية. وصار الكتاب بعدها واحدا من المراجع الأساسية لأطروحات ماجستير ودكتوراة تناولت الموضوع .
لكن لا الحلقات المنشورة في الوفد ولا الكتاب أحدث الآثار المطلوبة وأولها إضاءة لمبة حمراء في دوائر صنع القرار لتتنبه وتتحرك ، وتقضي على بذور أزمة قادمة ، شاخصة للعيان ، لكن لم يكن هناك من يرى!!
بعد نحو 20 يوما من نشر حلقات التحقيق الاستقصائي تحرك المهندس عصام راضي (وزير الأشغال العامة والموارد المائية وقتها ) وأرسل ردا يبريء إسرائيل من التخطيط المشترك مع إثيوبيا لتنفيذ مشروعات لتحويل مجرى "النيل الأزرق" ، ويبريء شركة "تاحال" من إجراء أي دراسات على حوض النيل في إثيوبيا ، قائلا "إنها إن كانت تقوم بدراسات أو أعمال فهي خارج حوض النيل "!! كما نفى تماما وقتها تفكير إسرائيل في الحصول على قدر من مياه النيل أو استخدامه كورقة ضغط ومساومة قائلا "إن ذلك غير وارد إطلاقا" ، كما ردد إكليشيهات مستهلكة من قبيل "أنه لامشاكل مطلقا مع دول الحوض وبينها إثيوبيا ، وأن علاقة مصر مع هذه الدول تحكمها "روح الود والتعاون وحسن الجوار" . باختصار أن كل شيء يسير على مايرام ، وأننا نبالغ في التخوف من أخطار "ليست موجودة".
نامت القضية ، ولم تستجب السلطات بعدها بسنوات طوال لأجراس شارك في قرعها عشرات الباحثين والعلماء ، كان من بينهم من هو بقامة الدكتور رشدي سعيد ، لكن عقلية الموظفين التي تهدف فقط لإرضاء الرؤساء ، ظلت تبرر وتنكر وتهون ، حتى بعد أن أصبح الخطر ماثلا للعميان .
يد إسرائيلية
 لم تتوقف إسرائيل أبدا عن الهمس في أذن المسؤولين الإثيوبيين لتحريضهم على نقض المعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل، والتي تعطي حقوقا تاريخية لدولتي المصب (مصر والسودان ) على اعتبار أنها اتفاقية لاتحقق التوزيع العادل لمياه النهر ، وفي السنوات الأخيرة صيغت عبارات في أقبية أجهزة صنع القرار الإسرائيلية ، تردد صداها في عدد من عواصم دول "حوض النيل" ومفادها أن دول منابع النيل (يمكن أن تبيع الماء مثلما يبيع العرب البترول).
كما صدر كتاب خطير في واشنطن بعنوان "حروب مصادرة الثروة" ألفه مايكل كيلو  أحد المحللين السياسيين الأمريكيين ويؤكد فيه حدوث لقاءات بين مسؤولين إثيوبيين وإسرائيليين في تل أبيب وتتعلق بإنشاء أربعة سدود علي النهر لتوليد الكهرباء وضبط حركة المياه باتجاه السودان ومصر (او على نحو أدق بحجز المياه المتدفقة إلى البلدين).
والعلاقات الاسرائيلية الاثيوبية ليست حديثة عهد، فتل أبيب وأديس أبابا يجمعهما طموح مشترك في منطقة القرن الافريقى وسواحل البحر الأحمر، بل والتحكم في مضيقه الجنوبي (باب المندب) الأولى منذ تمكنت في عام 1949 من اختراق خطوط الهدنة واحتلال قرية أم الرشراش المصرية لتقيم عليها ميناء إيلات ، والثانية منذ عهد منليك ( عام 950 قبل الميلاد ) ، وكان إتحادها الفدرالي مع اريتريا بقرار أممي ورعاية أمريكية (ودون العودة للشعب الإرتري وأخذ آرائه ومصالحه بعين الاعتبار في عام 1952م ) خطوة نحو ذلك، ثم احتلالها عسكرياً وضمها للامبرطورية الاثيوبية بعد ذلك التاريخ بعشر سنوات ( قبل أن تنال استقلالها مرة أخرى عام 1993) ، وهذا الاستقلال جعل إثيوبيا تندفع باتجاه توثيق علاقتها مع إسرائيل ثأرا من الدعم العربي للثورة الإريتيرية، وكسرا لما تعتبره تل أبيب وأديس أبابا "طوقا عربيا في البحر الأحمر".
خرافة
استغلت إسرائيل خرافة مفادها أن سلالة منليك الأول (التي حكمت إثيوبيا على مدار ثلاثة آلاف عام وانتهت برحيل الإمبراطور هيلاسلاسى 1974) هم أحفاد النبى سليمان من زوجته بلقيس ملكة سبأ ، وبنت إسرائيل على هذه الأكذوبة بغية اللعب في الفناء الخلفي لمصر، ونجحت في تحريك اثيوبيا ، ومعها بقية دول المنبع ضد دول المصب وبدأت آثار اللعبة الإسرائيلية تظهر منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي حينما قدمت تنزانيا مذكرة لبقية دول حوض النيل تطالب فيها بتحديد نصيبها فى مياه النيل.
منذ أوائل الثمانينيات، سقطت ذريعة مقاطعة الدول الإفريقية لإسرائيل، وذلك بإبرام مصر معاهدة الصلح مع إسرائيل عام 1979 وقبلها كامب ديفيد في 1978 ، ولم يعد هناك أي معنى لدولة تنخرط في علاقات تطبيع مع عدوها أن تطالب الآخرين بما لا تفعل، فبدأ وصول خبراء اسرائيليين إلى اثيوبيا يقومون بإجراء ابحاث تستهدف اقامة مشروعات للرى على النيل تستنفد 7 مليارات متر مكعب  رغم انتفاء حاجة أديس أبابا وقتها الى مشاريع مائية
وامتد التنسيق الاسرائيلى الاثيوبى الى جنوب السودان الذى أقام دولة انفصالية بتشجيع ودعم من الغرب، أخذت تطالب بحقوقها في مياه النيل وتحتج على عدم دعوتها لحضور اجتماعات دول الحوض، ليكتمل الطوق، حيث يمثل النيل الأزرق الرافد الرئيسي لنهر النيل، وهو واقع تحت سيطرة إثيوبيا، ويمثل بحر الجبل الذي تسيطر عليه (جنوب السودان ) شريانا مهما.
ظلت شركة تاحال الإسرائيلية تقوم بمشاريع وأعمال رى فى اثيوبيا لحساب البنك الدولى بالاضافة الى أعمال انشائية فى منطقة أوجادين المتنازع عليها مع الصومال. وبدأ إحياء مشاريع مائية سبق و أعلنت أثيوبيا عزمها على تنفيذها ،ووصل عددها الى 40 مشروعا مائيا تشمل 36 سدا على النيل الازرق .
تدخلت اسرائيل أيضا لدى البنك الدولى لتمويل عدة مشاريع بينها مشروع (الفشقا) ، لكن ارتفاع تكلفة المشروع بالنسبة لامكانيات أثيوبيا الاقتصادية دفع البنك الدولى لعدم اكمال الصفقة.
سد النهضة
يتساءل الكثيرون عن سد النهضة أو سد الألفية كما سمي من قبل ، وما إن كان سيؤثر فعلا علي وصول مياه نهر النيل لمصر ؟ أم أن هناك مبالغة ما ، فقد تعود كثير من الدارسين والخبراء المصريين على ترديد مقولة ربما تبدو خادعة، وهي أن إثيوبيا لاتملك التأثير على حصة مصر من المياه، وأن أمننا المائي هناك في جنوب السودان.
مشروع الألفية هو بالأساس مشروع لتوليد الطاقة الكهربائية، يهدف إلى تلبية النمو المتزايد للطلب على الطاقة وتصدير الفائض منها للدول المجاورة ، وطبقا للخطط فإن المشروع يمكن أن يتم الانتهاء منه في سبع سنوات، ويبدأ أول انتاج للطاقة الكهربائية منه في سبتمبر2014
واحدة من أهم خطوات الحكومة الإثيوبية في طريق التزامها بالطلب الحالي علي الطاقة في البلاد، ومن المتوقع ان يتم الانتهاء من العمل فيه في سبع سنوات. وإتمامه بنجاح يزيد الطاقة التوليدية للبلاد إلي 10 آلاف ميجاوات.
يقع المشروع علي بعد نحو 700 كيلو متر شمال غرب أديس أبابا علي ضفاف نهر الأباي قرب الحدود السودانية، وسيكون الجزء الرئيسي من السد عبارة عن إسطوانات من الأسمنت المضغوط بارتفاع 50 مترا وطول 5 كيلو مترات، ومحطتي طاقة في أسفله إحداهما بقوة10 توربينات والثانية بقوة5 توربينات، بما يتيح توليد 5250 ميجاوات من المحطتين، إضافة إلى قناة مبنية من الأسمنت لتصريف فائض المياه .
وطبقا لتقارير فنية فإن متوسط تدفق النهر في موقع بناء سد النهضة يصل الي 1574 مترا مكعبا في الثانية.
ويتم انشاء خزان على مساحة 1680 كيلومترا مربعا، يصل ارتفاع المياه فيه 640 مترا فوق سطح البحر في الأوقات العادية، و550 مترا في وقت انخفاض الفيضان، وتصل سعة الخزان إلى 63 مليار متر مكعب .
ويحوي السد 4 قنوات بقطر 8 أمتار لكل منها ، كما سيتم بناء سد من الركام في قاع النهر لاغلاق النهر في موسم الجفاف لاستكمال بناء القطاع الرئيسي فيه.
ويحتوي مكان المشروع على أماكن للاعاشة والتسكين والخدمات علي مساحة 11 كيلومترا ، ومبني إداري وآخر للزوار إضافة إلى نقطة حراسة وعيادة وأنشيء بالفعل مخيم مؤقت لتسكين العمال والمهندسين في الربع الأخير من 2010 ومن المتوقع أن يصل عدد العاملين في سد النهضة إلي12000 شخص.
وهناك جدول زمني للبناء ، الخطوة الأولى فيه تحويل مجرى النهر ، حتى يتمكن العمال من بناء القطاع الرئيسي في منتصف السد ، وتمر المياه عبر  أربع قنوات فيه.
ومن المقرر أن يكون القطاع الرئيسي في منتصف السد أكثر إنخفاضا من الجزءين الأيسر والأيمن من السد ، حتى يعمل كممر لتصريف المياه في مواسم الأمطار حتي يتسني بناء الأجزاء الأخري منه ، ويتوقع أن ينتهي العمل في بناء هذا الجزء خلال سبتمبر 2016
كما سيتم بناء مولدي طاقة، الأول تتم تجربة أول وحدنين للتوليد فيه مع بداية سبتمبر2014، والثانية تتم تجربتها في ديسمبر2016 ، علي أن يتم تشغيل جميع الوحدات بعد ذلك التاريخ بعام.
حلم قديم
منذ الخمسينات كانت إسرائيل هناك ..  البدايات من خلال مؤسسات الدراسات الاستراتيجية الامريكية، والبعثات الدولية الى دول منابع النيل، أو عبر تشجيع الشركات الامريكية الخاضعة لنفوذ اللوبي الصهيوني على تنفيذ مشاريع الرى فى هذه الدول.
في الثمانينات بدأ الوجود المباشر عبر خبراء اسرائيليين وصلوا لإثيوبيا وأوغندا لإجراء أبحاث حول إقامة مشروعات ري على النيل رغم انتفاء الحاجة إليها في دولة مثل أوغندا التي تبلغ كمية الأمطار الاستوائية فيها سنويا 114 مليار متر مكعب، والهدف استنزاف جزء كبير من مياه النيل التي تصل إلى مصر، يصل إلى نحو 20 % .
وزين الخبراء الإسرائيليون لإثيوبيا إقامة 40 مشروعا مائيا على النيل الازرق أهمها السد التخزينى على نهر "فينشا" أحد أهم روافد النيل الأزرق، واستصلاح 400 هكتار بمحازاة الحدود السودانية بمساعدة إسرائيلية مباشرة.
وارتبط تصاعد نبرة المطالبة الاثيوبية بحصتها في مياه النيل على الدوام بمؤشر علاقاتها بإسرائيل، كما استطاعت تل أبيب المحافظة على مستوى متميز من العلاقات بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم في إثيوبيا، من هيلاسيلاسي إلى منجستو هيلا مريام وصولا إلى مليس زيناوي، بما يعني أن الوجود في حوض النيل بحد ذاته، يحتل أهمية بالغة فى سياسة إسرائيل الخارجية فعملاء الموساد كانوا يتولون تدريب قوات الشرطة الاثيوبية في عهد هيلاسيلاسي وبعد سقوطه ومجيء نظام منجستو صاغت إسرائيل علاقة جيدة معه وظلت تقوم بنفس الدور، ولم يختلف الأمر كثيرا مع الثوار الذين تولوا السلطة بعده.
فإثيوبيا يتم مدها بأسلحة ومعدات عسكرية وذخائر اسرائيلية كما يتم تدريب الطيارين الاثيوبيين بمعرفة القوات الجوية الاسرائيلية، إضافة إلى تنسيق كامل على المستويات السياسية والأمنية والعسكرية، والهدف هو التلاعب بشريان الحياة للمصريين والضغط على صانع القرار المصري بورقة مياه النيل .
في حين تعتبر أديس أبابا نفسها قلعة في محيط إسلامي يموج بالصراعات والأزمات، ويصدر أنماطاً من العنف والأزمات، وهكذا تقدم نفسها للغرب، وهو أمر يصعب على مصر الحسم العسكري للصراع حول سد النهضة إذا ما كان ذلك واردا في دوائر صنع القرار بحسب ماتروج جهات خارجية.
غير أن الشيء الأكيد هو أن مشاريع إثيوبيا التي تقام على النهر دون موافقة مصرية – كما تنص الاتفاقيات الدولية -  يمثل تهديدا كبيرا لحصة مصر من مياه النيل ، ويؤثر تأثيرا بالغا على كل مشروعات الري والكهرباء والزراعة على امتداد الوادي والدلتا ، كما يقتل أي خطط لتوسيع الرقعة الزراعية.
يتبقى القول أن سد النهضة يمضي في طريقه، فيما يتعثر (وهم) مشروع النهضة الذي خاض مرشح جماعة الإخوان الانتخابات الرئاسية على أساسه.. وكأن مصطلح "النهضة" أبى على نفسه إلا أن يكون وبالا على المصريين في الحالتين.
الأمر يستدعي جراحات عاجلة، وما كنا نستطيعه بالدبلوماسية مع انطلاق أول صيحة تحذير قبل 22 عاما.. ثمنه اليوم ربما يكون فادحا.. وتلك عاقبة الإهمال .. وعاقبة سلطات لاتسمع إلا نفسها.

مقالات اخرى للكاتب

تباريح | مصر ليست مجرد أغنية!





اعلان