26 - 06 - 2024

إنت تاني!!

إنت تاني!!

(أرشيف المشهد)

24-3-2015 | 04:01

سأسلم أن مؤتمر شرم الشيخ فعلاً نجح، وأن الأموال قادمة بالزوفة، وأن العاصمة الجديدة أمل جديد جاء على جثة آمال ماتت دون أن نفيق. هل يعني ذلك أننا على الطريق سائرون وإلى القمة صاعدون؟ لو نظرنا خلفنا لوجدنا أن الطريق ليست جديدة، بل دهسناها مراراً وانتهينا أسوأ مما بدأنا، وأننا كثيرا ما انكسرنا رغم الزاد الوفير والمال الكثير، وكثيراً ما نجح الاقتصاد وسقطت الأمم.

انطوى فرعون وجيشه ودولته رغم أن الأنهار كانت تجري من تحتهم. راحوا وتركوا خلفهم زروعا ومقاما كريما كما أخبر القرآن. لم يهزمه الاقتصاد ولكن قتلته السياسة. لو كان قد أقام العدل وكف آلة قتله عن الأطفال .. لو كان قد أقر لموسى وقومه بحقهم في الخروج لاستمر يتمرغ في المقام الكريم.

ثم أتى الرومان إلى مصر ليغنموا بسلة غذاء العالم، لكنها كانت بلدا عنصرياً ظالماً يحابي الجنود ويستذل الناس، فانهزم أمام الغازي بسبب السياسة لا القدرة الاقتصادية. وفي عصر المماليك كانت الحياة الاقتصادية مزدهرة، لكن فساد السياسة أضاع دولتهم، فتجد أن أربعة عشر سلطانا منهم كان مصيرهم العزل أو الاغتيال، بل يقال: إن بعض السلاطين لم يمكثوا في الملك إلا ساعات! وبعد حين جاء محمد علي ليغير وجه الزراعة والصناعة والعسكرية في مصر، وأعلن نفسه الصانع الوحيد والزارع الوحيد والتاجر الوحيد، أي تملك بر مصر واحتكر الاقتصاد والسياسة. بني الأسطول والترسانة، ودق الجيش المصري أبواب الآستانة مهددا بغزوها. كانت الدولة غنية، لكن ظل الشعب فقيرا ومريضا. استطاع محمد علي أن يبقي الحكم في أبنائه، وأن يترك لهم الدولة ميسورة، لكن طريق الاستبداد معلوم النهايات، فكان المآل إلى الاحتلال والانكسار. الأعجب أن حكم أسرة محمد على قد زال ومصر دولة بلا ديون، بل كانت دائنة لامبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس! تهاوى حكمها والجنيه المصري أغلى من الذهب!

وفي عام ١٩٦٦ وقت حكم ناصر كنا نسبق كوريا الجنوبية وإسرائيل وماليزيا وأيرلندا في الناتج القومي، لكن ذلك لم يمنع الهزيمة المذلة التي حلت بنا بعد عام واحد! نجح ناصر في بناء قاعدة اقتصادية دون مؤسسات سياسية، وكانت النهاية البائسة.

وفي الذاكرة الحديثة نجد أن ثورة يناير ٢٠١١ قامت رغم أن معدل التنمية في مصر بلغ ٦٪ في العام الذي سبقها. كان الاقتصاد في ارتفاع والسياسة في انهيار. باختصار كثيراً ما انكسرنا رغم أن جيوبنا لم تكن خاوية.

انتقلنا من مشروع نهضة ناصر إلى رخاء السادات، ومن صحوة مبارك الكبرى إلىطائرنهضة الإخوان، فإذا بنا نهوي من سفح إلى حضيض، ومن مرض إلى وباء، ورغم أننا انتهينا إلى لا شيئ، إلا أننا مندفعون في نفس الطريق للمرة الألف ربما وجدنا بعض الشيئ! لن يصلح المال ما أفسدته السياسة في بر مصر أو في أي بر آخر، والأنظمة التي تحكمنا لديها إصرار تاريخي على احتكار السياسة وإلهائنا بمشاريع تداعب الخيال وتطلق حبال الآمال إلى السماء، لنظل في هبوط ونحن ناظرون إلى أعلى.

بالعلم والعدل والحرية والقانون تبنى الأمم المستقرة الناجحة، ساعتها ستأتي الثروة لا محالة، أما الدول التي يحكمها فرد يأخذ الناس في طريق أولها حلم وآخرها انكسار فإنها تظل تدور حول نفسها، ويتحول تاريخها إلى حلقات مفرغة لا نكاد نبدأ في مسار حتى "نلف ونرجع تاني"! المؤلم أن بعض الناس في بلادي يرون أن الديمقراطية لا تصلح، والدليل أنها أتت بالإخوان، وما عرفوا أن الانتخابات ما هي إلا انعكاس للديمقراطية وليست هي الديمقراطية. لقد بدأنا من أعلي فكان الهبوط حتمياً. كان كل اهتمامنا هو السؤال: من يحكم مصر؟ لكننا ما التفتنا إلى الأهم: كيف تحكم مصر؟ لو كنا أرسينا المؤسسات، وانتبهنا إلى السقطة الكبرى التي وقعنا فيها عندما رقعنا الدستور الذي ثرنا على من كان يحكم به لما كان مهماً أبداً من يحكمنا، ولن تفرق أن يحكمنا عسكر أو حتى حرامية، لأن الحاكم لن يكون فوق القانون أو أقوى من الشعب، لن يكون مخيرا في أن يعدل ويستقيم.

المضحك والمبكي في وقت معاً أن الناس قضوا تاريخهم يتجرعون الاستبداد، فلما أن ذاقوا لحسة حرية قالوا "إخيه"! واقتنعوا أن لا صلاح إلا بمستبد عادل، رغم أن الاستبداد ينفي العدل من أساسه، كأنك تبحث عن رجل طويل لكنه في نفس الوقت قصير! وفي كل مرة يقنعنا "المستبد العادل" أن ننسى السياسة ونسير في سكة الاقتصاد والمعونات وأحلام اليقظة، وها نحن سائرون من جديد، وبعد أن سرنا دهورا في نفس الطريق ووصلنا إلى لا شيئ، فلا غرابة في أن نقابل هذا "اللاشيئ" من جديد، ولن يكون لنا إلا أن نقول له: إنت تاني!

مقالات اخرى للكاتب






اعلان