30 - 06 - 2024

تمييز؟ مش معقول!

تمييز؟ مش معقول!

(أرشيف المشهد)

  • 18-5-2015 | 16:39

"بعد زواج دام مائة عام، الزوج يكتشف أن زوجته خرساء"... هل يوجد أى منطق فى هذا الخبر؟ هل يمكن أن تكون هناك أى مفاجأة؟ الإجابة: قطعًا لا. إذن لماذا فوجئ المصريون وصدموا من تصريح وزير العدل الرافض لقبول ابن عامل النظافة فى سلك القضاء؟ هل صُدمنا من كلامه أم من واقعنا؟ إن كنا صُدمنا من الكلام فنحن مُغيبون عن الحقيقة، وإن كنا صُدمنا من الواقع فنحن أشد تغييبًا.

المسألة أكبر بكثير وأقدم جدًا من مجرد تصريح صريح لمسؤول. المشكلة الأزلية فى هذا البلد هى الطبقية وعدم الاحتواء، ومن عمق التاريخ وبعد وجود الدولة لم يحدث أن امتلك المصرى الأرض التى يزرعها، لأنها كانت ملكًا للملك وكان المواطن يزرع ولا يملك، ولذا لم يجد المصريون غضاضة من أن يعلن محمد على نفسه مالكًا لكل الأرض الزراعية فى مصر رغم أنه لم يكن قد مضى على وجوده فى مصر سوى سنوات قليلة، ولم يكن يعرف من العربية إلا كلمات قليلة أكثرها استخداما عنده: فلد أرب، أى "ولد عربي" وبقى المصرى يزرع مقابل لقيمات أو قروش شحيحة، ليتولى الوالى إقطاع أرضنا لمن شاء، ومن هنا جاءت كلمة "إقطاع،" وعندما عُزل الخديوى إسماعيل كان فى حوزته أكثر من سبعين ألف فدان، رغم أن محمد على جده جاء إلى  البلاد جنديًا لا يملك إلا عهدته وراتبه.

اذكر لى عهدًا مر كان ساكنو هذا القطر سواسية كأسنان المشط، هذا إن كانوا أسنانًا أصلًا. كان هناك دائمًا سادة وعبيد، ومالك ومملوك، وملتزم وأجير. والملتزم يا سادة كان مملوكًا عينته الدولة العثمانية ليجمع لها الضرائب ويرسلها إلى  الآستانة، وفى المقابل كان يُمنح بعض الأطيان التى تسمى "الوسية" وكان يُجبَر الفلاحون على زراعتها بدون أجر، يعنى بالسخرة. كانت هناك دائمًا النخبة التى تنعم بالسلطة والثروة، والسواد الأعظم الذى يعيش على الهامش ينهشه الفقر والجهل والمرض، وعندما أتى الضباط الأحرار أعلنوا انتهاء مجتمع النصف فى المائة الذى يحتكر السلطة والثروة، وألغوا الألقاب، وهتف جمال عبد الناصر: أرفع رأسك يا أخي؛ قد مضى عهد الاستعباد، لكنى لست متأكدًا أى عهد كان يقصد: الفراعنة أم البطالمة أم الرومان أم الطولونيين أم الفاطميين أم الأيوبيين أم المماليك أم العثمانيين أم العلويين؟ هل كان يقصد عهدًا أم تاريخًا؟ وإن كان عهد الاستعباد قد مضى، فأى عهد تلاه؟ الذى حدث أن النخب اختلف تركيبها، ولم تنته امتيازاتها، ذهب الباشوات وأتى السوبر باشوات، هذا كلُ ما هنالك.

فى كتابهما "لماذا تفشل الأمم" يطرح "آسيمولجو" و"روبنسون" أن الأمم تفشل عندما تتحول مؤسساتها إلى أجهزة نخبوية تسمح لفئات معينة بالانضمام إليها وتستبعد باقى المجتمع، مما يقتل الرغبة فى الابتكار ويغيب المنافسة ويسمح بالاحتكار، ويعجل بالانهيار الاقتصادى ومعه الفشل السياسى،أما المؤسسات الاحتوائية التى تقبل الجميع وتشجع الموهوبين والمجتهدين فإنها تستثمر فى رأس المال الاجتماعى وتحافظ على عافية المجتمع وحيويته، ومن ثم فإن ظهور رجال الأعمال فاحشى الثراء فى المجتمع لا يجب أن يزعج احدًا، طالما أنهم لم يُكونوا ثرواتهم من خلال علاقات مشبوهة مع النظام السياسى،ولم يتمتعوا بأى ميزة احتكارية، أما إذا حدث العكس، فإنه نذير فشل وزوال. مثلًا تقدر حضرتك تقارن بين الطريقة التى صنع بها بيل جيتس ثروته، والطريقة التى كون بها أحمد عز إمبراطوريته لتدرك الفارق بين أنظمة احتوائية وأنظمة تمييزية.

الأمر ببساطة هو أن المساواة ليست إجراءً شكليًا غير مهم لأننا فى حالة حرب حسب الخطاب السائد، بل إن المساواة هى البداية الحقيقية نحو البناء الذى نرجوه ولا نراه، ونوعد به ولا ندركه. إن البشر هم أهم عناصر البناء، ومالم تحتويهم مؤسسات الدولة والمجتمع، فإنهم سيُخصمون من فئة البناء ويُضافون لخانة الهدم، ولذا يجب أن نعيد النظر فى كل أشكال التمييز بين الطبقات، وبين الريف والحضر، والعسكر والمدنى،والأحياء الراقية والعشوائيات، ومدارس الحكومة ومدارس اللغات، أما إن أفترضنا أن الحلول تأتى بالشعارات، والاستقالات، والتنهدات، فما أشبه ما مضى بما هو آت، وكما أصبحنا سيكون البيات، أو ربما الموات.

مقالات اخرى للكاتب






اعلان