29 - 06 - 2024

كل الحقائب تتشابه !

كل الحقائب تتشابه !

(أرشيف المشهد)

  • 28-9-2015 | 23:45

وحين حطت طائرة جدة التى تقلنى إلى وطنى بعد رحلة الحج على ممر مطار القاهرة شعرت بدوخة خفيفة مصحوبة بذلك الخوف القديم من المطارات..تتشتت روحى فى المطارات، تنقسم إلى ذرات صغيرة تتبعثر مع كل جسد يجرى وكل دمعة فرح أو وداع، مع كل حقيبة مكتظة بما فيها من حياة وحلم وأمل.

أخطو خارج الطائرة وأنا آخذ بيد أمهاتى اللاتى كن معى فى رحلة شاقة إبتغينا فيها وجه الله وتأذينا فيها  قبل السفر بسقوط الرافعة على الحجاج فى قلب الحرم، وأثناء وجودنا من فقدان مئات الحجاج فى حادث تدافع منى. كل مرة كنت أمد يدى فيها إلى أحد أساعده على النزول أو الطلوع أو احميه من ضرر ولو صغير كنت أشعر وكأنى أنقذ واحداً منهم لم أستطع أن أساعده.أشده بعيداً عن مركز التدافع، أبعده عن ملك الموت شبراً وأنا  التى أعلم أنه لامفر ولا مٌبعد من قضاء الله.

يتدافع الناس نحو ضابط الجوازات، فى الطريق يدفعون ببعضهم البعض، يسبون، يلعنون، ولا أفهم لم العجلة؟ ولم القسوة؟ ولم هو شحيح الصبر الذى كنا نتحلى به قبل ساعات ونحن نطوف وندعى؟ ولم السرعة والكل يعلم أننا لابد منتظرون الحقائب على السير وأنها تأخذ وقتاً حتى تنزل؟

على السير تبدأ الحقائب فى التدافع ويبدأ العائدون من السفر فى الإلتفاف حول السير. تعلو الصيحات ونسمع خبط الحقائب على الأرض وصيحات جديدة وخبط جديد، هاهى الحقيبة الحمراء، يافرج الله! باقى واحدة ، سوداء طويلة يديها ملفوفتان بشريط أحمر وعلى جسمها شريطتان حمرواتان مثل شعار الزمالك القديم. بلا شك سأعرفها على الفور. ينتهى السير ويعيد نفسه ولا شيء! يدور مرة أخرى وأدقق النظر ثانية، لا شيء! " إنتظرى شوية، الشنط مش بتنزل مرة واحدة، السير صغير، شحنة جديدة حتيجى شوية، صبرك بالله! الحقائب أكثر من اللازم، إنتظرى الطائرة القادمة! إعملى محضر فى الشركة! الشركة مش حتدين نفسها، إعملى محضر فى القسم، شركة زبالة! الشركة ذنبها إيه إحنا اللى مش ملتزمين بالوزن! الطيارة كان فيها 2000 ك زيادة! يحطوا الشنط ونوقع الطيارة يعنى؟"

أكتب المحضر فى الشركة، اعطيهم أوصاف الحقيبة. يطلبون منى الإنتظار حتى تهبط الطائرات التالية. يطلبون منى ان أستريح. اودع بعض أصدقائى وأنتظر. تاتى طائرة، وطائرة، وطائرة. فى كل مرة يتكرر نفس الشئ. يلتف الناس حول السير، تعلو الصيحات والشتائم، وينتشر فى القاعة خبط الحقائب على الأرض ثم على عربات الحقائب مصحوبة باللعنات لمن فقدوا شيئاً. بدأت أحفظ ردود أفعال من يفقدون حقيبة: الغضب، الإنكار، المساومة، الإكتئاب، والقبول، تماماً مثل الإصابة بمرض عضال. يزداد الإحباط لو من فقدت الحقيبة سيدة مصرية قررت أن ترتدى العباءة البيضاء المطرزة بلؤلؤ وترتر لتنزل بها من طائرة الحج وتقابل بها منتظريها. لايمكن إحباطهم فالحاجة قد عادت صفحة بيضاء كمن وٌلدت للتو من بطن أمها، لكن حين تكتشف انها فقدت حقيبتها تبدأ فى الغضب والثورة.

 لاشئ.

أحاول تذكر ما فيها..عباءات لقريباتى..إخترتها بعناية فائقة وأخذت موافقتهن بعد إرسال الصور لهن على التليفون..أدوية أحتاجها ولا أجدها بنفس الجودة فى مصر..شيلان لخالاتى من الكشمير، يقولون أن الشتاء القادم قاس للغاية..التمر بالمكسرات والهيل الذى يحبه أصدقائى.. سجاجيد للصلاة صغيرة، عليها ورود بديعة تؤكد أن الله جميل يحب الجمال، أحضرتها طمعاً فى ثواب من يصلى عليها، عباءات للصغيرات، عباءات للشباب. ألم يكن كل شئ متاح هنا؟ لم كل هذا الشراء؟

بناء على طلب الشركة أعود فى اليوم التالى ليلاً لأتفقد الباقى من حقائب طائرات الصباح. لاشئ. أشهد نزول طائرات الليل واحدة واحدة. أنتظر على السير، اراقب السير وهو يلف، شنط حمراء، شنط بنية، شنط سوداء، شرائط حمراء، شرائط بألوان العلم، يفط كبيرة وعليها الأسماء، أسماء مكتوبة بالخط العريض بأقلام سوداء على حقائب حمراء، أقلام بيضاء على حقائب سوداء، أسماء أسماء أسماء الحاجة فوقية عبد النبى من سمالوط..الحاج شعبان احمد مجاهد، دمياط..لم لم أكتب على حقيبتى الحاجة منى؟ و لم لم أضع رقم تليفونى بالخط العريض؟ أم ترانى فعلت؟ لم لا اتذكر شكل حقيبتى بوضوح؟ هل كانت سوداء بشرائط حمراء؟  أم حمراء بشرائط سوداء؟ لاتوجد شرائط سوداء! بالطبع توجد، ماذا يضعون على صور المتوفين إذن؟ هل سيضعونها على صور أموات منى؟ أم لأنهم شهداء سيضعون الشرائط البيضاء؟ كيف تعرف عليهم ذويهم ولايوجد ما يميزهم؟ صورتهم أمام عينى وهم ملقون تحت الكوبرى حتى وصلنا بعد الحادث بساعات..حكايات المصريين التى سمعتها أثناء إنتظارى الحقيبة فى المطار ترن فى أذنى: "كنا نساعد الجيش فى حمل الموتى، لكن حين رأيناهم يلقون بالجثث فى عربة نقل كلهم فوق بعض توقفنا!"

كانوا بملابس الإحرام البيضاء، لا شرائط، لاعلامات، لا يوجد لبس إحرام بألوان مختلفة. كل الناس فى زى الإحرام تتشابه مثل الحقائب الآن، تبدو كلها متشابهه رغم أننا كنا فى لحظة شراءها وتعبئتها نظنها مختلفة. كلها تمتليء بحياة أو أخرى: ملابس، نضعها ونخلعها، فٌرش أسنان، أحذية نحبها، شرابات، أدوية نأخذها فتريحنا بعض الشيء أو نوقفها. هدايا نحضرها لمن نحب، أو من نجامل، هدايا إشتريناها بدقة ونحن نتخيل لحظة يأخذونها والبسمة على الوجوه أو إشتريناها بلا إهتمام كتسديد خانة. كل الأشياء تتساوى فى لحظة الفقدان.

" لابد من أن تتعاون شركات السياحة مع الإفتاء مع المملكة فى الحد من الناس التى ترمى الجمرات للحد من الضحايا..لابد من الوصاية الدولية على المقدسات..خدمة الحجيج شرف خص الله به السعودية لن يناله غيرهم...لابد من معاونة المملكة فى أيام التشريق ووضع خطط إستراتيجية.. أيدفع الناس عشرات الألوف ليموتوا مثل هذه الميتة؟ سيعدمون ثمانية وعشرين مسئولاً عن كارثة منى..المملكة فى حالة حرب.كل شيء قد يكون مدبراً..شهداء..شهداء...شهداء"

أفيق من دوامة الأصوات فى رأسى على مسئول شركة الطيران السعودية ينادينى، أصبحنا عشرة طويلة. يطلب منى عمل محضر وسيتابعون مع الشركة ويطلبوننى حين تأتى الشنطة. أفعل ما يريدون، لكن قبل أن أمشى أمر مرة أخرى على الحقائب الملقاة فى الصالة الواسعة، أراقب السير بعد أن خفت من حوله الأجساد، وكأنه يلف بلا نهاية، وكأنه يلف فى عقلى بلا توقف. السير طريقة عبقرية لإستعراض الحقائب. ألن يكون مجدياً إستخدامه فى حالة الحروب او الكوارث للتعرف على الجثث؟ تخيلت جثث شهداء منى عليه يلفون يلفون يلفون فى إنتظار أن يرتاح أهاليهم.

 أقلب فى بعض الحقائب الملقاة، أفتح بعض من يتشابه تماماً مع حقيبتى لأتأكد أنها ليست هى، بعد لحظات ينتابنى شعور سئ بإنتهاك حرمة غيرى :"لا تفتحى حقيبة أخرى، لا ترفعى إزار الإحرام من فوق هذا الجسد، ولا ذاك، لاتقلبى فى الجثث، أخرجى من هنا فوراً!"

أمشى والرعشة تهز جسدى كله. عشرات الحقائب تنتظر أصحابها.تنتظر راحة الوصول والإخلاء. لاتختلف حقيبة عن أخرى مهما إختلفت..فى الظلام كل الجثث تتشابه!

مقالات اخرى للكاتب

فى رثاء الخالة: متلازمة الصدمة





اعلان