17 - 07 - 2024

متلازمة جمهوريات الموز !!

متلازمة جمهوريات الموز !!

(أرشيف المشهد)

  • 11-11-2015 | 18:07

كدبلوماسي مصري شاب ، كنت فخوراً بأن إنتخابي رئيساً لرابطة الدبلوماسيين الأجانب في إكوادور عام 1986  سوف يتيح لي مساحات أكبر في الإتصال والتواصل ، حيث وجدت بالفعل الطريق معبداً للقاءات تليفزيونية ، ولقاءات مع أكبر المسئولين لم تكن لتتاح لدرجتي الدبلوماسية كسكرتير ثالث ..

ومن ضمن المقابلات البروتوكولية التي تعين إجراؤها كان اللقاء مع رئيس الدولة السابق  الدكتور أوزفالدو أورتادو ، وقبل المقابلة كنت قد قرأت كل كلمة كتبت عن الرجل ، وبعض عناوين كتبه العديدة فهو شخصية عالية الثقافة ، وقد سجلت في مفكرتي عن هذه المقابلة أنه شرح لي ولأعضاء مجلس الإدارة ما أطلق عليه المعضلة اللاتينية ( Latin American Dilemma  ) ، موضحاً أن شعوب القارة الصاعدة ليس لديها ثقة في مؤسساتها الشرعية ، بما في ذلك الجيش والقضاء والمحامين ، وذلك بسبب ما درجت عليه تلك المؤسسات من إنتهاكات للقانون والإفلات المستمر من العقاب ، وشرح أورتادو أنه رغم التحول الديمقراطي الكبير في الإكوادور إلا أن المجتمع لا يزال يعاني من ضعف يشبه حالة النوستالجيا المريضة التي تصل إلي حد التوق والإشتياق المرضي للحكم الإستبدادي .. في جزء آخر من المقابلة شرح لنا الرئيس أدوات الإستبداد وكان أهمها محاولة بعض الجهات الدفع المستمر لصراع خارجي( مع البيرو ) كي يتم زرع الخوف لدي المجتمع المدني ، ويستمر الشراء المجنون للأسلحة الذي يتلاعب به سماسرة يحققون مكاسب فادحة ، وتقتطع ميزانية الجيش جزءاً هائلاً من موازنة الدولة ، وكان رأيه أن أول خطوات التخلص من الإستبداد ترتبط ضمن أشياء أخري كثيرة بتخفيض ميزانية التسليح وإعادة تخصيص ما ينفق فيها للإنفاق  علي برامج التعليم والصحة والتأمين الإجتماعي .. ولقد سجلت في مفكرتي جملته التي قال فيها : " أن خفض نفقات التسليح لم تعد خياراً وإنما فرض علي مجتمعاتنا الفقيرة " ...

لقد سجلت تلك الكلمات آنذاك ( عام 1986 ) لأنها تلامست مع بعض آرائي الشخصية ، ووجدت فيها تفسيراً للإرتدادات المختلفة التي شهدتها النظم السياسية في أمريكا اللاتينية خلال تلك الفترة الخصبة ، حين تعرضت النظم الديمقراطية الوليدة لمحاولات إنقلابية مستمرة لإستعادة سيطرة النظام القديم علي الأوضاع ، في تحالف واضح ما بين كبار رجال الأعمال وجنرالات المؤسسة العسكرية للدفاع عن مصالحهم الشاسعة ( والأمثلة عديدة في تشيلي والأرجنتين والبرازيل وفنزويلا .. إلخ )  ..

ولقد فكرت آنذاك فيما يمكن أن تحققه مصر إذا خفضت ميزانية التسليح ، خاصة وأن الشعار الذي كان مرفوعاً منذ عهد السادات " أنه لا حروب بعد اليوم " ، ولذلك  عكفت علي دراسة أوضاع بعض الدول التي قامت بإلغاء القوات المسلحة بشكل كامل ، وكان أبرزها بالطبع دولة قريبة في أمريكا اللاتينية إسمها " كوستاريكا " ( وأسمها مكون من مقطعين " كوستا " ومعناه الساحل ، و" ريكا " ومعناه الثري أو الغني ، وبالتالي فأن إسم الدولة هو الساحل الثري )  .

كانت كوستاريكا أول دولة في أمريكا اللاتينية  تتخذ قراراً جريئا عام 1949 ً بإلغاء الجيش ، وصارت دولة بلا جيش منذ ذلك التاريخ وحتي الآن ، وبالتالي لم تتعرض لما تعرضت له باقي دول القارة من إنقلابات عسكرية  ، ورغم ضآلة مواردها إلا أنها تحتل المرتبة رقم 69 علي مستوي العالم وفقاً لمؤتمر التنمية البشرية الذي عقد عام 2009 .

ولم تعد كوستاريكا منفردة بهذا الموقف ، فقد أصبحت " جرينادا " دولة بدون جيش بعد الغزو الأمريكي عام 1983 ، كذلك قامت بنما بإلغاء الجيش بقرار إجماعي من برلمانها عام 1990 ، كما أن " هايتي "  تم حل جيشها عام 1995 ، علماً بأن هناك مجموعة من الجزر/ الدول في المحيط الهادي والأطلنطي مثل جزر مارشال وميكرونيزيا وغيرها من الجزر الصغيرة لا يوجد لها جيوش ..

ومن المعروف أن إمارة ليختنشتاين كانت قد ألغت جيشها عام 1868 بسبب نفقاته العالية ، بينما لا يعد الحرس السويسري في الفاتيكان جيشاً بالمعني المعروف ..

وإذا نظرنا إلي الإنفاق العسكري علي مستوي العالم ، فوفقاً لإحصائية منشورة عام 2014  للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن ( International Institute For Strategic Studies   ) فأن أكثر الدول إنفاقاً في المجال العسكري هي بالترتيب : أمريكا والتي يبلغ إنفاقها 581 مليار دولار سنوياً بنسة 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي ، يليها الصين التي تنفق 129.4 مليار دولار سنوياً بنسبة 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي ، يليها السعودية التي يبلغ إنفاقها العسكري السنوي 80.8 مليار دولار بنسبة 10.7% من الناتج المحلي الإجمالي ( وهي من أعلي النسب في العالم ) ، يليها روسيا التي تنفق 70 مليار دولار بنسبة 3.7 % ، يليها بريطانيا التي تنفق 61.8 مليار دولار بنسبة 2.1% ، ثم فرنسا التي تنفق 53.1 مليار دولار بنسبة 1.8% ، يليها اليابان التي تنفق 47.7 مليار دولار بنسبة 1% ، ثم الهند التي تنفق 45.7 مليار دولار بنسبة 2.2% ، ثم ألمانيا التي تنفق 43.9 مليار دولار بنسبة 1.1% ..

وتجدر الإشارة إلي أن النفقات العسكرية لإسرائيل تبلغ 22.5 مليار دولار بما يمثل 1.5 % من الناتج المحلي الإجمالي ، بينما تبلغ النفقات العسكرية المصرية وفقاً للمصادر المتاحة حوالي 4 مليار دولار سنوياً ( حوالي 35 مليار جنيهاً تقريباً ) ..

وربما يحتج البعض بأننا لا نعيش في يوتوبيا أو مدينة فاضلة ، وبأن إقدام أي دولة بإلغاء جيشها هو تهديد خطير لهذه الدولة يصل إلي حد تهديد وجودها نفسه ، وفي الواقع لم يتأثر الأمن القومي للدول التي أقدمت علي هذه الخطوة الجريئة ، وكما قدمت فأن دولة مثل كوستاريكا تمكنت بمواردها المحدودة أن توفر لمواطنيها حياة كريمة بغير إضطرابات ، لدرجة أنها احتلت المركز الأول عام 2009 في مؤشر " الكوكب السعيد " ..

الحقيقة أنه عند اتخاذ أي قرار مصيري فأن الجبان يتساءل : " هل هو قرار آمن ؟ " ، بينما يتساءل صاحب المصلحة : " هل هو  قرار مفيد لي ؟ " ، بينما يتساءل رجل السلطة : " هل هو قرار شعبي ؟ ، ولكن الإنسان العاقل هو من يسأل :" هل هو قرار سليم يحقق مصلحة عامة ؟ " .. وأتصور أن هناك أوقاتاً ينبغي أن  تتخذ فيه قرارات لا تبحث فقط عن الأمن أو المصلحة الضيقة لجماعة أو طبقة أو لتحقيق شعبية زائفة ، وإنما لأن تلك القرارات تحقق مصلحة الغالبية العامة للشعب .. 

----------

مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!