29 - 06 - 2024

الجيش والسياسة

الجيش والسياسة

(أرشيف المشهد)

  • 28-7-2015 | 23:42

(هذا  مقال - ضمن مقالات عديدة لم تنشر - كتبته أثناء حكم المجلس العسكري، ولم يوافق أحد علي نشره ..)

صدرت التعليمات بحالة طوارئ ، وتم إلغاء جميع الإجازات ، وأبلغنا القائد بأنه تم رفع درجة الإستعداد ، ويجب مراجعة أسلحة الوحدات والذخائر .. وبدأ الجميع يتحركون مثل الساعة المنضبطة لتنفيذ المهام التي تتخذ عند رفع درجة الإستعداد القصوي ..

جلس ضابط الصاعقة الشاب في ظلام خيمته وقد امتلأ صدره بانفعالات متباينة ، أنه لم يسبق رفع درجة الإستعداد بهذا الشكل بعد انتهاء حرب العبور ، فهل يتحقق ما كان يتمناه ؟ ، هل يتم استئناف العمليات القتالية ضد إسرائيل ؟ .. كان يعلم أن إسرائيل لا تزال تتعنت في الإلتزام بالإنسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 ، ولذلك فقد كانت كلمة الصباح التي يلقيها كل يوم في الطابور الأول تتضمن التركيز علي أنه " ينبغي لرجال الصاعقة الأبطال ألا يلتفتوا لما يتردد عن المفاوضات ، يجب أن نكون جاهزين للقتال في اللحظة التالية ، وأن نترك السياسة للسياسيين " ...

كان ذلك مساء يوم 18 يناير 1977 .. الذي بدأ بمظاهرات صاخبة شملت كل أنحاء مصر بسبب الزيادات التي اعلن عنها في بعض السلع الأساسية .. جلس صاحبنا مع صديقه الضابط فتحي يتحدثان عن ذلك ، ويتساءلان عن سبب رفع درجة استعداد القوات المسلحة ، فقال صاحبنا بثقة قائلاً : " يبدو أن بندقيتي 1056 سوف تواصل مهمتها في قتل العدو مرة أخري ، وهذه المرة لا وقوف إلا في تل أبيب " ...

صدرت التعليمات لكل الضباط بالتجمع في مقر القيادة ، وبدأ القائد يتحدث وكأنه يقرأ نشرة أخبار عن الشيوعيين الذين يريدون إحراق مصر الحبيبة ، والمخططات الأجنبية لهدم ما حققناه في 6 أكتوبر 1973 .. ثم قال وهو يشدد علي مخارج ألفاظه : " مصر في حاجة إليكم مرة أخري " ، ثم واصل يحدد مهام العمليات ...

فوجئ ضابط الصاعقة الشاب أن مهام العمليات في قلب القاهرة ، وكان نصيب وحدته هو ميدان الأوبرا ... قال القائد بصوت محايد كله صرامة : " هؤلاء المجرمون سرقوا أسلحة من إحدي فرق المشاه .. أريد أن تتعاملوا بكل الشدة والحسم " ...

بعد انتهاء مؤتمر القائد ، استفسر كما هو مألوف بعد تسليم المهمة عما إذا كان هناك سؤال لدي أي ضابط ؟ .. رفع صاحبنا يده وطلب الكلمة ...

" يا أفندم .. بندقيتي رقم 1056 التي استخدمتها في العبور ، لا يمكن أن أطلق منها طلقة واحدة علي أبناء شعبنا " ... قال له القائد غاضباً بحسم أن يحضر إلي مكتبه بعد المؤتمر ..

في مكتب القائد دار حديث طويل لا محل له الآن ، ولكن انتهي الأمر بأن حذره القائد بأن اعتراضه علي الأمر العسكري أثناء رفع درجة الإستعداد يعرضه للوقوف أمام جماعة ضرب النار ، ولولا أنه يعرف شجاعته في الحرب لنفذ ذلك فوراً ، ثم قال له بنبرة أبوية : " يا بني .. العسكري المحترف لا يختلط بالسياسة ، وإذا أردت ممارسة السياسة عليك بالإستقالة من القوات المسلحة " .. ثم قام القائد بكل نبل برفع إسم الضابط من القوات المكلفة بالمهام وأبقاه ضمن القوات التي لن تتحرك في المؤخرة ...

أتذكر ذلك الآن ، وأتذكر أشياء أخري كثيرة قد أكتب عنها ذات يوم ، ولكنني فقط أريد أن أركز علي ما يمكن استخلاصه ، فالمفروض أنه " لا سياسة في الجيش ، ولا جيش في السياسة " ، فأحدهما يفسد الآخر ، ولقد دفعنا ثمناً باهظاً عام 1967 نتيجة لذلك الخلط ، ولم نحقق نصر 1973 إلا عندما تخلصنا منه .. هذه حقيقة لا مراء فيها ..

لذلك فقد ادهشني أن هناك من يصر علي إستمرار الجيش في إدارة البلاد لفترة أطول ضد رغبة الجيش نفسه ، لأن ذلك يعني حالة من الإفلاس السياسي للنخب المصرية ، بل أن استمرار الدفع عليه بوسائل مختلفة هو خطر داهم يهدد مكاسب ثورة يناير (وهذا قد يكون موضوع مقال آخر) ..

لقد رويت قصة ضابط الصاعقة الشاب أيضاً كي أوضح ذلك ، فهذا الضابط رفض الإشتباك مع أهل وطنه ، ولكنه لم يترك معسكره كي يتظاهر في الميادين ، وكان قائده حكيماً ، وربما شاركه عواطفه ، فرفض أن يقدم ذلك الضابط لمحاكمة عسكرية ، ولكنه قدم له النصيحة ، والأهم من كل ذلك أن كل قوات الصاعقة التي نزلت إلي الميادين حينها لم تحمل معها ذخائر حية ، وإنما ذخائر " فشنك " مما يستخدم في التدريبات (أي مجرد طلقات صوتية )...

لقد تعلمنا في مدرسة العسكرية المصرية معني أن نقسم " بالشرف العسكري " .. وهو قسم لو تعلمون عظيم .. أقول ذلك لأبنائي من شباب الوطن ، داخل وخارج المؤسسة العسكرية .. أقولها كمقاتل سابق دخل الجيش من باب السياسة عندما ترك كلية الهندسة كي يشارك في تحرير أرض بلاده ضمن مئات الآلاف من شباب جيله .. وأقولها اليوم كشيخ سعيد بأبناء مصر من الشباب ، ويري فيهم مستقبل مصر المشرق الذي حارب من أجله ذات يوم ..

جيش مصر يا سادة مؤسسة وطنية خالصة فلا تجروه إلي مستنقعاتكم السياسية .. لا تلعبوا بالنار التي ستحرق الجميع .. دعوه يحمل مهام المرحلة الإنتقالية كي يعبر بالوطن تلك الفترة الشائكة ، ثم نشكره ونطلب منه العودة إلي ثكناته مرة أخري في أقرب فرصة ...

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان