26 - 06 - 2024

والذكرى تنفع الثوار "2"

والذكرى تنفع الثوار

(أرشيف المشهد)

30-1-2015 | 18:04

ثالثا: إرحل ياخنزير

"إرحل ياخنزير" هو ما كانت تقوله سيدة متقدمة في العمر متواضعة الحال شاركت، متجهمة، في جمعة الغضب المصري (28 يناير 2011) عبر لوحة مكتوبة بخط اليد حملتها في صمت بليغ بيد وهي تحمل في يدها الأخرى كسرة خبز. وفي موقف هذه السيدة، وفي الاشتراك الواسع لجميع فئات العمر ولبنات مصر العظيمات في الدعوة للثورة والمشاركة المتعاظمة فيها، دليل قوي على المشاركة الواسعة لقطاعات عديدة من الشعب المصري في ثورة الغضب، ومن دون وقوع أي حادثة إساءة سلوك أو تحرش جنسي أو نزاع طائفي. فقد صهرت الثورة الشعب في وحدة وطنية رائقة تعالت على جميع الانقسامات والنزاعات التي كانت تتأجج في ظل الحكم التسلطي القمعي والفاسد. وفيها دليل قوي كذلك على أن جمهرة المشاركين في التظاهر، كانوا يمثلون جمهور الشعب المصري، تمثيلا صادقا، ما يبطل حجة المشككين من النظام وأنصاره من غياب قيادة واضحة ومحددة للمتظاهرين، بل في هذه الخاصية إثبات الطابع الشعبي الغامر للثورة. وفي اتساع المشاركة أيضا دليل على أن المشاركين كانوا يعلمون طبيعة نظام الحكم التسلطي، ومن كان المسئول الأول عن جرائمه في حق الشعب، كما يدل على حقيقة مطالب الثورة الشعبية التي كان عليها توافق واسع في أوساط الحركة الوطنية قبل اندلاع التظاهرات، ما يبطل حجة النظام بأن الثوار ليسوا إلا قلة قليلة من شعب مصر. والنتيجة المباشرة لكل ذلك هي أن محاولات الاسترضاء الشكلية التي أقدم عليها المتسلط الأكبر، مع الإبقاء على جوهر الحكم التسلطي، وهو على رأسه، لم تفلح في كبح جماح الثورة الشعبية عليه وعلى نظام حكمه. فماذا كان رد فعل المتسلط الأكبر؟

كان رده أن أعاد مصر سياسيا أكثر من خمسين عاما إلى الوراء بتشكيل الطاغية لنظام حكم عسكري يتستر وراء ارتداء عسكريين سابقين للبزة المدنية. فالإصلاح الذي تفتق عنه ذهن المتسلط الأكبر اليائس هو تعيين نائب له من المؤسسة العسكرية (رئيس جهاز المخابرات، صديق الاستخبارات الأمريكية الذي كان يتولى مهمة إخضاع المقاومة الفلسطينية، على الأغلب لطمأنة إسرائيل والغرب) وتكليف قائد سابق لسلاح الطيران بتشكيل حكومة جديدة. 

وفي أول ظهور علني له منذ بدء ثورة التحرير الطاهرة، اختار المتسلط الأكبر أن يكون في مركز عمليات القوات المسلحة وكأنما مصر الرسمية في حالة حرب، حربه مع شعب مصر. وأتبع ذلك الإعلان بتحليق طائرات مقاتلة ومروحيات عسكرية على ارتفاع منخفض لترويع "الأعداء" بين أبناء الوطن. 

وبهذه العقلية العسكرية العقيم ظلت مصر محرومة من الاتصال بالعالم الخارجي لأطول من أسبوع بقطع شركات تقديم الخدمة جميع وسائل الاتصال بشبكة الإنترنت تنفيذا لأوامر السلطات التي تدعي التمسك بالتقدم والحضارة، بينما أعادت مصر إلى العصر الحجري تحقيقا لأمن الحكم التسلطي وفق مفهوم متخلف وقاصر. وكان من أولى قرارات نائب الرئيس "المصلح"، الذي إدعي هو ورئيسه الجلاد الأكبر، الحرص على حرية التعبير، وقف تلقي إرسال قناة الجزيرة والقبض على موظفيها بمصر.

وظل الطاغية يرفض الاستماع لصوت العقل، محدثا تغييرات شكلية لا تفي بمطالب الثورة الشعبية في إسقاط نظام الحكم التسلطي الذي جثم على صدور الناس، اغتصابا للسلطة، أطول من ثلاثة عقود، مفضلا أن تدمَّر البلد أمنا واقتصادا، حابسا المواطنين في أكبر مدن البلد خلال حظر تجوال طال باطراد من 13 إلى 15 ثم إلى 16 ساعة يوميا، محولا البلد إلى سجن ضخم، عن أن يتنحى ويقي البلد شر الفتنة والدمار.

وبلغ به الاستنطاع أن أعلن عن حكومة جديدة (الرئيس هو من يشكل الوزارة) غالبية أعضائها من الحكومة المقالة، التي أدانها جميع أركان النظام، والوزراء الجدد من بينهم من الطينة ذاتها، فبدت كمحاولة ساذجة وحمقاء للالتفاف على المطالب الشعبية بالتغيير الجذري وإسقاط النظام القمعي الفاسد.

علامات الساعات الأخيرة؟ 

بدت علامات النهاية، وبشارات سقوط الحكم التسلطي، في يوم التظاهرة المليونية التي أعلن عنها شباب مصر "اللي زي الفل" في فاتح فبراير، حين بلغ هلع النظام مداه بإيقاف حركة القطارات تماما وإغلاق الطرق الموصلة بين مدن التظاهر الأساسية والقاهرة في محاولة يائسة لمنع تلاقي المتظاهرين في ميدان التحرير، الذي استحق اسمه بجدارة، عندما تكرر إعلان الجيش المصري عن موقفه النبيل القاضي بالاعتراف بمشروعية مطالب الثورة وعزمه الامتناع عن استعمال العنف ضد الشباب الثائر، وبدأ نائب الرئيس المعين الإعلان عن تكليفه بالحوار مع المعارضة، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، من دون وصمها "المحظورة"، وأي تغيير!، على أن يشمل الحوار أمورا كانت تبدو من مستحيلات النظام، مثل تعديل الدستور لتحقيق الديمقراطية والتخلص من أعضاء مجلس الشعب الذين أنجحهم النظام بالتزوير الفاجر، واكتملت علاما النهاية بالإعلان عن إرسال الإدارة الأمريكية لمبعوث كان سفيرا في مصر ليبلغ الطاغية رسالة تحرَّج الرئيس الأمريكي من إعلانها علنا هي رسالة السيدة المصرية التي بدأنا بها الجزء السابق من هذا المقال، ذاتها.

(الآن، اتضح بجلاء أن ذلك الموقف من المؤسسة العسكرية لم يكن إلا مناورة لتفادي الصدام المباشر مع الجموع الشعبية المنتفضة حتى يستتب لبها أمر حكم البلاد وتتفرغ حينها لإجهاض الثورة الشعبية بالخديعة والعنف الخسيس، لا سيما باضهاد النشطاء من الشباب، على الأرجح تحت قياة الرئيس الحاكم حاليا). 

الخنزير العجوز المراوغ

عندما تعاظم الضغط من أسياده في الخارج ولم يبد الشباب المصري أي بادرة تنازل عن مطلبي رحيله وإسقاط النظام، في يوم التظاهرة المليونية، لم يجد الجلاد بدا من الاستجابة لكنه استمر في التسويف والمماطلة. فعرض ألا يرشح نفسه (بعبارات تنم عن النية في الماضي، وليس العزم أو الوعد ودون أن ينفي إمكان ترشح نجله) لمدة رئاسية سادسة (!) وأن يتعهد بالإشراف على تحقق بعض الإصلاحات الدستورية والتشريعية والسياسية التي طالما طالبت بها الحركة الوطنية وأكدها شباب ثورة الفل الشعبية، ومنها تخفيف القيود في شروط الترشح للرئاسة- المادة 76 سيئة السمعة- والمادة 77، لقصر ولاية الرئيس على مدتين متتاليتين فقط، ولكنه لم يتعرض للتخلص من القيود على الحرية التي أدخلها في قلب الدستور ولا لإلغاء السلطات المطلقة التي يكفلها الدستور المعيب القائم لرئيس الجمهورية، ما يعني الإبقاء على جوهر الحكم التسلطي في الدستور. ومغزى هذا الموقف أن يحتفظ الرئيس بصلاحياته المطلقة لمدة تزيد على سبعة شهور أخرى، ويبقى أي من يخلفه في سدة الرئاسة قابلا للتحول إلى متسلط مطلق، وهذا هو الخطر الأعظم. 

ومن المهم ملاحظة أن هذه الإصلاحات التي عرض، ظل هو نفسه أطول من ثلاثين عاما من حكمه يلتف حولها وينقلب عليها بل ويشرِّع لضدها، كما عرض أن يجري حساب المفسدين شاملا من تسبب في الفجوة الأمنية التي أدت إلى اندلاع أحداث النهب والتخريب يوم الجمعة 28 يناير، ، وهل من غيره مسئول عنها؟ وكل ذلك في المدة الباقية من ولايته الحالية!! 

وكأن الذئب الذي ظل يسرق الغنم ويقتلها طوال ثلاثين عاما كان يتقدم الآن لحمايتها. وهل يصدق ذلك عاقل؟

ولا يمكن منطقيا استبعاد دور تصلب الشرايين في إنتاج هذا النمط من السلوك المتباطئ والعنيد، والرجل في عقده التاسع. لكن، في مجملها، وفي سياقها، ليست هذه العروض إلا محاولة يائسة للمراوغة ولشق صف المعارضة وصفوف الثورة الشعبية كسبا للوقت. والأهم أن الحكم التسلطي المطلق لا يؤمن، من حيث المبدأ، جانبه أبدا.

إلا أن الخشية، كل الخشية، أن يستغل الرئيس المتصلب المراوغ سلطاته المطلقة في الشهور القادمة وتجييش من يأتمرون بأمره لشن ثورة مضادة لثورة الفل مما يوقع الفرقة، وربما الاقتتال بين شباب ثورة الفل والجيش وبين مناصري الرئيس المأجورين وقوات أمنه. والحق أن ثورته المضادة قد بدأت فعلا في اليوم التالي لخطابه مباشرة، بإدخال شقاة صعاليك مأجورين ومسلحين، بعضهم على دواب ويحملون هراوات وسلاحا أبيض، وحتى قنابل غاز مثير للدموع، وأسلحة رصاص حي- من صنف ما اعتاد نظام الرئيس توظيفهم في سياق ظاهرة البلطجة الدنيئة التي أدخلها نظامه على الشارع السياسي في ظل الفكر الجديد لحزبه في حقبة صعود نجله أمين السياسات بذلك الحزب- بغرض الاشتباك العنيف مع شباب الثورة العزل في ميدان التحرير، وكانت حصيلة إطلاق جحافل "مؤيدي الرئيس" عدة قتلى وألف مصاب، وبلغ الغباء ببعضهم أن وجدت عليه بطاقات شرطة سرية، وبلغ الغباء بمن استأجروهم أن كانوا يدفعون لهم مكافآت ما جنت يداهم علنا في موقع المعارك. وتكشف مع الوقت أن نجل الرئيس وأمين حزبه اتفقا مع أعضاء في مجلس الشعب المزور ورجال أعمال من قيادات حزب الحاكم لتنظيم هذه الجرائم وتموّيلها، وبعلم وزارة الداخلية، ومساعدة بعض من قياداتها ورئيس اتحاد العمال ووزيرة القوى العاملة، الخائنان للطبقة العاملة. وعلى الرغم من أن وزير الداخلية الجديد كان قد أعلن إعادة شعار الشرطة إلى " الشرطة في خدمة الشعب"، إلا أن الواضح أن الشعار قد ظل كما كان تحت الوزير السابق المجرم "الشرطة في خدمة الشغب"!

(وقد اتضح الآن أن المؤسسة العسكرية بقيادة المخابرات الحربية قد قامت فعلا بالتحالف مع أساطين أصحاب الأموال وتيار اليمين المتأسلم في بعض أحيان بشن الثورة المضادة التي تكللت بالنجاح في 3 يولية 2013 بعد واحدة من أكبر المكائد التي حاكتها المخابرات العسكرية ضد الثورة الشعبية العظيمة) 

والسؤال البسيط ولكن بالغ الدلالة هو الآتي: لقد اشتهرت ثورة الشباب الفل بكونها سلمية تماما، وبالغة الانضباط والتحضر، حتى لم تحدث مشاجرة واحدة أو واقعة تحرش جنسي واحدة، بل كانوا يتولون تنظيف الميدان، فلماذا إذن تحولت ساحات الاعتصام إلى مواقع معارك حربية عند إطلاق قطعان "مؤيدي الرئيس" عليهم؟ (وبعد اقتناص المجلس الأعلى للقوات المسلحة لحكم مصر في أعقاب تنحيته لرئيسه السابق؟)

في الإجابة دليل دامغ على اكتمال المؤامرة التي كانت مبيته على الثورة الشعبية قبل إعلان مشروع الرئيس، الأمر الذي ينفي أي مصداقية لمقترح الرئيس ويحجب أي ثقة عن الرئيس ونظامه، نهائيا.

لقد اختار الرئيس (المخلوع ومجلسه العسكري بعده)مواجهة الشعب بالعنف الخسيس، ويبدو أن المشيئة قد قضت بحرمانه(ومجلسه)  من خروج كريم؛ قصاصا عادلا لجرائمهما الجسيمة والعديدة في حق الشعب.

وبعد انتشار أخبار المذبحة تبارى أساطين النظام في اتهام قوى داخلية، أو خارجية، بالوقوف وراء العدوان الغادر على الشباب المتظاهرين سلميا في ميدان التحرير، من دون تقديم أي دليل. والتساؤل الحارق هنا هو إن كانت هناك مؤامرة فكيف لم يكشفها نظام حكم الجنرالات الثلاثة، ونائب الرئيس هو مسؤول الأمن القومي والمخابرات لسنين عديدة، وكيف لم يكشفون عن الضالعين فيها. وإن كان هذا هو حالهم، فأي نجاح ينتظر منهم في المهمة الأولى والأخطر لنظام الحكم هذا ألا وهي استعادة الأمن والأمان المفتقدين.

الخنزير الذبيح في تشنجات النهاية

عندما بدأت الإدارة الأمريكية في الإعلان عن ضرورة تنحي الطاغية الآن وبدأت تجري الاتصالات مع المرشحين لشغل منصبه، مفضلة بالطبع نائب الرئيس ورئيس أركان الجيش، أدلى الطاغية بحديث لمراسلة أمريكية. وأعلن في الحديث أنه قد " فاض به الكيل ويرغب في التنحي، لكنه لا يريد حتى لا تقع البلاد في الفوضى، و"يقتنص الإخوان المسلمين الحكم"، وكأن البلاد في استقرار ونعيم، وكأنه لم يصنع الفوضى بيديه من خلال زبانية نظامه حتى كلف البلاد مئات الشهداء الأبرار وآلاف الجرحى (أكثر من 850 شهيدا وخمسة آلاف جريح خلال عشرة أيام) ناهيك عن مئات المليارات من الخسائر المالية، لكي يبقى على رأس الحكم التسلطي بضعة شهور أخرى، ولابد أن الغنيمة المنتظرة للطاغية وحاشيته هائلة (وردت أنباء عن ضبط واحد من رجال الأعمال المقربين للطاغية وعائلته في دبي وفي حوزته 500 مليون دولار نقدا)!. إلا إنها جريمة ضد مصر، بل ضد الإنسانية، بجميع المعايير توجب أن يقدّم الجلاد (ومجلسه العسكري معه) للمحاكمة ليس فقط في مصر، ولكن أمام المحكمة الجنائية الدولية.

ولكن ليست هذه إلا تشنجات الموت لخنزير عجوز ذُبح فعلا ولكنه يعاني من " حلاوة الروح" كما يقول التعبير المصري الدارج.

نهاية، في السطور السابقة عِبَرٌ متعددة يتعين الاعتبار بها لضمان نجاح الموجة الثورية القادمة، أشرت لبعضها، وأدعو القارئ لاستخلاص ما يراه والعمل بمقتضاها في قادم الأيام.

مقالات اخرى للكاتب

والذكرى تنفع الثوار





اعلان