22 - 06 - 2024

الطريق إلى مصير اليمن "إبتذال الوطنية وتقويض الدولة"

الطريق إلى مصير اليمن

(أرشيف المشهد)

14-2-2015 | 21:32

نعم عزيزي القارئ، ليس من خطأ في العنوان. على الرغم من أن الحملة المحمومة لتصعيد الرئيس الحاكم لسدة الرياسة قامت على الإدعاء الخدّاع بأنه الوحيد القادر على تجنيب مصر سوء المصير الذي انتاب الشقيقتين سوريا والعراق، فقد بتُ أظن أن مصر تحت رئاسته، التي بدأت فعليا في 3 يولية 2013- وإن كان هو ربما متخذ القرار واللاعب الرئيسي على الحلبة السياسية منذ تنحية الطاغية المخلوع في فبراير 2011،. بتُ أظن أن مصر قد قطعت أشواطا على الطريق لتكرار مآسي العراق وسوريا تحت الولاية الثانية للمؤسسة العسكرية، تحديدا المخابرات الحربية. بل إن مصر ربما تنزلق، لشديد الأسف والأسى، على الطريق لتصبح كواحدة من أفشل الدول في المنطقة العربية وأشدها تخلفا، مثل اليمن التعيس، الذي كان سعيدا في سالف الأيام. ولكنه في ظل الحكم العسكري والتسلطي الفاسد أصبح دولة فاشلة تمزقها الصراعات التي يجري فيها الاحتكام للسلاح وتتفكك إلى فتات أصغر وتسكن أرضها جماعت جهادية متأسلمة عديدة مسلحة ومتناحرة، ويرتبط بعضها بخيوط تأثير وتوجيه من خارجها ومن خارج المنطقة العربية.

إن مجاذيب السيسي المعاتيه كانوا ومازالوا يتبجحون بأنه "دكر"، ويالانحطاط التشبيه، وسيحمي مصر من مصير سوريا والعراق.لكن على الرغم من السلطات الاستبدادية الإستثنائية التي منحها للمؤسسة العسكرية وللشرطة والقضاء الذلول، فإن أحداث سيناء وذكرى 25 يناير الأخيرة، تبين أن النتيجة الفعلية لسياسة البطش الأمني والعسكرة التي اتبعها منذ بدأ تحكمه في البلاد والعباد، هي الطريق الأكيد لتصبح مصر أسوأ من سوريا والعراق وأظنه، في الواقع، يخطو وئيدا ولكن أكيدا وصلِفا على طريق على عبد الله صالح، رئيس اليمن العسكري، محدود العلم والفكر، الذي قامت الثورة الشعبية عليه وعلى نظامه الاستبدادي الفاسد ولكن اجتمعت على الثورة قوى الاستعمار المتحالفة مع الرجعية العربية لدحرها. ولابد هنا من ملاحظة أن معسكر الكيد الثورة الشعبية في اليمن هذا، ضم حلفاء الرئيس الحاكم ونظامه في مصر، السعودية وإمارات الخليج ولأسباب جلية.

أولا: إبتذال الوطنية كتمهيد لتقويض الدولة

جرى إختزال مفهوم الوطنية في الولاء المطلق والتسليم الأعمى لقيادة الرئيس الحاكم لسفينة مصر، وللقوى التي يستعمل لفرض سطوته على البلد: القوات المساحة والشرطة، اللذان يحتكران توظيف القوة المسلحة، والقضاء الذلول المتواطئ مع قوتي البطش هاتين، والإعلام المضلّل والمزيف للحقائق وللوعي الذي يدار من مكاتب المؤسسة العسكرية.

القضاء مثلا، وهو في الأساس أحد الأركان الرئيسية للدولة المدنية الحديثة إذا كان مستقلا تماما عن السلطة التنفيذية ولا سلطان على القاضي إلا الضمير الحي وسيادة القانون ومبتغاه الوحيد إقامة العدل. لكن القضاء تحت الحكم التسلطي الراهن لا يتورع عن إصدار أحكام جائرة في محاكمات تفتقر لأبسط مقومات الإنصاف، وبناء على أدلة لا تزيد عن تقارير الشرطة التي لا تخلو من التلفيق، وبالتطبيق المفرط في العقوبات المُغلّظة أصلا في قوانين أصدرتها سلطات تنفيذية غير منتخبة إغتصبت سلطة التشريع من أصحابها الأصليين ممثلو الشعب، على الرغم من مخالفتها الصريحة لنص وروح الدستور، أب القوانين جميعا.

وقد بلغ بعض الأحكام القضائية حد السفه الذي يستعصي على مجرد التصديق، فلعل هذا الحالة الوحيدة في العالم وربما عبر التاريخ كله أن يحكم قاضٍ على مئات من الشباب في مقتبل العمر بالسجن المؤبد للتظاهر ولإتهامات بادية التلفيق بالتخريب والتعدي على رجال الأمن في يوم واحد. ويصدر، القاضي الجبار نفسه، بعد يومين فقط حكما آخر بإعدام قرابة مائتي متهم في واقعة أخرى. ومهما كانت بشاعة الواقعة الأخيرة هذه، وقد كانت غاية في البشاعة لاشك، فإن الحكم بالسجن المؤبد وبالإعدام على المئات يشي بأن عملية الاستدلال القانوني وإثبات التهم جزافية ولابد ينتابها العوار. والمأساة الحقيققة ان المفتي قد أقر أحكام الإعدام الخرافية هذه.

هذا بينما تبقى حقوق شهداء ومصابي الثورة الشعبية العظيمة مهدرة، ويفلت مجرمو نظام الفساد والاستبداد الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه من العقاب بل يستعدون لتبوأ مناصب سامية في مؤسسات الدولة الجديدة التي يقيمها عبد الفتاح السيسي إمتداد أبشع للنظام الذي خرج عليه الشعب مرتين حتى الآن. وترجع هذه المفارقات الصادمة إلى قصور منظومة العدالة وفسادها البيّن.

كل ما سبق يبين أن سيف القانون يستغل جورا لتعميم الرعب ولإهدار حقوق الشعب والثورة، وليس لإحقاق الحق وإقامة العدل. وأظن أن عقلية البطش الغاشم التي تغشى السلطة الحاكمة ومؤيدوها وأنصارها المُغرر بهم تزين لهم أن عليهم قصم ظهور نشطاء الثورة الشعبية من الشباب كي يستتب لهم الحكم. ويواجه أنصار التيار الإسلامي ومؤيديه المصير نفسه قبل أن يتصالحوا معهم تحت ضغط القوى الأجنبية التي يمتثلون لضغوطها لأنهم، ككل أنظمة الحكم التسلطية الرجعية في المنطقة العربية خاصة قبل المد التحرري العربي، يستمدون شرعيتهم من رضى الغرب عنهم وليس من شعوبهم.

وبالإضافة، جرى إمتهان الجنسية المصرية بقرارات جمهورية ينتابها عوار قانوني ودستوري جسيم في نظر رجال القانون الثقاة، على الرغم من أن الجنسية هي مناط الحقوق والواجبات المتساوية للمواطنين جميعا، ومن ثم يمكن إعتبارها العنوان الأصلي للوطنية الذي يجب أن يحترم احتراما قطعيا وصارما.

ليس من قبيل المبالغة الزعم بأن قرارات جمهورية أصدرها الرئيس الحاكم لأغراض سياسية، تتمثل في إرضاء دول أجنبية اشتهرت بالعداء المصالح المصرية والعربية على حكمه، قد عدلّت العبارة القرآنية "إدخلوها بسلام آمنين"، إلى "إدخلوها بسلام أمنين، إذا كنتم من غير المصريين!"

إذ في تكرار شائن لجريمة تهريب الأجانب المدانين في قضية التمويل الأجنبي تحت حكم المجلس العسكري، أفرِج، بقرار جمهوري، عن بيتر جريستي صحفي الجزيرة المحكوم عليه قضائيا بالسجن وسافر إلى بلده، كما أفرِج عن زميله محمد فهمي، الذي يحمل الجنسية الكندية، بعد أن تنازل عن جنسيته المصرية.

هذا بينما تقتل السلطة الشهيدتين الزهرتين، سندس وشيماء وعشرات من المصريين لمجرد التظاهر ويقبع في السجون عشرات الآلاف من المصريين من جميع الاتحاهات السياسية، بالتطبيق الجائر لقانون التظاهر غير الدستوري نفسه. وعليه، فقد صار واجبا وضع التحذير التالي على مداخل مصر: "الجنسية المصرية تضر بحريتك"، بدلا من الترحيب بدخول مصر بالعبارة القرآنية المشهورة ماظل الحكم التسلطي القائم على البطش الأمني يمسك بخناق مصر!

ومن ناحية أخرى، يصر من يختزلون الوطنية المصرية في تعظيم الجيش وقائده بدلا من الشعب والوطن، الخالدين أبدا، بدعوى أولوية محاربة الإرهاب واستعادة الشعار الذي كثيرا ما استغل للتغطية على سوءات الحكم التسلطي "لا صوت يعلو على صوت المعركة"!

لاريب في أن القوات المسلحة تخوض حربا شرسة مع إرهاب آثم يتضامن المصريون جميعا في تأييد القوات المسلحة لشعب مصر فيها، بدءا من واقعة التظاهر الشعبي الضخم في 30 يونية 2013. ولا غرو، فالشعب يحمل الإعزاز والتقدير لقواته المسلحة من حيث أن الكيانين المقدسين، الشعب وجيشه، يلحتمان عضويا والقوات المسلحة لشعب مصر تبقى دوما من الشعب وله.

إلا أن الحق يقتضي أيضا الإعتراف بأمور أربعة.

الأول أن الرئيس الحاكم وغيره من قادة القوات المسلحة قد وعدوا الشعب منذ شهور طويلة بالقضاء على الإرهاب في فترات قصيرة مرات عديدة، بينما تتكرر الجرائم الإرهابية وتزداد إحكاما وفعالية حتى أشاد بها الرئيس بنفسه باعتبارها "أعمالا محكمة" يصعب الوصول لمرتكبيها. وفي كل حادث إرهابي تُؤخذ القوات المسلحة على غرة وتفقد ضحايا بين قتلى ومصابين، بينما يفر الجناة غانمين سالمين، بفعلتهم الأثيمة وحتى بعتاد القوات المسلحة المشترى بأموال الشعب. ولم يعلن في أي مرة  من وقائع الجرائم الإرهابية المتكررةعن تحقيق جدي أو مساءلة واجبة عن الإهمال والقصور الجسيمين المتسببان في تكرار هذه الفضائح بأي معيار عسكري سليم. ولا يلي هذه الجرائم المتكررة إلا تكرار الرئيس وقادة القوات المسلحة غيره تبريرات واهية للفشل السابق، والوعد مجددا بأن القضاء على الإرهاب صار وشيكا، وبإعلانات مجهلة عن إيقاع قتلى وجرحي وتدمير أوكار لإرهابيين أو مسانديهم. حتى يفيق المصريون يوما على جريمة إرهابية جديدة.

وعلى سبيل المثال، بعد سلسلة الهجمات الإرهابية المنسقة في سيناء على أكثر من موقع للجيش والشرطة في التوقيت ذاته وبطرق هجوم متباينة، وفعالة كلها، أصدر المتحدث العسكري بيانا مؤداه أن النجاح في محاربة الإرهاب هو ما استدعي هذا الفشل الذريع؛ قال فيه إنه "نتيجة للضربات الناجحة، التي وجهتها القوات المسلحة والشرطة المدنية ضد العناصر والبؤر الإرهابية خلال الفترة الأخيرة بشمال سيناء ، وفشل جماعة الإخوان الإرهابية والعناصر الداعمة لها لنشر الفوضى فى الذكرى الرابعة لثورة (25 يناير) المجيدة، قامت عناصر إرهابية مساء 29 يناير 2015 بالاعتداء على بعض المقار والمنشآت التابعة للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية بمدينة العريش". فلأي معاتية يوجهون الكلام، وأي مخابيل يصدقونهم؟

الخشية أن الرئيس الحاكم في سعيه لاكتساب مصداقية، داخليا وخارجيا، يفتقدها مشروعه السياسي، القائم أساسا على الإيهام والخداع كحروب الجيل الرابعالتي يزعم أن مصر تتعرض لها، يُعرّض القوات المسلحة لشعب مصر لمهمة اعتبرها هو ذاته وقت أن كان قائدا عاما ووزيرا للدفاع مستحيلة ولا تناسب الجيش، باعتباره على حد قوله "آلة قتل". وحذّر، لا فض قوه وقتها من أن تصدي الجيش لمكافحة الإرهاب يعني ضحايا وخسائر مدنية ضخمة. وهذا بالضبط ما تحقق في سيناء الآن،وإن كان في أغلبه لا يعلن عنه، خاصة في إعلام العُهر المدار من المؤسسة العسكرية.

والأمر الثاني، نتيجةً، هو أن أي تقييم جاد ومنصف لابد ينتهي إلى أن القوات المسلحة قد فشلت حتى الآن في محاربة الإرهاب. بل يقتضي الحق الإعتراف بمسئولية المؤسسة العسكرية عن انزراع قوى الإرهاب وترعرعها في مصر، وتمكنها من الحصول على كميات هائلة من الأسلحة والذخائر. فالمؤسسة العسكرية، وعلى وجه التحديد المخابرات الحربية وأسلحة القوات المسلحة الأخرى، لا سيما حرس الحدود، قد تقاعست عن رصد هذه الجماعات وخنق مصار تمويلها وتسليحها منذ ما قبل إندلاع الثورة الشعبية العظيمة في يناير 2011، وهما تقصير في الواجب وإهمال للمسئولية جسيمان، لم يحاسب عنهما أحد مسئول مطلقا بينما كان يتعين مساءلة كل وزراء الدفاع وقادة الأركان ورؤساء المخابرات منذ فبراير 2011. ومن ثم فلا غرابة في أن يستشري التقصير والإهمال، وهذه هي الأسباب الحقيقية الرئيسة لتكرار الجرائم الإرهابية ولنجاحها المبهر في تحقيق أغراضها الدنيئة، وفي ضم عناصر جديدة لها، بعضهم من أبناء القوات المسلحة.

بل هناك من الدلائل ما يبين أن حكم المؤسسة العسكرية منذ فبراير 2011 قد ساهم في إعلاء شأن جماعات اليمين المتأسلم المتشددة، حاضنة التنظيمات الجهادية الإرهابية، وتمكينها من التغلغل في المجتمع وتصدّر الحلبة السياسية سويا وتيسير تمويلها وغض النظر عن تجنيدها للشباب، ما داموا لم يعارضوا السلطة القائمة، وتجميعها الأسلحة والذخائر، أو الإخفاق في منعها. ولنذكر مثالا واحدا، يلوم قادة المؤسسة العسكرية الأنفاق على الحدود مع غزة  على تهريب السلاح والمقاتلين إلى مصر، ونادرا ما يذكرون حقيقة أن هذه الأنفاق أنشئت بالاتفاق، وأحيانا تحت إشراف، أجهزة المخابرات المصرية.

وهكذا، كما حدث في جميع الجرائم الإرهابية السابقة، بعد أحداث الخميس الدامي في العريش والشيخ زويد في سيناء، لم يُجر لا تحقيق ولا مساءلة عن الإهمال الجسيم. ولكن أجريت ترقيات وترتيبات شكلية، بتعيين اللواء عسكر قائدا للجيشين الثاني والثالث ومسئولا عن مكافحة الإرهاب وترقيته لرتبة فريق. والمغزى وراء القرار أن إستمرار الإرهاب، وتقويته كان يرجع لضعف التنسيق بين الجيشين الثاني والثالث. ولكن في النهاية يبقى الحال كما هو عليه من الاسترخاء والارتخاء، إلى حين يُشن هجوم آخر من"أخطر تنظيم في العالم"، باعتراف الرئيس نفسه، فيرقىّ عسكريون آخرون.

وإن صح انه لم يكن هناك تنسيق بين الجيشين الثاتي والثالث، فهذا خطأ رئيس الجمهورية في المقام الأول باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي المقام الثاني، خطأ وزير الدفاع باعتباره القائد العام، وفي المقام الثالث خطأ رئيس الأركان المسئول الأول عن التنسيق بين الجيوش وجميع أفرع القوات المسلحة. في مؤسسة عسكرية تتميز بالحسم والمبادئ الأصولية كان يتعين أن يحاسبوا ثلاثتهم لحفظ التقاليد العسكرية الصحيحة والأداء العسكري المنضبط والسليم. ولكن مساءلة القادة عن الأخطاء والإهمال، الواجبة في التقاليد العسكرية السليمة، لم تعد ضمن التقاليد العسكرية في مصر حيث يشتغل الجيش بالسياسة ويتصرف كأنه يمتلك الدولة، خاصة وأن رئيس الأركان المسئول الأول عن التنسيق بين جميع أفرع القوات المسلحة ليس إلا صهر الرئيس الحاكم.

ويغيب عن الرئيس ومن يساندونه ويدعمونه حقيقة رابعة. وهي أن خنق الحقوق والحريات والبطش الأمني والقانوني بالقوانين الجائرة والقضاء الظالم أهله لن يحققوا الأمن والاستقرار للحكم وبالتأكيد لن يضمنوا القضاء على الإرهاب، بل قد يمد في عمره ويغذيه ويقويه، ناهيك عن أنه يمهد لقيام، بل يستدعي، موجة تالية من الثورة الشعبية العظيمة لعلها لاتستكين لمن يسرقها او يمتطيها لمصالحه النفعية الدنيئة إهدارا لغايات الثورة الشعبيةالأصيلة.

وقد ترافق الفشل في مكافحة الإرهاب داخل مصر مع حالة من فقدان البوصلة. فالسلطة الحاكمة يبدو فقدت توازنها من تكرار الجرائم الإرهابية، وفشلها في مكافحته داخل الحدود، فشهد يوم الثلاثاء 3 فبراير، وفق مصادر صحفية، حدثا تاريخيا آسيفا حين أطلقت القوات المسلحة المصرية النار عبر الحدود على موقعين في غزة. يحدث هذا بينما تعلن دوائر إسرائيلية أن التسيق الأمني بين مصر الرسمية والكيان الغاصب للحقوق العربية لم يكن أبدا أقوى منذ إنشاء دولة الاحتلال العنصرية.

ثانيا: تقويض الدولة لمصلحة استبداد المؤسسة العسكرية بالحكم والبلد

كثيرا ما قال الرئيس الحاكم في معرض الدفاع عن حكمه أن ليس هناك من نظام حكم ولكن دولة ذات مؤسسات في مصر.

والحق أنه يحكم بنسخة مهترئة وفاسدة من الدولة المدنية الحديثة. أولا هو يختزل الدولة في آلة البطشن من ناحية باستخام القوة العسكرية المنظمة من خلال الجيش والشرطة، ومن ناحية اخرى باستخدام القانون الجائر والمخالف للدستور الذي يطبقه قضاة غير عدول، من أجل العصف بجميع المعارضين لحكمه وبحقوق جميع المواطنين. ولهذا فإنه حتى في هذه الصورة المختزلة من الدولة الغشوم ينحرف بكل مؤسسة عن دورها الصحيح في الحكم الديموقراطي السليم. دولته إذن مبتسرة ومشوهة، وتسعى لأغراض تناقض الغاية من الدولة المدنية الحديثة أي تحقيق الصالح العام للشعب والوطن.

ومن تجليات هذه الدولة المهترئة والمشوهة أن تغدق السلطة الحاكمة على الجيش والشرطة والقضاء الموالي بينما تتفنن في قهر وإفقار باقي المواطنين مؤسسة بذلك لاشتداد الظلم المجتمعي وهو أب أسباب إندلاع الثوراتالشعبية

أصولا، تقوم الدولة المدنية الحيثة على تعدد السلطات المؤسسية واستقلالها النسبي عن بعضها وقيام توازن دقيق فيما بينها يضمن أصول الإدارة العامة السليمة (الكفاءة ،والشفافية والإفصاح ومشاركة أصحاب المصلحة في إتخاذ القرارات والمساءلة الفعالة للمكلفين بالإدارة).

فالدول المدنية الحديثة تقوم على ثلاث سلطات تتبلور في مؤسسات راسخة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، مستقلة عن يعضها إلا فيما يخص مراقبة السلطتين التشريعية والقضائية لأداء السلطة التنفيذية لضمان الصالح العام، وتخضع جميعها لسيادة القانون، المنصف والحامي للحقوق والحريات، والذي يطبق على الجميع من دون أي إسثناء، بواسطة قضاء مستقل تماما عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وفي النظم الديموقراطية السليمة تخضع السلطات جميعا للمساءلة الشعبيىة دوريافي اتخابات حرة ونزيهة وشريفة (خالصة من تأثير المال السياسي وتلاعب الإدارة). وقد يندهش البعض، خاصة القضاة المتواطئين مع السلطة القمعية الباطشة حاليا، من مبدأ إخضاع القضاء للمساءلة الشعبية دوريا. ولكن هذا أمر مستقر في النظم الديموقراطية السليمة عن طريق إخضاع المناصب الحرجةالأهمية في السلطة القضائية، مثل النائب العام وكبار القضاة، لموافقة ممثلي الشعب في المجلس التشريعي المنتخب وأحيانا للانتخاب المباشر من الشعب. فالشعب اصلا، أو بالإنابة من خلال الانتخاب الحر النزيه، هو صاحب السيادة الوحيد ومصدر السلطات جميعا.

ولأهميتها الفائقة في الحكم الديمقراطي السليم كما أشرت في مطلع المقال أبدأ بمؤسسة القضاء.

1-    عبث السلطة التنفيذية باستقلال القضاء وجرائره

بغض النظر عن الأحكام الجائرة مثل تلك التي أشرت لها في بداية المقال والتي تشير إلى تواظؤ بعض القضاة مع السلطة التنفيذية الباطشة بالحقوق والحريات، بسبب تلاعب السلطة التنفيذية ببعض القضاة بالمحاباة ومزيج الترغيب والترهيب السلطويين، أود التركيز على منصب النائب العام باعتباره أصولا محامي الشعب.

لنتخيل إن كان القضاء مستقلا تماما في مصر، هل كان يمكن أن يستغل كل رأس للسلطة التنفيذية في جميع أنظمة الحكم الاستبدادية التي تتالت على مصر في السنولت العشر الماضية منصب النائب العام، ووكلائه، في البطش بالحقوق والحريات وضياع العدل وإهدار سيادة القانون المنصف والساري على الجميععل السواء؟ بالقطع لا. ومن هنا نفهم اندفاع رئيس كل سلطة حكم من هذه التسلطية الفاسدة إلى عزل النائب العام الذي عينه سلفه وتعيين آخر موالٍ له وخادم لسلطته ولو بالعصف بالحقوق والحريات.

ولعل أفدح مثل على التوظيف السياسي للقضاء هو تواطؤ نائبين عاميّن متتاليين على تضييع حقوق شهداء الثورة الشعبية العظيمة ومصابيها، والمتجسد في أن تقرير لجنة تقصى الحقائق الثانى فى موقعة الجمل قد إختفى أو على الأرجح أخفيّ عمدا، وفي النهاية ضاع بين نائبين عاميين عينهما رئيس من جماعة الإخوان وآخر من المؤسسة العسكرية بعد أن عزل سلفه في الرئاسة.

التقرير الذى يحمل فى طيّاته اتهامات واضحة لأشخاص بعينهم وبأدلة قاطعة، بحسب أعضاء اللجنة، يتسبب إخفاؤه فى خسارة وضياع الحقوق فى الكثير من القضايا منها قضية موقعة الجمل، التى حصل فيها 24 متهمًا على البراءة لعدم كفاية الأدلة، بحسب حيثيات الحكم.الاتهامات فى القضية المغلقة منذ 9 مايو 2013، بحكم نقض نهائى وبات، طالت أسماء كبيرة تنتمى إلى الحزب الوطنى ومنهم بعض من الصف الأول من رجال الطاغية المخلوع مبارك مثل صفوت الشريف، فتحى سرور، وقيادات معارضة مثل رجب حميدة ووزراء مثل عائشة عبد الهادى ومرتضى منصور رئيس نادى الزمالك.وقد جاء الحكم بالنقض بعد رفض المحكمة النقض المقدّم من النيابة شكلاً، لتأخر النيابة فى تقديمه عن الميعاد المحدد فى القانون، وهو 90 يومًا من صدور الحكم، مما يعنى أن دفع النيابة بالطعن، لم يدرس من قبل محكمة النقض أصلاً، وهى سابقة لم تحدث فى تاريخ النيابة أبدا، ورغم ذلك، لم يُحقق فى ملابساتها من قبل النائب العام وقتها، طلعت عبد الله أو ممن تلاه في المنصب بعد إسقاط حكم الإخوان.

في النهاية، تفرق دم الشهداء فى الموقعة بين الاتهامات التى تراشقتها الأطراف السياسية بعضها البعض عبر وسائل الإعلام، فقد اتهم الصحفى عبد الرحيم على المعروف تأييده للرئيس عبد الفتاح السيسى جماعة الإخوان بالمسؤولية المباشرة عن موقعة الجمل، فى حين اتهم القيادى الإخوانى محمد البلتاجى الرئيس عبد الفتاح السيسى نفسه بتدبير موقعة الجمل، واتهم القيادى سابقًا بحزب الغد رجب حميدة قيادات إخوانية مثل البلتاجى وقائد المنطقة المركزية سابقًا حسن الروينى بالوقوف وراء الموقعة.إذن الاتهامات تطال المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان، أي من تناوبوا على السلطة منذ فبراير 2011.

في النهاية، تقرير لجنة تقصى الحقائق الوارد به أسماء متهمين جُدد، على الأرجح جرى إخفاؤه عمدا، ولا أحد يعلم مكان النسخة الموقعة حتى الآن، حيث طالب محمد مرسى رئيس الجمهورية وقتها مُّعدوه بإعداد نسخة واحدة فقط وعدم نسخها، ما يثير الاسنغراب وربما ينطوي على سوء نية مبيت. وبعد انتهاء اللجنة من إعداد التقرير تم تسليم تلك النسخة الوحيدة منه لمرسى آنذاك وللمستشار طلعت عبدالله، النائب العام السابق، ولا أحد يعلم أين ذهب وفى يد من أصبح هذا التقرير، وأين المستندات والشهادات المصورة المرفقة معه، والتي تشكل في مجملها 800 صفحة؟!

بعض صحف سربت بعض أجزاء من هذا التقرير التي تضمنت على لسان أحد أعضائها اتهام لقوات الجيش بتحملها جزء من المسؤولية بعدما سحبت مدرعاتها وفتحت الطريق أمام مؤيدى الرئيس المخلوع مبارك للمرور من كورنيش النيل إلى ميدان التحرير، كما اتهم ضباط المباحث بأقسام الشرطة بمحافظات الجمهورية، لافتاً إلى أنها شاركت بشكل أساسى فى موقعة الجمل من خلال الدفع بعناصر معتادة الإجرام.كما حمّل الجزء المسرب من التقرير المسئولية الكاملة للمخلوع مبارك لأنه كان يتابع كل ما يجرى داخل ميدان التحرير نظرا لامتلاكه قناة مشفرة تبث ما يحدث لحظة بلحظة داخل الميدان.

إلا أن مكان التقرير الآن مجهول، ولم يطلع عليه الرأى العام وهو ما يعتبر أكبر جريمة فى حق الثورة الشعبية

النائب العام الحالى هشام بركات، اكتفى بوضع بلاغ قدمه بعض المحامين بالتحقيق فى هذا الشأن بالأدراج رغم أهمية القضية، وتخاذل فى التحقيق بها. ويتهم مقدمو البلاغ النائب العام الحالى بتضييع حق الشهداء والمصابين، لأنه لم يتخذ إجراء جديا بهذا الشأن، لذا فالنائب العام هذا، كما سابقه، يجب أن يتحملا المسئولية كاملة.

ولن تنتهي هذه التجاوزات في حق العدالة ما دام رأس السلطة التنفيذية يعين النائب العام ويستطيع أن يعفيه.

2- الإخلال بدور الدولة في ضمان أمن المواطنين جميعا وصيانة حقوقهم

التوسع في إخضاع المدنيين للمحاكمات العسكرية

التغاضي عن ضرورة تطهير وإعادة بناء الشرطة على مبدأ الأمن الذكي

الإغداق على جهاز الشرطة مع الإخلال بوظيفة الأمن  وتعدد الجهات المنوط بها قهر الناس

الشرطة بالإعدادية

إعلان الرئيس أن الضابط الذيي قتل متظاهرا لن يحاكم

ورضائه عن تولي المواطنين القصاص من المسئولين عن الإرهاب

وسط هذا التدهور الأمني تأتي التهديدات التي أطلقتها ما تسمى "قيادة شباب الثورة وحركة العقاب الثوري" ضد الرعايا الأجانب باستهدافهم في حال عدم مغادرتهم البلاد خلال أيام قليلة.

3-    التدبير لتدجين المجلس التشريعي القادم 

مقالات اخرى للكاتب

والذكرى تنفع الثوار





اعلان