26 - 06 - 2024

الحكمة بأثر رجعي .. !!

الحكمة بأثر رجعي .. !!

(أرشيف المشهد)

15-1-2015 | 18:29

" إذ فجأتن " .. !! يكتشف الشخص أن الإلهام قد حل به .. " إذ فجأتن " .. تتكشف له الحجب عن جرائم ارتكبت في الماضي ، وكان هو شاهداً عليها دون أن يدري بأنها جرائم وقتذاك ، أو كان يدري لكنه لأسباب ميتافيزيقية اضطر لإتباع طريق " أضعف الإيمان " ، فاستنكر وشجب وثار بقلبه الطاهر العفيف الشريف ...

أما لماذا " فجأتن " يتحدث ، فإنما لأن ضميره الصاحي يوجعه .. ضميره الذي نساه في الثلاجة سنوات بلا عدد دبت فيه الروح فجأة ، وسبحان من يحي العظام وهي رميم ...

إذ فجأتن .. يبادرنا الشخص بتحليل رصين مبين لأحداث وأشخاص ، فيشير إلي الحدث بتاريخ يعرفه الناس جميعاً ، ثم يقوم ببناء جديد لنفس الحدث من زاوية لم يشاهدها غيره ، ولا بأس أن يرصع الحدث بأشخاص نكتشف – بالمصادفة – أنهم كلهم ميتون ، ونجد – بالمصادفة أيضاً – أنه كان وحده منفرداً بهؤلاء الميتين ..

وهكذا يصبح للشخص المقدرة العجيبة علي إنطاق الموتي ، وهي معجزة اختص بها الله أمثال هذا الشخص من أهل الخطوة والحظوة من فصيلة " إذ فجأتن " ..  !!

ولا .. لا عجب ، حتي إذا صام في رجب ، وباض الديك وشاب الغراب ورجع " نتنياهو " عن غيه ، فربما كان الشخص غافلاً تنبه ، أو عاصياً تاب ، والله يؤتي الحكمة من يشاء ..

ومن الصعب حقاً أن تجادل الشخص المذكور ، فكيف مثلاً يمكن أن تستدعي – مثله – الميتين كي تسألهم عن حقيقة ما دار ؟ ، وما هي الوسيلة التي تدافع بها عن نفسك إذا استدار عليك بضميره الصاحي ليكتشف لك بدورك أحداثاً تثبت تواطؤك وذنبيتك ( من الذنب أي الذيل ) للطغاة ، بل لا يستبعد أن يستحضر أرواحاً تشهد عليك بأنك من المجرمين ، وأن تلك الأرواح تري في عالم الغيب عذابك في جهنم بما اقترفت يداك من آثام ..

ومن الأمثلة التي لا أنساها لبعض هؤلاء " الحكماء " ، أتذكر تلك الندوة التي عقدت للعالم المصري  " أحمد زويل " علي هامش معرض الكتاب منذ عدة سنوات  ، فلقد كان الرجل يتحدث عن " القاعدة العلمية " و " روح الفريق " ، بينما " الحكماء "   – لأسباب سياسية غامضة – يؤكدون له علي أن تلك " القاعدة " موجودة ، و" الروح " موجودة أيضاً وبوفرة ، وكله تمام التمام ، وكأنهم يغيظون زويل ويكيدونه ، ولسان حالهم يقول : "  بلا علماء ولا نوبل ، ما أحنا حلوين كده !! " ، وبينما العالم المصري بكل الصبر ولباقة إختيار الكلمات يحاول أن يوصل مفهوماً معيناً ، سارع " المحاورون " لإبداء آرائهم الهامة حول معني كلمة " ذمبة " و " إسفين " في قاموس الحضارة المصرية !! .. وبينما كان الشباب يصارعون للوصول إلي الميكروفون للحديث مع العالم الجليل ، أصر كبار المتحاورين أن يأخذوا كل المساحة ( بما فيها مساحة زويل نفسه ) .. 

لا أنسي كذلك موقف هؤلاء " الحكماء بأثر رجعي " بعد إعدام صدام حسين ، وبعد أن كانوا قد كالوا له كل آيات المديح والإكبار في زمانه ، وهل كان يمكن له – إنسانياً – أن يكذب ما يراه وما يسمعه من آيات التأييد التي يتلوها عليه ليل نهار رجال أكاديميون وسياسيون وشعراء وعسكريون ؟ .. أن كل شيئ حوله كان يدفعه دفعاً إلي الذري ، فحين شن الحرب الضروس المهلكة ضد إيران ، قالوا عنه ما قالوا داخل العراق وخارجه ، قالوا أنه حارس البوابة الشرقية للأمة العربية ، قالوا أنه الزعيم القائد ، قالوا عنه كل ما يحول الإنسان البسيط إلي إله ، فما بالكم برجل له صفات وطموح صدام ؟.

لقد تحول صدام فجأة إلي حلم الفقراء في أكواخ موريتانيا ، وحامي الثكالي والأيتام في حواري الضفة الغربية وغزة .. أصبح في فترة زمنية صورة صلاح الدين الذي تنتظره القدس .. ثم .. ثم .. بعد رحيله ، أكتشف " الحكماء " فجأة خطايا وجرائم الرجل ، بل وأمعن بعضهم في لعن الرجل رغم أنه لا يزال يركب المرسيدس التي أهداها له الزعيم صدام ذات يوم !!

أن من يحارب الفساد الذي كان موجوداً في عام 1967 بقلمه عام 2015 هو الفساد متجسداً ، كذلك من يدعي أن نكسة 67 حدثت بسبب إهمال نصائحه الغالية ولا يتذكر ذلك إلا بعد ما يقارب نصف قرن هو النكسة نفسها أو أحد أسبابها ..

أننا نريد من يكتب عن 2030 و 2050 ، 2100 ، دون أن ينسي قضايا الحاضر الملحة التي تتطلب من كل صاحب رأي وفكر وحكمة أن يشارك ويتفاعل .. نريد من تلك الخفافيش أن تريحنا وتعود إلي جحورها التي تقبع فيها ، وكفانا " إذ فجأتن " .. حقاً كفانا جلد الذات وإحتقار الماضي وإهالة التراب عليه وافتعال البطولات الوهمية ..

المشهد الحالي لا يزيد علي صخب وضجيج وآراء تتناطح ويبدو وكأنه ساحة عراك هائلة قد غطاها التراب فلم يعد فيها ما يمكن رصده ، إلي درجة أن جوهر الموضوع قد تبخر وتلاشي ولم يبق علي السطح سوي نبش فوق القشور ، بحيث يرتاح كل إنسان علي القاعدة الشهيرة بأن " يبقي الأمر علي ما هو عليه ، وعلي المتضرر اللجوء إلي القضاء أو مسح أضرحة أولياء الله الصالحين والدعاء علي الظالم والمفتري " ...

" الحكمة بأثر رجعي "  هل هي هزل ؟ .. لا والله ليس بهزل .. وإنما محاولة لتسليط الضوء علي تلك الخفافيش التي تقفز حولنا لتمتص الباقي من الدم في عقولنا ، فالحكمة لا تهاجم الناس " فجأتن " ، ولا يمكن إدعاؤها بأثر رجعي .. فلنشطب من قواميسنا وأفعالنا وأقوالنا وأفلامنا مذهب " إذ فجأتن " ، وليكن شعارنا " ها أنذا في الضوء أمام الناس وبكل الشجاعة والصراحة " ...
---------------------------
 مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان