29 - 06 - 2024

الملك البريء

الملك البريء

(أرشيف المشهد)

23-12-2014 | 16:11

بعد سلسلة من المسلسلات الزاحفة المتسلقة المتسللة ، أتحفت الشعب المصري العظيم بقواعد السلوك وآداب الملوك ، وشرحت له تفصيلاً كي كانت تعيش " هوانم جاردن سيتي " ، ووصيفات الأميرات ، ومرضعات الأمراء .. وبعد أن أطنبت تلك المسلسلات في وصف الحياة الوردية الوطنية لأبناء الإستقراطية المصرية النبلاء .. وبعد أن أوضحت – بما لا يدع مجالاً لأي شك – مدي حقارة ووضاعة ما آلت إليه طبائع الناس مقارنة بتلك الحياة المخملية التي تتنفس في قصور ومنتزهات .. وبعد أن عرف المصري تاريخه المسكوت عنه أو الذي كان ملعوناً .. قررت جهة ما ذات يوم أن تمول وترعي وتنشر مسلسلاً لا يغسل فقط وجه ملك من ملوك مصر ، وإنما يغسل وجه وسيرة كل الملوك ...

أكثر الظن ( وبعضه أو كله إثم وبهتان ) هو أن الشعب المصري العظيم قد التف حول أجهزة التليفزيون وهو يعض علي جوعه ، وبكي بالدمع الهتون علي الملك الصالح الشاب ، وأحس بالندم وبقرصة ثعابين وأحناش الدنيا كلها ، لما أجرمه في حق ذلك الطاهر البرئ ، الذي أحب مصر كما لم يحبها أحد ، وعمل لنهضتها كما لم يعمل أحد ، وحرص علي طهارة ذيلها كما لم يطهرها أحد ...

وخرج المعلقون والساهرون في ضواحي المحروسة ، يشيدون بالفنان السوري المبدع الذي أتقن البراءة ، ولم يخل الأمر من بقايا نساء أكل عليهن الزمان وشرب وبال ، يخرجن إلي الناس من كهوفهن كي يروين من بين حطام أسنانهن أو ما تركه الزهايمر ، حول تلك الأيام الخوال والليالي الملاح ، عندما كن يعملن في تلك القصور أو كما أدعت بعضهن يصادقن هذه الأميرة أو تلك .

 اكتشف الناس فجأة حلاوة زمن " زمان يا لللي " ، وطراوة الإستعمار ، ولذاذة " ديمقراطية العبيد " .. صدرت فجأة شهادات البراءة للورد كتشنر ، والأسد أيدن ، والثعلب تشرشل .. وهكذا أصبح " شهداء دنشواي " – أيضاً فجأة – مجرد رعاع متخلفين إرهابيين .. وتحولت الحركة الوطنية المصرية ، إلي مجموعة من قطاع الطرق الظالمين الذين حرموا شعب مصر التمتع بمليكهم المحبوب ...

ولا جدال في ضرورة أن يتم تغيير مناهج التعليم في مصر كي تتعلم الأجيال الطالعة تاريخها الحقيقي ، ولا بد من أن يذاع مسلسل الملك فاروق في شهر يوليو من كل عام بدلاً من تلك الأفلام الكاذبة مثل " الأيدي الناعمة ، وشروق وغروب ، وبورسعيد .. إلخ ) ، وما أحلي الرجوع إلي العصر الملكي اللذيذ ، والتنادي بعودة أسرة محمد علي إلي عرشها المغتصب .

لقد نجح حواريو المرمطة والفساد في عمل غسيل مخ تدريجي للناس ، ودغدغوا غدد الخيال والأحلام لديهم كي يعيش كل منهم وكأنه داخل قصر من هذه القصور اللامعة ، ومسحوا بشكل منهجي صورة شعب كان يكتتب كي يلغي الحفاء ، ويموت جوعاً ومرضاً في حفر القناة ، فالحياة لم تكن سوي " لونها بمبي " لولا الحقد والحسد الملعون في كل دين ، والملك لم يكن يشرب الخمر ، وكأن تلك كانت آفة المجتمع الوحيدة ، أو كأنما الفارق بين ملك جيد وملك فاسد هو مقدار الكحول في دمه ، ثم أنه – علي الاقل – كان ضحية أبيه الشرس ، وأمه اللعوب ، التي كانت بدورها ضحية .. بإختصار كانت الأسرة المالكة والإرستقراطية المصرية ضحايا ، بينما كان الشعب المصري كله حفنة من المجرمين الحاسدين الحاقدين ، الذين يجب عليهم اليوم الإعتذار ..

أصبح الأغوات والقواد والعاهرات نماذجاً تقتدي ، وأبطالاً في تاريخ المحروسة يجب أن يرد إليهم إعتبارهم ، ولا شك في أن كل إنسان مصري طيب يتمني أن يعيش حياة القصور ، يرفل في النعم ، ويركع تحت أقدام ولي النعم ، وينال حظاً من نساء أرق من النسيم العليل ، حتي لو اقتصر الأمر علي حلم أو مسلسل يزيل عنه كآبة المنظر وتعاسة المخبر وذل الحاجة لدقائق معدودات .. ذلك مطلب شرعي وعادل وابن حلال ، بلا جدال ، ولذا فإن العاملين في هذا المسلسل ومن تبعهم إلي يوم الدين ، يستحقون الإكرام والإجلال لما قدموه لهذا الشعب الطيب .. الطيييييييب ( !! ) الذي يغفر الإساءة ويسامح ، ولديه ذاكرة ممسوحة ( علي الزيرو ) من كثرة ما كتب عليها ومحي ...

وقد يفهم حاقد أو خبيث ، أو بعض ممن " يلبدون في الذرة " ، أن السطور السابقة ترفض حياة الملوك أو تستنكف فساد ذلك العصر ( الذي أكدته حتي الوثائق الأجنبية ) ، فذلك ليس صحيحاً علي الإطلاق ، فالناس علي دين ملوكهم ، وذلك جزء من تاريخي مثلما هو جزء من تاريخ المحروسة ، وليس هناك ما يمنع أبداً من إعادة زيارة التاريخ مرة ومرات ، إذ ربما يتوصل أحد الجهابذة يوماً إلي كتاب تاريخنا الحقيقي ، وعلي أي حال الرؤية النقدية مطلوبة ، ولن ينكر أحد من أهل التنوير ، الباحثين عن لذاذة حياتنا في الماضي المنير ، لن ينكروا علينا أن نتساءل عن براءة المحروس ، ملكنا المفدي الذي بكيناه بالدمع الهتون ، فتلك هي الليبرالية الحقة التي أرساها الفاروق ، وترك جيناتها الوراثية في بعضنا أو أمهاتهم ، فرضعوا منها ولم يبلغوا منها فطاماً رغم ما يزيد علي نصف قرن ...

ولن أنسي أبداً ذلك الوهج الذي تألقت به عيني سيدة حيزبون ممن شهدن ليالي الملك ، هزت هشيم راسها وهي تتأسي علي الزمن الذي كان ، وأعطتني محاضرة طويلة لتثبت فيها أن " الملوك إذا دخلوا قرية – لن – يفسدوها " ، شرحت لي بأنفاس متقطعة الأصول المرعية في الحفلات الملكية ، وعما أحدثه أولاد الفلاحين من مصائب وفضائح ، وقالت وعيونها تدمع " جلالته – يا عين مامته – كان رجلاً جنتلمان في تعامله مع النساء " ، ثم أشارت بسبابتها المرتعشة إلي الرجال الموجودين حولنا وقالت في قرف : " لم يكن مثل هؤلاء الأجلاف " ، وهزت رأسها في أسي ، وتنهدت بما تبقي لها من رئة قبل أن تقول بحزن حقيقي : " الدنيا راحت " ... وتركتها وأنا أتمني لها مخلصاً أن تكون الآخرة قد بقيت لها علي الأقل ...

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان