26 - 06 - 2024

ديكتاتور مختلف !!

ديكتاتور مختلف !!

(أرشيف المشهد)

21-1-2015 | 14:30

كان الرئيس الأسبق مبارك حاكماً علي مصر لمدة تزيد علي عقود ثلاثة ، أزدحمت شوارع المحروسة طوال هذه السنوات بمئات الآلاف من المصفقين المهللين الصارخين بإسمه ، أطل بوجهه الباسم عليهم من شاشات التليفزيون وصفحات الصحف كل صباح ومساء وهو يمني شعبه بالزمن السعيد . تغني بإسمه آلاف التلاميذ في المدارس ، أطلق الأباء أسمه علي آلاف الأبناء ، كان الزعيم الذي يجد كل من حوله مسبحاً بإسمه ، فكل كلمة تخرج من بين شفتيه هي الحكمة المصفاة ، وكل خطوة يخطوها تتجه حتماً إلي نصر جديد ..

هل كان يمكن له – إنسانياً – أن يكذب ما يراه وما يسمعه من آيات التأييد التي يتلوها عليه ليل نهار رجال أكاديميون وسياسيون وإعلاميون وشعراء وعسكريون ؟ .. أن كل شيئ حوله كان يدفعه دفعاً إلي الذرا ، قالوا عنه أنه صاحب الضربة الجوية التي هزمت إسرائيل ، قالوا أنه المدافع عن الإنسان المعدم الفقير ، قالوا أنه الزعيم القائد الأب ، قالوا عنه كل ما يحول الإنسان البسيط إلي إله ، فما بالكم برجل له صفات وطموح مبارك ؟.

لقد تحول مبارك فجأة إلي حلم الفقراء في العشوائيات ، وحامي الثكالي والأيتام في الحواري الضيقة القذرة بطول وعرض المحروسة .. بل وأصبح في فترة زمنية صورة صلاح الدين الذي تنتظره القدس ..

ثم فجأة .. أطل علينا مبارك آخر من شاشات التليفزيون .. منكسر ذليل في قفص ، يبدو طيعاً وديعاً بين أيدي حراسه ، يحركونه ذات اليمين وذات الشمال كدمية لا حول لها ولا قوة .. أنها لحظة الحقيقة الكاشفة .. في لحظة الحقيقة الكاشفة تكون الصدمة العنيفة ، حين ينكشف المستور وجزء من الخفايا  ..

ومع ذلك ..وجدنا من يبكي غير مصدق مشهد مبارك الأخير ، بل خرجت بعض المظاهرات في بعض الشوارع  تهتف : " بالروح بالدم .. نفديك يا مبارك !!" ، ولذلك أيضاً كتب من كتب وقال من قال : " ليته قاتل ضد معارضيه ومات أو إنتحر " .. لم يسعد مشهده المنكسر حتي خصومه المنتصرين  ، ليس لأنهم كانوا يعشقونه بشكل خفي أو لمرض نفسي ما ، وإنما لأنه لو كان ذلك الشخص الذي ظهر مهزوماً علي شاشات التليفزيون هو خصمهم الجبار اللدود – كما ادعوا – علي مر السنين الطوال ، فما أهونهم لأن قيمة المرء تقاس أيضاً علي مقاس خصمه ، فإذا كانت هذه هي حقيقة حال خصمهم الذي قهرهم – كما قالوا – ردحاً من الزمن ، فأن الإستنتاج المنطقي هو أنهم أدني كثيراً منه ، وذلك هو التفسير الوحيد لأمنية الخصوم الذين قالوا بأنهم كانوا يفضلون لو أنه قاتل ضد معارضيه ومات أو أنتحر.. 

أنها صناعة الوهم وإحتراف الخوف ، فنحن نخترع العفريت الذي نخاف منه ، نحن الذين نصنع الأصنام بأيدينا ثم نسجد أمامها كي نعبدها ، المشكلة لم تكن في الزعيم وإنما المشكلة في  " خداع النفس " ..  

لا يمكن أن يكون مبارك هو فقط ذلك المشهد الأخير الذليل الكسير الخائف ، مثلما لم يكن هو تلك الصورة الدافقة بالبطولة الأسطورية والقدرة الخارقة ، فذلك هو الوهم الذي نسكبه علي الأشياء والأشخاص والأحداث كي نهرب من الواقع ، واقعنا وواقع من حولنا ، وهو جزء من المحنة الحقيقية للمجتمع العربي كله ، ذلك المجتمع الذي أصبح يبدو وكأنه لا يخجل من عجزه ومن نفاقه وكذبه ، يستمرئ الوهم والأحلام عوضاً عن كل ذلك .. ثم في لحظة الحقيقة يواجه الصدمة بالإيغال في الوهم والعبث ، وصناعة إله العجوة الذي يعبده ، ثم لا يجد حرجاً في أن يأكله ...

إن الديكتاتور لا يصنع نفسه ، وإنما تصنعه عدة عوامل أبرزها بطانة فاسدة ونخب تحترف النفاق ، وفقر يكسر إنسانية الإنسان ، وجهل يلغي عقله وإرادته ، وخوف يترسب نتيجة لكل ما تقدم كي يتراكم جيلاً بعد جيل .. أما العوامل التي تتعلق بشخصية الديكتاتور نفسه ، فأننا نجد كتب التاريخ وعلم النفس مليئة بملامح شخصيات مريضة ، عاني بعضها من الكبت والعجز ، وعاش طفولة معذبة ، وأغلب هؤلاء متوسطي الذكاء أو أغبياء ، ولولا اجتماع العوامل الأخري في صناعتهم لعاشوا وماتوا علي هوامش المجتمع ، ومتي توافرت تلك العوامل وتبوأ الديكتاتور عرش الإستبداد ، تختفي صفاته الشخصية المريضة خلف رتوش وألوان يسبغها عليه أهل النفاق من قادة الرأي والفكر في المجتمع صيانة لمصالحهم الفاسدة .

ومن أهم ملامح النظام الديكتاتوري الإستبدادي زيادة النعرة الوطنية بشكل مبالغ فيه ، والإفراط في نظرية المؤامرة والصراخ في وجه أعداء حقيقيين أو متوهمين ، ويخدم ذلك إعلام مدجن خاضع ومع ذلك يظل تحت رقابة مركزية صارمة ، وتختفي الحريات العامة الحقيقية ، رغم الشعارات الزائفة المرفوعة في كل مكان حول الديمقراطية والحرية ، وتستخدم تلك الأنظمة الأساليب البوليسية القمعية لإسكات أي صوت للمعارضة وإجهاض أي نشاط للنقابات العمالية والطلبة ، كما يعد من الملامح البارزة الإنفاق ببذخ علي القوات المسلحة والشرطة والإحتفاء بها في الإحتفالات والمناسبات المختلفة .

ومن الطريف أن الديكتاتور المصنوع بهذه الطريقة ، يصعب عليه التخلص من نظامه الإستبدادي حتي إن أراد ، حيث يصبح هذا النظام بمثابة الرمال المتحركة التي تورط فيها ولا سبيل أمامه سوي مواصلة السير حتي النهاية المحتومة ، وأتذكر هنا مسرحية يوسف إدريس " المخططين " التي لم تجد حظها من الترويج الكافي ، ففيها يفكر البطل الديكتاتور أن يعيد النظر في نظامه ، فإذا بأعوانه يقطعون الصوت عن الميكروفون ويضعون تسجيلاً قديماً له ، أي يصبح مجرد صورة يختفي خلفها جيش جرار من الفاسدين .

الأشد طرافة هو أن التاريخ يحفظ لنا المصير الأسود لكل ديكتاتور ، ودون الإغراق في تفاصيل تاريخية فيكفي أن ننظر فقط إلي نهايات هتلر وموسوليني وعبد الكريم قاسم وصدام حسين والقذافي .. إلخ ، وهي نهايات مفجعة ، تتطلب من أي حاكم جديد مجرد قراءة بضع صفحات من ذلك التاريخ كي يعتبر ولا يكرر نفس الأخطاء .. إلا أن المشكلة – كما أسلفنا- تتمثل في صفات الديكتاتور الشخصية وخاصة درجة ذكائه ، فربما يقرأ ولكنه قد لا يفهم ، أو ربما أصاخ السمع لأحبار النفاق وهي تؤكد له أنه مبعوث العناية الإلهية ، وأنه   " ديكتاتور مختلف " .!!

مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان