26 - 06 - 2024

تسريبات "ويكيليكس "

تسريبات

(أرشيف المشهد)

17-2-2015 | 20:17

قامت الدنيا ولم تقعد عندما نشر موقع " ويكيليكس " الإليكتروني مئات الآلاف من الوثائق الأميريكية حول الحرب في أفغانستان والعراق ، وما تضمنته من وقائع تثبت مخالفة القوات الأمريكية لقواعد القانون الدولي ، والقانون الدولي الإنساني ، بما يرقي إلي جرائم حرب ، وجرائم ضد الإنسانية . 

أبدي وزير الدفاع الأمريكي قلقه من الآثار العكسية الضارة لنشر هذه الوثائق علي سلامة الجنود الأمريكيين ، وعلي المتعاونين معهم من الأفغان والعراقيين ، وهو ما أكده رئيس الأركان الأمريكي أيضاً ، وهو ما يعني – ضمناً علي الأقل – التأكيد علي سلامة الوثائق وما ورد فيها من معلومات ، أي أنه إقرار بأن الجرائم التي تشير إليها قد ارتكبت بالفعل . 

ومن المثير للإهتمام ، أن موقف الإدارة الأمريكية قد تركز في " الآثار الضارة التي يمكن أن تلحق بجنوده ، وبالمتعاونيين معهم " ، دون إبداء الإهتمام الكافي بما احتوته تلك الوثائق من انتهاكات لحقوق الإنسان ، وكأن هؤلاء الذين تم قتلهم وتعذيبهم من الأهالي المدنيين في كل من العراق وأفغانستان لا قيمة لهم ، وهو أمر غير مفهوم من مسئولي أكبر وأقوي دولة في العالم ، أو ربما هو مفهوم لأنها كذلك ؟؟ .. 

لقد تحولت أسماء ووجوه الضحايا إلي مجرد أرقام صماء بلا روح ، مثل أسلافهم من الهنود الحمر أو الفيتناميين أو الكوريين الصفر .. أرقام في وثائق باردة تسبب مجرد إحراج للقوة الأعظم ، وتثير قلقهم من أن ينقض أهل الضحايا علي جنودهم ويأخذوا حقهم بأيديهم في ظل عجز المجتمع الدولي عن حمايتهم .. 

في حوار مع دبلوماسي غربي ، وبعد مناقشات مطولة عن العلاقة بين السياسة والقانون ، قال لي بحكمة غربية متميزة : " في العلاقات السياسية الدولية ، يأتي القانون الدولي في مرتبة متأخرة جداً عن مصالح الدولة ، فالمصلحة أولاً ، والمصلحة أخيراً ، وإذا أمكن تطعيم ذلك بالقانون ، فلا بأس ، وإن لم يمكن فلا ضرر " .. بالطبع لم أكن ساذجاً كي أجادله فيما قاله ، ولكنني اكتفيت بالتعليق بأنه إذا غاب القانون في أي علاقة بين البشر ، فأن ذلك يفتح الطريق لتطبيق قواعد القانون الطبيعي .. أو هي قوانين الطبيعة ، التي اصطلح علي تسميتها قانون الغاب .. أي أن تكون الغلبة للأقوي .. فهز رأسه الغربية الفيلسوفة موافقاً .. فتركته وأنا أفكر في ضرورة أن تتوحش كل شعوب العالم المغلوبة علي أمرها كي تدافع عن وجودها ...  

من السهل أن يتم رص مجموعة متتالية من القواعد الأخلاقية والقانونية المثالية في السطور التالية ، وهو ما سبق ممارسته علي أي حال في مقالات عديدة ، ولكنني أظن أن القارئ قد مل من هذا النوع من العظات والنصائح التي لا يري طائلاً من ورائها ، أو لعله يتمثل بحكمة جحا الشهيرة " بأنه طالما كان الفحش بعيداً عن جدار البيت ، فأنه لا يهم " .. إلا أن مشكلة هذا التحليل أننا – للأسف – نسكن كرة أرضية واحدة ، ويشملنا بيت واحد هو " الإنسانية " .. وربما توجد حكمة أخري تناسب المقام وهي " أنني أكلت يوم أكل الثور الأبيض " ، وأن        " الساكت عن الحق ، شيطان أخرس " ... 

أن الشاب الذي نشر الوثائق رفض أن يكون شيطاناً أخرس .. والجندي الأمريكي الذي زوده بها رفض ذلك أيضاً .. ومن رأي منكم منكراً فليغيره بيده ، وإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ..  

ومن المعروف أن شعوب الشرق الأوسط تتميز بإيمانها الشديد ، وهو ما يثير التساؤل عن رد فعلها إزاء نشر تلك الوثائق ؟ .. ربما يقول قائل ، أو قيل بالفعل ، أن هذه المعلومات ليست جديدة ، وأن المذابح التي ارتكبت تمت علي " عينك يا تاجر " وأمام عدسات التليفزيون ، ولم يتحرك ضمير أحد ، فلماذا تتحرك ذبابة بسبب نشر هذه الوثائق ؟ .. وربما يقول آخر أن المطلوب هو تغيير " المنكر " ، ولا بد من إثبات وقوع " المنكر " أولاً ، ثم أنه إذا جاء العيب من أهل العيب ، فأنه ليس عيباً .. وهذه حجج قوية من الصعب تفنيدها ، وبالتالي فأن الأفضل هو " أضعف الإيمان " ، عملاً بالحكمة العتيقة التي تقول أن " الباب اللي يجيلك منه الريح ، سده واستريح " ... إذا كان هذا صحيح – ويبدو أنه صحيح – فلابد من إعادة النظر في مسألة أن شعوب الشرق الأوسط تتميز بإيمانها الشديد ، حيث يبدو أنها تشتهر بإيمانها الضعيف .. 

لقد اجهدت عيني في قراءة بعض صفحات هذه الوثائق ، وقرأت تقريباً أغلب التعليقات التي نشرت في صحف الغرب ، وكأنني أقرأ رواية قديمة للمرة العشرين ، تحكي عن الجبروت والوحشية غير المبررة ، وعن الظلم في أبشع صوره ، وعن استكانة الإنسان المغلوب علي أمره أمام انتهاك كل حقوقه ، حياته وماله وعرضه ، امتهان كامل للكرامة الإنسانية ، وجرائم ترتكب بلا عقاب .. نعم .. رواية مللنا من قراءتها ، ولم تعد تدهشنا ..  

قفزت إلي ذهني صورة المحترم " أوكامبو " مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية الذي لم يترك بقعة ضوء إعلامية دون أن يستأسد فيها علي أهل السودان ، وهو يتوعدهم بإعتقال رئيسهم ، سمعه العالم وهو يزأر بأنه لن يسمح بمرور جريمة دون عقاب ، وأنه سيؤدب كل المتجبرين الظالمين .. فهل قرأ سيادته تلك الوثائق التي انهمرت كالمطر ؟ .. أم أنه أسد عليً و ... 

ومن الطرافة أيضاً أن نتذكر أن بعض دهاقنة السياسة في بريطانيا العظمي ، عندما واجهوا منتقديهم بأنهم لم يجدوا أسلحة دمار شامل في العراق ، قالوا باعتداد امبراطوري أن التدخل في العراق تبيحه شرعية التدخل الإنساني .. وبالطبع تمتلئ وثائق ويكيليكس بتدخل إنساني غير مسبوق ، يعكس حضارة ومدنية القوات الأمريكية والبريطانية .. ومن ناحية أخري كان غزو أفغانستان يحمل راية الحرب ضد الإرهاب ، بينما الوثائق تحمل أنواعاً من الإرهاب الخام ، الإرهاب المنظم الذي لا تديره حفنة من الشباب المتهور ، وإنما أجهزة دول عظمي قادرة ومتمكنة ... 

 لا أعرف كيف يمكن للضمير الإنساني أن يحمل أوزار وأثقال كل هذه الوثائق التي تقطر دماً وقيحاً وصديداً ؟ .. أي ضمير ميت هذا ؟؟ .. أن المشكلة لا تتعلق بأن الضحايا عرب أو مسلمين ، وإنما حقيقة أن البشرية تراقب هذه الفواجع في القرن الواحد والعشرين دون أن تحرك ساكناً أو تطالب بمحاسبة الجناة .. أن هذا الصمت التآمري فيروس خطير يهدد مستقبل العالم ، لأنه يعني فساد النفوس ونشر الكراهية والأحقاد التي تتوهج في نفوس المظلومين وأحفادهم .. فاحذروا أن يصيبكم بعض ما رميتم به الآخرين .. واعلموا أن القوة نسبية ، وأن الأيام دول ، وأن يوم الحساب قريب.


مقالات اخرى للكاتب

علي هامش السد!





اعلان