17 - 07 - 2024

من يشبه الشاعر فى ثورته؟!

من يشبه الشاعر فى ثورته؟!

(أرشيف المشهد)

25-11-2011 | 02:18


دقت الساعة الخامسة
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب
ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً..
يجيئون من كل صوب
والمغنون - في الكعكة الحجرية - ينقبضون
وينفرجون
كنبضة قلب!
يشعلون الحناجر،
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة
يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب
يشبكون أياديهم الغضة البائسة
لتصير سياجاً يصد الرصاص!..
الرصاص..
الرصاص..
وآه..
تغنون: "نحن فداؤك يا مصر"
"
نحن فداؤ...."
وتسقط حنجرة مخرسة

لم تكن هذه كلمات تصف وقائع الخامس والعشرين من يناير، ولا الثامن والعشرين من يناير، ولا العشرين من نوفمبر وما بعدها... بل كانت كلمات الشاعر الكبير أمل دنقل تصف وقائع يناير آخر من "ينايريات" مصر الخالدة.

عديدة هى الأبواب التى يمكن الدخول عبرها إلى عالم الشاعر المصرى الكبير أمل دنقل، ولكنى أؤثر أن أدخل هذا العالم المتفرد من بوابة استدعاء التراث العربى خاصة والإنسانى بصفة عامة.

إن تجربة أمل دنقل فى استدعاء التراث وفى توظيفه في نسق شعرى متين وفى بناء فكرى قوى، هى تجربة تستحق وقفات للتأمل ... فمن الذين يستدعيهم أمل فى أشعاره..

ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان 
أجتز صوفها 
أرد نوقها 
أنام في حظائر النسيان 
طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة 
وها أنا في ساعة الطعان 
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان 
دعيت للميدان 
أنا الذي ما ذقت لحم الضان 
أنا الذي لا حول لي أو شأن 
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان 
أدعى إلى الموت ولم أدعَ الى المجالسة 
تكلمي أيتها النبية المقدسة 
تكلمي تكلمي 
فها أنا على التراب سائل دمي

إنه دائما يستدعى شخصيات تشبهه، نعم تشبهه شخصًا ودوراً ورسالة.

هو يستدعى عنترة العبسى... ذلك الفارس الذى تنساه القبيلة فى مجالسها ومنتدياتها ومواطن تكريم أبنائها وحتى فى موائدها، ولا تتذكره إلى فى نوائبها وكوارثها ومصائبها... مدعو هو فقط ليبذل دمه من أجل القبيلة وليصير هذا الدم نجمة أو نسراً على كتف القائد العسكرى أو نيشانًا على صدره.

ثم هو يستدعى "سبارتاكوس" العبد الثائر الذى جرؤ على أن يقول لا؛ فاعتبرته الحكومات شيطانًا لأنها اعتبرت نفسها آلهة.

المجد للشيطان .. معبود الرياح 
من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم 
من قال "لا" .. فلم يمت وظلّ روحا أبديّة الألم!

وهو طبعًا يستدعى زرقاء اليمامة التى مُنحت القدرة على أن ترى البعيد، كما مُنح الشاعر القدرة على أن يستشرف القادم فلا هُم صدقوها ولا هم أنصتوا إليه.

أيتها العرافة المقدسة 
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟ 
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار 
فاتهموا عينيك، يا زرقاء بالبوار 
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار 
فاستضحكوا من وهمك الثرثار 
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا 
والتمسوا النجاة والفرار

حتى حين يستدعى أبا موسى الأشعرى؛ فإنه يستدعى فيه الروح الثائرة التى أرادت أن تعيد الحكم إلى الشعب.

حاربت فى حربهما
وعندما رأيت كلاً منهما متهما
خلعت كلاً منهما
كى يسترد المؤمنون الرأى والبيعة
لكنهم لم يدركوا الخدعة

وحين يستدعى أمل دنقل شخصية الفارس العربى القتيل "كليب"؛ فإنه يستدعى فيه ذلك المطالب بالثأر والحق والقصاص، ويستعير نبرته وحنجرته ليهتف بصوته هو "لا تصالح"

 لا تصالح ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟؟؟
هي أشياء لا تشترى

.......

......
هل يصير دمي بين عينيك ماء؟؟؟
أتنسى ردائي الملطخ
تلبس فوق دمائي ثياباً مطرزة من قصب
إنها الحرب
قد تثقل القلب لكن خلفك عار العرب
لاتصالح ولا تتوخ الهرب

وأمل دنقل يخطو خطوات أكثر جرأة وأكثر إثارة للجدل حين يستدعى شخصية ابن نبى الله نوح عليه السلام... هو يستدعيه ولا يستدعيه لأنه لم يستدع فيه ذلك المكابر العاصى الذى رفض أن يصحب أباه النبى وصحبته من المؤمنين... بل هو يعيد إنتاج القصة بشكل جديد فيعلن رفضه لأولئك الذين يتمتعون بخيرات الوطن... ثم إذا واجه الوطن محنة كانوا أول اللائذين بسفن الفرار لينجوا بأنفسهم وليتركوا الوطن وحده يواجه مصيره، ويؤكد أنه لن يعتصم بجبل صخرى من طوفان الهزيمة أو المحنة، وإنما هو سوف يعتصم بجب اسمه الشعب.

طوبى لمن طعِموا خُبزه..

في الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ

يوم المِحَن

ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا

(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا)

نتحدى الدَّمارَ..

ونأوي إلى جبلٍِ لا يموت

(يسمونَه الشَّعب)

نأبي الفرارَ..

ولاشك أنها رؤية تحتاج إلى الكثير من اتساع الأفق والتسامح الفكرى ليتم قبولها دون الوقوع فى شرك المحظور الدينى الذى ينصبه دائما أولئك الذين يقرأون الإبداع قراءة ساذجة سطحية... وهو طبعًا المحظور نفسه الذى سيثيره مفتتح قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة".

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة