25 - 06 - 2024

خطيب بلا منبر

خطيب بلا منبر

(أرشيف المشهد)

11-11-2012 | 15:32

أعزُ مكانٍ في الدنى سرجٌ سابحُ       وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

هكذا قال الشاعر العربى القديم.. ولقد صدق الشاعر فيما ذهب إليه كل الصدق، لكنه لو عاش إلى أن أطلت الإذاعة على الوجود فلربما تغيرت نظرته تغيرا بينا؛ فالراديو – ذلك الساحر العظيم – لم يكتف بأن يخلق حوارًا عقليًّا كالذى يخلقه الكتاب، ولا بأن يوجد تفاهما مشتركا كالذى يوجده الكتاب، ولم يتوقف عند ذلك الحد من مناغاة الوجدان الذى يحدثه الكتاب، بل أضاف إلى هذا كله الصوت البشرى بدفئه وحميميته، والإبداع الموسيقى برقته وتحليقه، والتدفق اللغوى برشاقته وموسيقيته، أضاف إلى كل ذلك أنس المسامرة، وعمق المحاورة، كأنه بذلك يحقق مقولة الأديب الفيلسوف الذى هتف يوما: "تكلم.. تكلم حتى أراك"

يقينى أن القارىء الكريم سيغفر لى أن أعبر فى سطورى هذه عن عشقى الكبير وعتابى الصادق لمعشوقى الذى منحته ربع قرن من عمرى مذيعا، بعد أن منحته ما يقرب من ذلك مستمعا.

أن ينقل الراديو لنا الدنيا فهو بساط سحرى خرج من عالم الأساطير إلى عالم الحقيقة.

وأن يقص علينا حكاياته الساحرة المحلقة المجنحة فهو شهرزاد الزمن الجديد، وقد جعلت كلا منا شهريار الزمن الجديد.

 أن يفتح أمامنا آفاق التحليق فى روحانية الأديان فهو خطيب بلا منبر، وفقيه بلا مسجد، وداعية بلا أعمدة.

وأن يفتح أمامنا مدن العلم والفلسفة والأدب والمسرح والغناء والفن التشكيلى والطب والسياسة فهو العالم المعلم، والفيلسوف الأديب، والفنان المغرد، والثائر الطبيب.

هو كل هؤلاء معا فى أفق بين الحقيقة والخيال، فهو يجالسك دون أن يجالسك، ويحادثك دون أن يحادثك، وهو يأتى إليك دون أن يأتى إليك.

والسؤال المهم الذى يطرح ذاته فى هذه الفترة من حياة الأمة العربية: ألم يئن للراديو أن يؤمن بدوره الثورى المعاصر بدرجة أكبر؟ ألم يئن له أن يعبر عن ثوريته بنبرة أوضح؟ ألم يئن له أن يعرف أنه ليس منبر دعوة وساحة فكر وقاعة متعة فحسب، وإنما هو أيضا ميدان ثورة، وقاطرة حضارة تجذب الأمة إلى الأمام؟

إن من أكثر خصائص الإذاعة إدهاشا تلك القدرة على أن تخاطب كل مستمع وكأنه مستمعها الوحيد، فى الوقت ذاته الذى تفتح فيه أمامه آفاق الخيال والمعايشة ، فيما يسميه الاكاديميون (التقمص الوجدانى)، وفى الوقت ذاته قدرتها على أن توحد بين قلوب أبناء الأمة وعقولهم فى إطار واحد وكيان واحد.

فعجبا لإذاعة تخاطب مستمعيها فرادى فتجعلهم متحدين! وما أحراها بأن تجعل هواءها ميدانا رحبا للدعوة إلى تحقيق أهداف الثورة والتأكيد على ثوابتها.

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة





اعلان