25 - 06 - 2024

استقالة على الهواء

استقالة على الهواء

(أرشيف المشهد)

10-12-2012 | 23:14

فاجأ المذيع "خيري رمضان"، يوم الخميس الماضي، مشاهدي قناة "سي. بي. سي" المصرية الخاصة، بتقديم استقالته من القناة على الهواء مباشرة، احتجاجاً على رفض إدارتها ظهور المرشح الرئاسي السابق "حمدين صباحي" على شاشة القناة، بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي، قائلاً إنه يحترم إدارة القناة، ويحترم أسبابها ومبرراتها، بل إنه يتفهم الكثير من الأشياء التي تحدث الآن في البلاد، لكنه رجل إعلام وليس رجل سياسة، يريد الحفاظ على مهنيته وكرامة ضيفه الذي أتى إلى الاستوديو بعلم مدير القناة للتعليق على خطاب الرئيس، لكن الرفض جاء كما يبدو من قبل مالك القناة الذي علم باستضافة "صباحي" قبل بدء اللقاء بدقائق وأبدى اعتراضه، مبرراً ذلك بأن الوقت غير مناسب.

وكان مالك القناة قد عقد، في وقت سابق، اجتماعاً مع مقدمي البرامج على شاشة قناته، أكد لهم خلاله أنه لا يريد الدخول في صدامات مع القوى السياسية، طالباً منهم الالتزام بالحياد الإعلامي، شارحاً لهم الضغوط التي تعرض لها خلال الفترة الماضية بسبب برامج القناة.

الاستقالة في حد ذاتها قرار شخصي، يتخذه الإنسان عادة بعد تفكير وروية، إلا أنها تحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والجرأة عندما تأتي تعبيراً عن موقف يجده من يتخذ هذا القرار متسقاً مع ما هو مقتنع به ومنافح عنه ومقيم عليه.

لذلك كانت استقالة المذيع "خيري رمضان" انتصاراً للمهنية التي يجب أن يتمتع بها العاملون في الإعلام، وللحياد الذي يجب أن يلتزموا به، من منطلق أن الإعلام رسالة ومهنة مشرِّفة لصاحبها، تسعى إلى بيان الحقيقة واستجلائها. والجمهور يطلب ممن يمارس هذه المهنة أن يكون متجرداً أمام الأحداث التي يصادفها يومياً وهو يمارس مهنته هذه، ليقدمها دون تحريف أو تزييف أو نقصان.

لكن الإعلام في عصرنا هذا لم يعد مجرد ناقل للحدث، بل أصبح مشاركاً في صنعه بطريقة أو أخرى، وفي أحيان كثيرة صانعاً له، والإعلاميون لم يعودوا مجرد راصدين ومتابعين لسير الأحداث، بل هم فاعلون وموجهون لخطوط سيرها. لذلك فإن أي حديث عن الحيادية في هذا العصر هو حديث يفتقر إلى الواقعية والدقة، وأي نظرية عن الوقوف على مسافة متساوية بين طرفين مختلفين هي نظرية مشكوك في مصداقيتها، وإن كان بعض العاملين في الإعلام يحاولون ذلك.

وإذا كانت الاستقالة من الوسيلة الإعلامية التي تحاول فرض رأي مالكها على العاملين فيها، موقفاً شجاعاً يحسب لصاحبه، فإن الاستعداد للموت دفاعاً عن الرأي خطوة متقدمة أكثر شجاعة للتعبير عن الموقف، وهذا ما فعلته الإعلامية المصرية "هالة فهمي"، مقدمة برنامج "الضمير" على "القناة الثانية" في التلفزيون المصري، حين ظهرت على الشاشة حاملة كفنها، مؤكدة أنها مستعدة لبذل حياتها حفاظاً على الحرية التي كفلتها ثورة 25 يناير، قبل أن يُقطع الإرسال عن برنامجها بأوامر من وزير الإعلام الذي أمر بضم إرسال القناة الثانية للقناة الأولى، وفقاً لما قالته، وإحالتها للتحقيق، مشيرة إلى أنها مُنِعت من العمل والظهور الإعلامي في عهد نظام مبارك لاعتراضها على الفساد داخل اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وأن النظام الحالي لا يختلف عن النظام السابق.

هذه المشاهد والمواقف التي تبدو للبعض نادرة وفردية، تأتي في سياق المشهد الإعلامي المصاحب للمشهد السياسي، ليس في مصر وحدها، وإنما في كل مكان، لكن مصر تشكل حالة مثالية لدراسة الحالة الإعلامية، في ظل هذا الواقع الذي فرض نفسه على وسائل الإعلام المختلفة لعوامل عدة، في مقدمتها الإنترنت ووسائل الإعلام الجديد، المتمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، الأمر الذي فرض على العاملين في الإعلام مسؤوليات ووضعهم أمام تحديات؛ أهمها القدرة على الحضور والاستمرار والمنافسة، وأصعبها المحافظة على المصداقية، إذ لم تعد الصحيفة والمذياع والتلفاز هي اللاعبين الوحيدين في الساحة الإعلامية، بعد أن فرضت وسائل الإعلام الجديد نفسها واستقطبت عدداً كبيراً من الباحثين عن الخبر والمعلومة، بل أصبحت هذه الوسائل الحديثة مصدراً مهماً من مصادر وسائل الإعلام التقليدية، التي شاهدناها تنقل بعض الصور ومقاطع الفيديو من مواقع إلكترونية، وتستخدم الكثير من تغريدات وكتابات المسؤولين الذين يبثونها عبر حساباتهم على "تويتر" و"فيسبوك".

هذا التطور التكنولوجي فرض على وسائل الإعلام التقليدية واقعاً تنافسياً صعباً، جعلها تلهث خلف المعلومة للانفراد والسبق، لكنه وضعها على المحك، لتصبح معركتها معركة وجود، خاصة بعد أن أصبحت هذه الوسائل "شماعة" يعلق البعض عليها أخطاءه وإخفاقاته، ويحاول خنق أصوات منافسيه ليبقى هو الصوت الوحيد الذي لا يعلو عليه صوت، تماماً مثلما فعل أنصار التيار السلفي في مصر، عندما تظاهروا يوم الجمعة الماضي أمام "مدينة الإنتاج الإعلامي" في القاهرة، للتنديد بما أسموه أداء الإعلام المصري المعارض للتيار الإسلامي، و"الدور المشبوه لبعض القنوات الإعلامية في إجهاض الشرعية الثورية، والدعوة الصريحة لإراقة الدماء، وتأجيج المشاعر تجاه مؤسسات الدولة الشرعية تحقيقاً لمصالح وأهواء داخلية وخارجية"، كما جاء في بيان الجماعة السلفية، متناسين أن هذه القنوات الخاصة التي يتظاهرون الآن ضدها، كانت هي المنفذ الوحيد لإيصال فكرهم وآرائهم، عندما كانت القنوات الحكومية تقاطعهم وتمنع ظهورهم على شاشاتها، قبل أن تصبح لهم قنواتهم الخاصة ذات الاتجاه الواحد، التي لا يمكن أن ينفذ من خلالها ذو رأي مخالف أو اتجاه مختلف، وتمارس تأجيجاً أكثر تطرفاً وأشد خطورة!

إنها العبارات والشعارات نفسها التي يرددها القابضون على السلطة من مختلف الاتجاهات والعقائد والانتماءات، في كل العصور والأزمان.

مقالات اخرى للكاتب

استقالة على الهواء





اعلان