27 - 12 - 2024

أم كلثوم وأنا .. في الغربة

أم كلثوم وأنا .. في الغربة

يشجيني صوت أم كلثوم أكثر ما يشجيني في (ليالي الغربة) ، وليل الغربة طويل وثقيل ووحيد، يبدأ من السادسة مساء حين أنهي عملي، ولا ينتهي إلا مع شقشقة الفجر الأولى حيث يغلبني سلطان النوم، ويهزمني تحالف النعاس والارهاق .

في تلك الساعة، من الربع الثالث من الليل يأتيني صوتها مليئًا بلوعة الحب والصبابة، مسكونًا بالهجران، فيركبني الشوق حنينًا، ويتلبسني الحنين شوقًا، ويكاد يقتلني التوق إلى الضفة الأخرى من البحر.

نيقوسيا مدينة لا تعرف المشاة وعاصمة للصمت، وكنت أتلذذ بالمشي ــ وحدي دون شريك ــ تحت وابل من المطر، ووسط أجواء من الصقيع، أتسكع أمام واجهات المحلات، أو أقف مشدودًا إلى طراز معماري، أجري هائمًا على وجهي، يدفعني شعور الوحدة باتجاه البحث عن (ونيس) لا أجده، ومن جديد تحط رحالي في بيتي منهوك القوى وحيدًا مع صوت أم كلثوم، وأغمض عيني على صوتها يصدح:

(سهران لوحدي أناجي طيفك الساري ..

سابح بوجدي، ودمعي ع الخدود جاري) .

في تلك الساعة من ساعات الليل كنت أمضي إلى يوسف في جوف البئر، أشد على يده، أعانقه وأمسح عن عينيه الحزن وابشره بملك مصر تجري من تحته الانهار والاحد عشر كوكبا يجيئونه سجدا كان يسألني: مابال النسوة اللائي قطعن ايديهن؟ وكنت أطمئن قلبه، واشد من أزره، وهمست اليه ان أمرأة العزيز سوف تقر بإدانتها وسوف تعترف له بالبراءة ، وسيشهد شاهد من أهلها ان (كيدهن عظيم) وسيرفعك الملك اليه، ويجلسك على العرش، كنت اواسي نفسي فيه وأمسك حلمي حتى لا يفلت من يدي.

وكان صوت أم كلثوم يعيدني إلى شجني وشوقي وكل حنيني.

في تلك الساعة من ساعات الليل كنت أشد رحالي إلى يونس في بطن الحوت، فوقه ماء وتحته ماء، تحيط به ظلمة الغربة، وغربة النفس عما يحيط بها، يملؤه اليأس وتلعب به الظنون، أحكي له الحكايات، وأقص عليه نبأ الذين تغربوا من قبل ومن بعد، ولكنهم تمسكوا بحلمهم، وأمسكوا بقدرتهم على تحقيق أسطورتهم الذاتية، كنت أقول له: استمع إلى قلبك واستفته، توغل في وحدتك برفق، وعاشر غربتك بالمعروف، ولا تنسى أن يومًا سيجيء، وأنت تشق بطن الحوت إلى الرحابة ، حيث العالم فسيحًا، والناس تلتف حولك ويأتينك الرجال سعيًا.

كنت أقهر طول الليل، ووحدتي وشجني وشوقي والساعات الأولى من فجر كل يوم في الغربة بالحديث إليه، والائتناس بــ (يونس) و (يوسف) ، بأشهر من عانوا الوحدة والغربة في تاريخ البشرية.

وكان صوت أم كلثوم يمنحني العافية ويذكرني بالشطوط التي هربت من تحت اقدأمي، وبالبحار التي من خلفي، وبأعداء من أمأمي يترصدون خطوي، وبأنه لا منجا ولا ملجأ لي من الغربة الا بالعودة.

في تلك الساعة من ساعات الليل كان صوت أم كلثوم يحملني إلى ملاعب الصبا، ويدخلني الى حواري بولاق الدكرور، يحملني الى شوارع المهندسين، كان يهيج فيّ كل الشوق الى كل الناس، إلى الأصدقاء الذين غابت صورتهم، أو غأمت، وإلى الأصدقاء الذين لا تزال صورهم محفورة في القلب، إلى الحبيب الذي غدر وهجر، إلى المحبوب الذي مازال يملأ فضاء القلب والخيال..

كان صوت أم كلثوم يبعث كل هؤلاء أمامي بشرًا سويًا، يبث فيهم الحياة، وينعش الذاكرة بكل التفاصيل، وبشتى الصور: بايماءه سلبت لبي، وبابتسأمة ردت إليّ قلبي، بدعوات أمي وهي عارية الرأس: (إلهي يحبب فيك خلقه، حتى الحصى في أرضه)،

يذكرني صوتها بتنورة أول حب بريء ترفعها ريح عابثة ، وما تزال تسكن ذاكرتي لا تبرحها، بساعة (الصبحية) ونحن في الطريق إلى المدرسة، بطبق الفول على (عربة) بشارع جانبي، بعم (جودة) فراش المدرسة، بي وأنا أمسك المذياع لكي ألقي على الطابور حكمة الصباح بصوت رفيع، صغير، وبريء: ( من جد وجد، ومن زرع حصد)،

يذكرني بأيام (الشقاوة) وبليالي الشقاء، بعبث الصغار وتعب الكبار، بأعواد القصب في ليالي الشتاء حول المدفأة، بيدٍ توقظني في جوف الليل: (قوم اتسحر) ، بنشيد: الله أكبر.. فوق كيد المعتدي، بأصواتنا تعلو إلى عنان السماء في طابور الصباح: عاشت الجمهورية العربية المتحدة، بمظاهراتنا وهتافاتنا: (سيد مرعي ياسيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه)، بشارع الجامعة، وشارع (الضباب) ، بالشوارع الخلفية أمسك يد صغيرتي وينبض داخلي الحب الأول، واللمسة الأولى، والقبلة الطازجة، بأول مرة قلت فيها: أحبك، بالتسكع على الكورنيش بالاسكندرية، بساندوتش فول بالزيت الحار.

كانت الصور بكل ظلالها واضاءاتها تجيء مع صوتها بالليل، وكانت التفاصيل بكل ملامحها، بكل رتوشها، حلوها ومرها، كانت كلها تجيء مع صوتها، كان كل ذلك وأكثر منه يجيء مع صوت أم كلثوم في تلك الساعة من ليالي الغربة.

ليل الغربة طويل ووحيد وكثيف وصوت أم كلثوم أنيس وحدتي وشجني وشوقي الذي لا تخمد ناره، ولا أذكر أنني عمدت إلى سماع صوت أم كلثوم في أيأم وليالي القاهرة،

دائمًا يجيئني صوتها في أي وقت عبر مذياع الجيران أو ساعة العصاري عبر المحطة الاذاعية المسماه باسمها، ولكني أبدًا ما وضعت المسجل أمأمي وأصغيت إلى صوتها منه إلا في ليالي الغربة.

في مصر يتبعني كظلي صوت فيروز، أسمعه وأنا أكتب شعرًا او نثرًا ، وأسمعه وأنا في الحمأم، وأنا في حجرة النوم، في السيارة، أو في العمل، في كل مكان وزمان القاهرة يعيش معي صوت فيروز، إلا في الغربة يستحوذ عليّ صوت أم كلثوم ولا يفسح لغيره مجالًا إلا في أضيق الحدود.

صوتها وحده الذي يخمد نار الحنين عندي ... ويوقدها. صوتها وحده هو الذي يطفىء لوعة الشوق لديّ... ويشعلها. صوتها وحده الذي يجعل دمعي يساقط.... ويجففه، صوتها وحده الذي يقدم ملخصًا وافيًا وعبقريًا لمصر في الغربة:

شمس الأصيل ذهبت خوص النخيل يانيل

تحفة ومصورة من صفحتك ياجميل..

وفي القاهرة، وبعد العودة، تعود أشرطة الكاسيت إلى مخبئها، ويلعلع صوت عبد الحليم ليملأ ساحة القلب:

بالأحضان يا حبيبتي يا أمي

يا بلادي يا غنيوه ف دمي

على صدرك أرتاح من همي

وارجع أخدك بالأحضان..
---------------------------
بقلم: محمد حماد

* نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات اخرى للكاتب

محمد حماد يكتب: خسائر إسرائيل في