17 - 07 - 2024

الشخصية في رواية "الكلاب لا تنبح عبثًا" لـ "نشأت المصري"

الشخصية في رواية

تعد الشخصيات في الرواية من أهم مكونات الحكي؛ حيث إن كل عناصر الرواية تدور في بوتقتها، فمن خلال الشخصية يرتسم المكان ويتحدد الزمان وينطلق الحدث.

 والشخصيات تتنوع بتنوع العوامل المحيطة بها، فثمة مؤثرات تتفاعل معها سواء أكانت دينية أو ثقافية أو غير ذلك مما تتعايش معه الشخصية في البيئة التي تتواجد فيها، مما ينعكس بالضرورة عليها؛ فهي تستمد أفكارها من الواقع المعاش، كما أن الشخصية لها دورها الذي لا تقتدر عليه المكونات السردية الأخرى؛ فهي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الأخرى، وبدونها تستحيل بقية عناصر الرواية.

  وتنقسم الشخصيات في الأعمال الأدبية كالقصة والرواية إلى شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية، ويتضح ذلك من خلال تفاعل كل شخصية من الشخصيات مع الأحداث المحيطة، ومن ثم فقد تضاف تنوعات أخرى؛ كالشخصية النامية أو المدورة، والمسطحة أو الثابتة، والإيجابية والسلبية، والفردية والنموذجية.

وفي سياق الحديث عن الشخصية في رواية "الكلاب لا تنبح عبثًا"؛ للروائى نشأت المصرى صاحب المائة كتاب نجد أن عناصرها كافة تنهض على الشخصية الرئيسية "سهام"، بالإضافة إلى أنها تحمل رؤية إصلاحية ودلالة اجتماعية تتماس مع طابع واقعنا؛ فهذه الرواية تناقش عدة قضايا في المجتمع، منها: الفقر وما يترتب عليه - في كثير من الأحوال - من انحدار في الأخلاق، والشرف - في ظل غياب الوازع الديني والقدوة الحسنة، والفقر والشرف هنا من خلال المرأة خاصة؛ حيث وظّف الكاتب البطلة "سهام"، الفقيرة، التي تتخلى عن فلذة كبدها الرضيع، وتندفع فيما بعد نحو الرذيلة!

ومن ثم، فإن شخصية "سهام" نهضت عليها جميع عناصرالرواية، كما تضافرت معها الشخصيات الأخرى؛ لإتمام الحبكة كما أراد الكاتب.

وتدور أحداث الرواية حول سهام وصراع الذات مع مغريات الحياة وملذاتها؛ وعلى الرغم من ذلك، فإن معظم الشخصيات الأخرى كان له أثره في حياتها وشخصيتها وتطور الأحداث وإحكام البناء للقصة، بل إن بعض الشخصيات أثّر تأثيرًا بالغًا في نهاية "سهام" وتحولها عما كانت عليه.

 وقد رُسمت شخصية "سهام" في الرواية من خلال إبراز أبعادها المختلفة؛ البعد الجسماني والبعد الاجتماعي، والبعد النفسي، والبعد الثقافي/ الفكري.

    فيبرز البعد الجسماني في وصف الراوي لـ "سهام" في بداية الرواية وأنها مركز للجمال. وكأنه يبرر رغبة الرجال فيها، بل إن الراوي من خلال وصفه لها يبرر لنا تصرفاتها فيما بعد، وما كان منها من أفعال تخالف الفطرة السليمة؛ وذلك لافتتانها بجمالها.

 ويظهر البعد الاجتماعي في حديث "سهام" عن الراحة التي وجدتها في حضن زوجها الأول والد رزق؛ الذي نستشف منه الطبقة التي تنتمي إليها، وأنها كانت معدمة، ومن ثم يمكن المزج بين البعدين الاجتماعي والجسماني لفهم طبيعة الشخصية التي معنا؛ فهي جميلة وفقيرة، فمن الطبيعي، وفي ظل غياب الوازع الديني والقدوة الحسنة أن تفعل أي شيء من أجل رغباتها حتى إن كان يخالف الفطرة السوية.

 في حين يتضح البعد النفسي للبطلة في أنها متصالحة مع نفسها، ولا تريد التضحية بشبابها من أجل أي شيء، حتى إن كان فلذة كبدها، كما أنها شخصية متناقضة وحافلة بالتغييرات المفاجئة "نامية"؛ حيث نرى سعادتها البالغة عندما تزوجت "فرج"، ونجدها تسلم عواطفها كاملة له، وما نلبث أن نتفاجأ برغبتها الملحة في الطلاق منه بعدما تعرفت على الشاب اليافع "غريب"، فتصر على ما طلبته وتنسى كل أيامها الأولى مع زوجها.

 تعود "سهام" مرة أخرى بأفعال غير متوقعة؛ حيث تنتشي فرحا مع غريب، ولم تعد تذكر ما كان من سعادات قبله، وتأخذ في التفكير في طرقٍ للتخلص من "فرج"؛ كي يتسنى لها الزواج من "غريب"، وتبرر لنا تناقضاتها، خاصة إذا تم مزجها مع البعدين السابقين؛ فهي امرأة جميلة وشابة لا تريد أن تقضي حياتها بين الأمراض والأموات، هي تريد أن تظفر بمتع الحياة فقط.

ويظهر البعد الثقافي/ الفكري في تنهدها في حسرة لأن أباها منعها من مواصلة الدراسة وهي في السنة الإعدادية، رغم أن التعليم كان بالمجان والكتب كذلك، ومن ثم فإن سهام لم تكن على قدرٍ كبير من العلم والثقافة؛ لكنها كانت تدرك عواقب الجهل، وقد دفعها هذا الإدراك لمواصلة القراءة بعيدا عن المدرسة كلما سنحت لها الفرصة؛ فقد تعلمت ألا تستسلم لما يفرض عليها، يدعمها جمالها ومكرها، ومع ذلك لم تشفع لها قراءتها، ففي كثيرٍ من تصرفاتها يتبين لنا الجهل وانعدام الحكمة.

  ومن ثم فإن سمات "سهام" الشخصية تتضح لنا أكثر من خلال تعاملها مع الشخصيات الأخرى داخل القصة، وقد تضافرت السمات كافة في رسم شخصيتها، وعليه، يمكن فهم طبيعتها الخاصة، وما كان منها من مواقفٍ مختلفة وشاذة يمكن استهجانها من قبل الكثيرين.

 وقد وظف الكاتب العتبات في هذه الرواية توظيفًا أسهم في رسم الشخصيات، وخاصة الشخصية الرئيسية "سهام"؛ ويظهر ذلك بداية، في عتبتي"الغلاف والعنوان"؛ فنباح الكلاب لم يكن عبثًا بالفعل، بل كان صوتًا للتنبيه، وكأنه صوت ضمير "سهام" الذي لم تلتفت إليه، وهذا ما اتضح في رسم غلاف الرواية؛ حيث ينبح الكلب ليذكر "سهام" بعهد الوفاء الواجب تجاه ابنها الرضيع، وما تلبث أن تمر الأيام سريعًا ولا يصحو ضميرها إلا وهي تحتضر؛ فتلك "سهام" اليافعة مع ضميرها النائم، وهذه "سهام" قبيل مماتها بضمير يقظ، ونادم على ترك الوفاء لفلذة كبدها.

  وتعيدنا الرواية هنا إلى رواية "دعاء الكروان"، فالكروان في تلك الرواية كان أحد الشخوص، وكان صوته بمثابة الأنس واليقظة معا لبطلة الرواية. وبناء عليه، نجد المفارقة بين نباح الكلاب في هذه الرواية الذي يبعث القلق في النفس، وصوت الكروان العذب عند طه حسين الذي يطمئن سامعه؛ إلا أن الرابط بين الاثنين أن صوت كلٌّ من الكلاب والكروان كان لتنبيه البطلة في الروايتين، ففي صوتهما إنذار أن ثمة شيء سيحدث، وثمة ضمير لا بد له أن يفيق من سباته.

 كما حرص الكاتب في هذه الرواية على العتبات المفتاحية لكل فصل من فصولها، وقد ربط أكثرها بالشخصيات وخاصة البطلة؛ ومن ثم فقد أسهمت العتبات بشكلٍ واضح في خدمة الفكرة والكشف عن كنه الفصل الذي يقع تحت كل عتبة منها.

 قلنا إن هذه الرواية تحمل رؤية إصلاحية، وتتمحور هذه الرؤية حول قضايا الأسرة/ المجتمع؛ يظهر ذلك بإبراز الضد، أو إبراز الجوانب السلبية في الأسرة/ المجتمع؛ فمن خلال إدراك السلبي في الشخصيات وموافقهم المختلفة، يمكن تلافي كثير من المشكلات بل تحويلها إلى جوانب إيجابية لإصلاح الفرد والجماعة.

 وتبرز الرؤية الإصلاحية في هذا الرواية في شخصية "سهام" الأم والزوجة، فهي الأم التي تركت وليدها "رزق" صغيرًا لتتزوج وتسر بمتع الحياة، وهي الأم التي مات ولدها "معوض" أمام عينيها بفعل انشغالها عنه، وهي الأم التي تسببت في ضياع ابنتها وسلب عذريتها "مديحة"، وهي الزوجة التي لم تبق على الوفاء لزوجها "والد رزق" وتزوجت بمجرد وفاته، وهي الزوجة التي ملّت من مرض زوجها "فرج" وقررت فراقه أكثر من مرة للزواج من غيره، وهي الزوجة التي شاركت زوجها "غريب" في آثامه من أجل الحصول على المال.

 فكل هذه الأمور وغيرها تبرز الجوانب السلبية في الأسرة، ومن ثم المجتمع الذي تتفشى فيه الرذائل الأخلاقية. كما تتبين الرؤية الإصلاحية فيما بعد، من خلال صوت ضمير "سهام" الذي أخذت في الانتباه له، وأنها أخطأت منذ البداية؛ فيظهر تيار الوعي، حين تقول: "لماذا أرتدي الآن الثوب الأحمر واسع الفتحات؟، ولماذا أنساق لطلب غريب وأنا التي تسخر منه حد الاحتقار؟ هل ينبغي أن أحتقر نفسي أيضا؟..."

كما أنها تتساءل في النهاية، وبمونولوج يجلدها من الداخل؛ "سألت نفسها ذات مرة سؤالا دفنته نهائيا وهو: كيف أعوض رزق عن اختفائي منذ كان رضيعا؟ هل أخطأ رزق في حقها لكي تتركه رضيعا بحكم امبراطوري داخلي..."، ومن ثم تنتبه "سهام" في نهاية القصة إلى قبح صنيعها، وتبدأ مشاعر الأمومة في التحرك، ولكن بعد فوات الأوان.       

 وبينما هي تحتضر، دار حوار في ذهنها لابنها رزق، فتقول دون حديثٍ: "تصور يا رزق، أمتلئ أملا أن يعيدني الله شابة في العشرين، تطيل السهر إلى جوارك، وتمسح دموعك، وتضحك لك ومعك، وتحضنك حين تتخلى الأيام عنك، سأقاتل عنك، وأسلمك يوم زفافك إلى زوجتك. واحتفظ لك بعبوات الدواء الفارغة..."

 فيسدل الستار على "سهام" التي يرق لها أخيرا قلب ابنها، وترى دموعه عليها، في وقتٍ لا يسعها فيه أي شيء حتى الندم! 

 وتبرز الرؤية الإصلاحية واضحة كذلك في أفعال بعض الشخصيات؛ وذلك بإنكار الرذيلة والتحلي بالفضائل مهما كانت المغريات؛ وتتضح هذه الرؤية في شخصية "ألفت" -ابنة سهام-، التي وجدت النجاة في المسجد، وآثرت الابتعاد عن الأفعال الشنيعة التي كانت تقوم بها "سهام" وتبعتها فيها "مديحة"، بل كانت تحرص على نصيحتهما وأن أفعالهما ستودي بهما إلى الهلاك يومًا ما.

  فكانت تحرص على نجاة أمها وأختها معها، ولطالما طلبت من مديحة أن تتحدث مع "سهام"؛ لعلها تستجيب وتصحو من غيابتها، وقد عوض الله "ألفت" على صبرها وتزوجت من "محمود" الذي كان يحلم بزوجة مصلية، ذكية تقبل بالقليل، وكان يحلو له أن يقول لألفت: أنت البشرى وقدم السعد.
--------------------------------
بقلم: آية محمد حسين محمد*
* مدرس م - كلية دار العلوم جامعة الفيوم