23 - 07 - 2024

قصة الدخان في الخرطوم .. الرغبة في الحفاظ على الامبراطوريات الاقتصادية سبب اشتعال الفتيل

قصة الدخان في الخرطوم .. الرغبة في الحفاظ على الامبراطوريات الاقتصادية سبب اشتعال الفتيل

في الخامس عشر من أبريل، اندلعت الاشتباكات في العاصمة السودانية الخرطوم، بين القوات المسلحة السودانية الموالية لعبد الفتاح البرهان، الجنرال الذي يدير مجلس الحكم في البلاد، ضد القوات شبه العسكرية لنائبه محمد حمدان دقلو المعروف أيضًا باسم "حميدتي" بمعنى (محمد الصغير)، البونابارتي الذي يطالب بالعرش في السودان.

في البداية، بدا أن ميليشيات حميدتي، المعروفة باسم قوات الدعم السريع تتمتع بالأفضلية.

لقد سيطرت هذه القوات على العديد من القواعد الجوية ونصبوا أنفسهم في المناطق السكنية بالخرطوم، مما أدى إلى شن حملة صعبة من حرب المدن على البرهان.

بحلول نهاية السادس عشر من أبريل، كان استخدام أسلحة القوات المسلحة السودانية المتفوقة تدل على تقدم قوات الدعم السريع، حيث قصفت الطائرات المقاتلة ثكنات هذه القوات وطردت القوات شبه العسكرية من مواقعها في جميع أنحاء المدينة.

لا يزال الكثير من المعلومات بشأن الوضع غير مؤكد، حتى بالنسبة لأولئك الموجودين على الأرض.

كتب لي أحد الأصدقاء قائلًا إن "كل ما يمكنني قوله هو من أين يأتي الدخان".

على عكس ما حدث خلال انقلاب أكتوبر 2021، لا يزال الإنترنت موجودًا، لكنه لم يضف الكثير من الوضوح الى المشهد السوداني، حيثُ يتم إخفاء الحقائق من خلال الادعاءات والادعاءات المضادة، ويتم نشرها جميعًا على الفيسبوك.

الواضح هو سبب اندلاع هذه المواجهة.

تصاعدت التوترات بين الجانبين منذ التوقيع على اتفاق يسمى (الاتفاق الاطاري) في ديسمبر 2022، الذي كان من المفترض أن يمهد الطريق للانتقال إلى حكومة بقيادة مدنية ورحيل المجلس العسكري الذي كان يحكم السودان منذ أكتوبر 2021.

تعامل الاتفاق مع المسائل العالقة من خلال محاولة جعل الناس تنساها بدل حلها، فهو لم يتطرق إلى دمج قوات الدعم السريع في الجيش - وهو هدف يرغب البرهان في أن يستغرق تحقيقه عامين، وحميدتي يريده ان يتحقق بعد عشرة أعوام.

تميزت العملية السياسية التي بدأت بسبب الاتفاق الاطاري بكونها غامضة للغاية وغير واقعية تمامًا.

بسبب الاتفاق، اصبحت التسويات الدقيقة متوقعة خلال أسابيع فقط وفقًا لجدول زمني تم إنشاؤه الى حد كبير لإرضاء المجتمع الدولي، بينما في الحقيقة ان تلك التسويات قد تتطلب اشهرًا قبل ان تتحقق.

أدت هذه المطالب إلى تصعيد التوترات الكامنة بين الجانبين، مما دفع قوات الدعم السريع إلى الاعتقاد بأن مصر - وهي داعم طويل الأمد للجيش السوداني - ستتدخل.

نشر حميدتي قواته بجوار قاعدة مروي الجوية في بداية شهر رمضان، مما وفر حافزًا للاشتباكات الحالية.

لفهم جذور الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، لا بد من العودة إلى تشكيل الدولة السودانية. لقد بدأت الحرب الأهلية الأولى في السودان عام 1955، أي قبل عام من استقلاله عن الإمبراطورية البريطانية. كانت خطوط الصراع في مرحلة ما بعد الاستعمار تسير على نفس الخطوط التي عاشها الحكم الاستعماري حيث قاتلت نخبة يهيمن عليها عدد قليل من العائلات، تعيش على ضفاف النهر في الخرطوم والمدن التابعة عليها، ضد الأطراف الأخرى متعددة الأعراق في البلاد والتي قامت عائلات النهر باستغلالها من اجل الحصول على الموارد والعمالة.

بعد الحرب الاهلية الأولى التي امتدت بين 1955 و1972، جاءت حرب أهلية أخرى بين 1983 و2005.

في الثمانينيات، كادت أزمة الديون أن تدفع السودان الى الافلاس، وواجهت الخرطوم صعوبة في دفع تكاليف جيشها، بينما استمر الصراع على اطراف البلاد وإلى حد كبير في الجنوب.

انطلاقاً من هذه الأسس غير الواعدة، شكل عمر البشير، الذي كان عميداً في الجيش آنذاك والذي تولى السلطة في انقلاب عام 1989، شكلاً مستداماً من الحكم.

بدلًا من تقديم الخدمات في الأطراف، استخدم الميليشيات لشن حملة لمكافحة التمرد بثمن بخس، مما دفع العديد من الجماعات العرقية في السودان الى مواجهة بعضها البعض.

خصخص البشير الدولة، وقسمها إلى إقطاعيات تحكمها أجهزته الأمنية التي عمل على مضاعفة اعدادها، وقام بتفريقها من أجل منع نظامه من الانقلاب، وسرعان ما بدأ الجيش السوداني يتنافس مع جهاز الأمن والمخابرات الوطني، واضطر لاحقًا إلى التعامل مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، على سبيل المثال لا الحصر من الأجهزة الأمنية.

كل واحدة من هذه القوى قامت ببناء إمبراطوريتها الاقتصادية الخاصة بها، فقد أدار الجيش السوداني شركات بناء وخدمات تعدين وبنوك، بينما سيطرت قوات الدعم السريع على تعدين الذهب وخدمات المرتزقة المربحة.

أبرم البشير اتفاقية فاوستية (اتفاق مع الشيطان) مع مدن السودان: قبول الإرهاب في اطراف البلاد مقابل سلع رخيصة وإعانات الوقود والقمح، اللذين تطلب استيرادهما عملات أجنبية يتم الحصول عليها من بيع الموارد المنتجة في هذه الأطراف.

بدأ النفط في التدفق عام 1999، وكان معظمه من جنوب السودان، ودعم الدخل من بيعه الاستهلاك الحضري وشحذ الالة الرئيسية لعلاقة المصالح المالية بين كافة الاطراف داخل النظام في السودان التي كان البشير يجلس في وسطها حيث لعب دور الوسيط الرئيسي بين تحالف غير عملي من الأجهزة الأمنية والسياسيين.

في حال تمكنت الأطراف في السودان في التحكم في مواردها الخاصة، فأن الالة التي أقامها البشير كانت ستتوقف عن العمل، لان مصالح الأطراف كانت متعارضة مع مصالح المركز.

في عام 2003، عندما كانت الحرب في جنوب السودان تقترب من نهايتها، اندلعت حرب جديدة في دارفور.

قرر البشير تكرار الحيلة التي استخدمها في الجنوب - حيث قاتلت قوات الميليشيات ضد قوة متمردة جنوبية - وتسليح المجتمعات العربية في دارفور لمحاربة المتمردين غير العرب.

هذه الميليشيات الملقبة بـ "الجنجويد" (الفرسان الأشرار)، سرعان ما انتشرت لتصبح قوة من عشرات الآلاف، والتي شنت حربًا شرسة ضد المتمردين في دارفور والمدنيين على حد سواء.

كانت هذه هي الحرب هي التي ستصنع حميدتي.

سرعان ما اصبح تاجر الجمال من قبيلة الماهرية الصغيرة من عرب الرزيقات والتي تعيش في كل من تشاد ودارفور، قائد حرب، وسرعان ما جمع قوة من 400 رجل، وفي عام 2007، أصبح حميدتي متمردا لفترة وجيزة، ولكن من أجل الاستفادة من العنف للحصول على موقع أفضل في الحكومة.

بعد خمس سنوات، مع تعثر سيطرة البشير على الجنجويد، قدم حميدتي نفسه على أنه الرجل الذي يمكنه محاربة التمردات السودانية كرئيس لقوات الدعم السريع التي تم إنشاؤها حديثًا، والتي استوعبت الكثير من الجنجويد.

اقترب حميدتي من البشير، وسرعان ما أصبح يده اليمنى المختارة ويقال إن البشير أصبح مغرمًا بحميدتي لدرجة أنه أطلق عليه بمودة اسم "حمييتي" أي الحامي لي.

لكن بينما تسبب حميدتي في سلسلة من الهزائم في صفوف حركات التمرد في دارفور، كان نظام البشير يعاني.

في عام 2005، وتحت ضغط دولي، وقعت الحكومة السودانية اتفاقية سلام مع متمردي الجنوب، مع وعد بإجراء استفتاء جنوبي على الاستقلال، وفي عام 2011، صوت جنوب السودان للانفصال، مما حرم الخرطوم من ثلاثة ارباع من عائداتها النفطية، وبدون السيولة الدولارية، بدأت آلة التعاملات المصلحية في قلب النظام السوداني والتي يستخدمها البشير في الانهيار.

حاول النظام تنويع قاعدته الاقتصادية من خلال بيع الأراضي لدول الخليج والانخراط في تعدين الذهب، وقاد حميدتي هذه العملية.

استخدم حميدتي منصبه كرئيس لقوات الدعم السريع لبناء إمبراطورية اقتصادية، وأسس شركة قابضة تسمى الجنيد واستحوذ على منجم الذهب الأكثر ربحًا في السودان.

مثل كل رواد أعمال العنف، سرعان ما وسع حميدتي اهتماماته حيثُ إرسال قوات الدعم السريع كمرتزقة للقتال ضد الحوثيين في اليمن من اجل الحصول على الرواتب الإماراتية، كما شارك في تنظيم ممر المهاجرين في منطقة الساحل، عن طريق منع المهاجرين من عبور البلاد (وهي مبادرة كانت ممولة من قبل الاتحاد الأوروبي)، ثم إجبار نفس المهاجرين على شراء حريتهم.

بحلول عام 2018، كان حميدتي يدير إمبراطورية تجارية تشمل العقارات وإنتاج الصلب، وأسس شبكة رعاية تنافس البشير.

قلة في الوسط السياسي والتجاري السوداني كانوا سعداء بهذه التطورات.

بالنسبة للنخبة السياسية التي تعيش على شواطئ النيل في الخرطوم والجيش السوداني على حد سواء، كان حميدتي مغتصبًا جاهلا قادما من الأطراف، وعلى الرغم من أنه كان عربيًا، إلا أنه لم ينحدر من زمرة ضيقة من العائلات التي حكمت السودان لفترة طويلة، وكانت إمبراطوريته الاقتصادية تهديدًا مباشرًا للهيمنة العسكرية السودانية.

اصبح الاقتصاد السوداني في حال توقف تام بحلول عام 2018 بالرغم من محاولات البشير إيجاد مصادر بديلة للعملة الأجنبية، وبسبب اليأس، بدأ الديكتاتور في قطع الدعم عن القمح والوقود وانتهك اتفاقه القديم مع مدن السودان في الأطراف.

بدأت الاحتجاجات في الأطراف وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء البلاد، وقاد اتحاد المهنيين السودانيين، وهو مظلة من نقابات العمال ذوي الياقات البيضاء، المظاهرات وسرعان ما بدأ في الدعوة إلى استقالته.

بحلول يناير، انضمت إلى تحالف فضفاض من الأحزاب السياسية المعارضة في تجمع يسمى قوى الحرية والتغيير، ونُظمت الاحتجاجات في الخرطوم عدد من لجان المقاومة وسادها جو كرنفالي، حيث قدمت المساعدة المتبادلة والرعاية الصحية المجانية في توبيخ صريح لعنف وقمع النظام.

مع اشتداد التمرد، راوغ مؤيدو البشير في الخليج بعيدًا عن دعمه وأصبح الجيش مضطربًا بشكل متزايد.

قتل الناس في اطراف السودان شيء، وقتل شباب الخرطوم في المناطق الحضرية شيء اخر، خصوصًا وان الكثير منهم جاء من عائلات الجنود انفسهم. في 10 أبريل 2019، زُعم أن البشير أعطى أمرًا بفتح النار على الاعتصام، ويزعم حميدتي أنه رفض هذا الأمر، وبحلول اليوم التالي، رحل البشير.

كانت الأجهزة الأمنية تأمل في أن يتمكنوا من خلال الإطاحة بالبشير من الحفاظ على سيطرتهم على إمبراطورياتهم الاقتصادية.

للحظة، كان الجنود أبطالًا، حتى أن حميدتي وجد بعض الدعم الشعبي في الخرطوم، المدينة التي لطالما اعتبرته دخيلًا لكنها كانت مجرد لحظة.

أراد المتظاهرون حكومة مدنية، وليس ديكتاتورًا عسكريًا جديدًا، وبدلاً من التفرق، اعتصموا أمام المقر العسكري في الخرطوم.

لعبت الأجهزة الأمنية على الوقت وكانت تأمل أن تتمكن من اتعاب المتظاهرين، لكن مع مرور الأشهر انزعج الجيش، ووجدت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع سببًا مشتركًا لقمع الاضطرابات المدنية.

في وقت مبكر من صباح يوم الثالث من يونيو، حاولت الأجهزة الأمنية، بما في ذلك قوات الدعم السريع، فض الاعتصام، وبحلول نهاية اليوم، قُتل ما يقرب من 200 متظاهر وأصيب حوالي 900، ومع ذلك، استمرت الاحتجاجات.

في الثلاثين من يونيو، الذكرى الثلاثين لتولي البشير السلطة، تظاهر مليون شخص ضد المجلس العسكري. ومع ذلك، انقسمت القيادة السياسية للمعارضة بشأن كيفية المضي قدمًا. فقد اعتقدت العديد من لجان المقاومة أن مذبحة الثالث من يونيو دمرت مصداقية الجيش، وأن الوقت مناسب للتحضير لإضراب عام لإخراجهم من السلطة، لكن قوى الحرية والتغيير بدأت مفاوضات مع الجيش، الذي كان يتعرض لضغوط من الولايات المتحدة وبريطانيا عبر السعودية والإمارات، للدخول في حكومة انتقالية مع المدنيين.

في الأول من يوليو، أعلن تجمع المهنيين السودانيين عن خطط من الاحتجاجات المؤدية إلى إضراب عام تمتد لأسبوعين، وبعد أيام قليلة، أعلنت قوى الحرية والتغيير عن اتفاق شفهي مع الجيش، وغيّر التجمع مساره.

دفعت الاتفاقات التي تم توقيعها أخيرًا في أغسطس 2019 قوى الحرية والتغيير إلى حكومة انتقالية مع الجيش، لكنها أرجأت القضايا الأكثر جوهرية في السودان، والتي كان من المقرر حلها في المستقبل البعيد.

ستُجرى الانتخابات في عام 2022، وحتى ذلك الحين سيُحكم البلد من قبل مجلس سيادي يتألف من ضباط عسكريين وسياسيين مدنيين، على رأسه البرهان وحميدتي نائبه، ويشرف على حكومة تكنوقراط بقيادة الاقتصادي السابق في الأمم المتحدة عبد الله حمدوك.

في وقت متأخر، أصبح الغرب مهتمًا بنضال السودان من أجل الاستقلال.

كان إعادة الاصطفاف الإقليمي للسودان على المحك، حيث كان على السودان تطبيع العلاقات مع إسرائيل وإصلاح الاقتصاد الوطني، وفي هذه الأجواء بدا ان الاستماع الى الدبلوماسيين ومسؤولي البنك الدولي الذين اقتحموا مقاهي الخرطوم المكيفة بعد الثورة كما لو كان ذلك سيؤدي الى إقامة النظام النهائي الذي لطالما سعت البشرية من اجل اقامته.

بالنسبة لهم، ستظهر يوتوبيا ديمقراطية من خلال التقشف وإلغاء الإعانات.

كانت حكومة حمدوك من أوائل الذين تبنوا هذه العقيدة، حتى لو كان ذلك يعني الإهمال بغرور لتلك الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للثورة التي أطاحت بالبشير.

أعلن اول وزير للمالية إبراهيم البدوي - خريج البنك الدولي - أن الهدف من الثورة هو تحرير البلاد من أزمة ديونها من خلال قطع الدعم عند توليه مهام منصبه.

كان يبدو أن العديد من تصرفات قوى الحرية والتغيير مصممة لمناشدة الجمهور الدولي، بينما كانت اجندتها المحلية قد توقفت بسبب مؤسسة عسكرية كانت عازمة على استخدامها من اجل الحصول على الإشادات الدولية بدلًا من تركها تقوم بدورها في تفكيك النظام الاقتصادي العسكري الذي كان قائمًا منذ أيام البشير.

كان التمويل العسكري على الدوام خارج نطاق اختصاص الجزء المدني من الحكومة، ولم يبدأ إصلاح قطاع الأمن قط.

واصل حميدتي زيادة قوته العسكرية والاقتصادية حيثُ تم تجنيد قوات الدعم السريع في جميع أنحاء البلاد وليس فقط في دارفور، مما دفع بعض مؤيديه إلى الادعاء بأن قواته شبه العسكرية، وليس القوات المسلحة السودانية، هي التي تشكل القوات المسلحة السودانية الحقيقية.

تولى حميدتي أيضًا زمام المبادرة في التعامل مع الأطراف، وأدى اتفاق أغسطس 2019 إلى تهميش الجبهة الثورية السودانية، وهي تجمع للعديد من المتمردين المسلحين من هوامش البلاد، وأصبحت السلطة مرة أخرى بيد المركز وحده.

لهذا السبب، رأى بعض قادة المتمردين في قوى الحرية والتغيير ان ما يجري مجرد تكرار لحكم عائلات النهر، وأعربوا عن أملهم في أنه بالرغم من قيام حميدتي بالحاق هزائم مروعة بهم خلال العقد الماضي، فقد يكون شخصًا يمكنهم التعامل معه.

في حين كانت الحكومة المدنية هي التي أخذت زمام المبادرة رسميًا في المفاوضات اللاحقة مع المتمردين، مارس حميدتي سيطرة غير رسمية على العملية.

في أكتوبر 2020، تم توقيع اتفاق بين الحكومة الانتقالية والمتمردين يضمن لهم مقاعد في الحكومة ووعد بنقل سلطات سياسية اكبر الى الأطراف.

في النهاية، لم يتم تنفيذ أي من البنود الأكثر طموحًا في الاتفاقية تقريبًا.

وبدلاً من ذلك، سمح اندماج المتمردين في حكومة الخرطوم لحميدتي باستخدام كتاب قواعد اللعبة الذي اتبعه البشير والذي يقوم على تفتيت قوات المعارضة ووضعها في مواجهة بعضها البعض - ضد خصومه.

اعتبارًا من أكتوبر 2020 فصاعدًا، استخدم حميدتي المتمردين لتقسيم المركز في السودان.

في هذه المرحلة، كان الإحباط العام من حكومة حمدوك يتنامى، حيث دعا بعض المتظاهرين إلى استقالته وقام الجيش بتصعيد الضغط ونظم المتمردون، المندمجون الآن في الحكومة، احتجاجات على غرار تلك التي أدت إلى سقوط البشير خارج المقر العسكري مرتدين قناعًا يخفي وجههم الحقيقي.

لقد زعموا أن حكومة حمدوك ضلت طريقها قائلين انها كانت مهتمة فقط بالمركز، وليس بالعدالة لدارفور أو بتغيير التفاوتات الجغرافية التي عصفت بالبلاد لفترة طويلة.

كان هناك الكثير من الحقيقة في هذا الخطاب، ولكن تحته كان هناك دافع سياسي مختلف يتمثل في زعزعة استقرار البلاد وإرساء الأساس لانقلاب عسكري مستقبلي.

جاء هذا الانقلاب، الذي كان متوقعًا منذ فترة طويلة، بمثابة صدمة فقط لأعضاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذين لم يتخيلوا أبدًا أن الجيش يمكن أن يتخلى عن طيب خاطر عن الاستثمار الدولي الذي قد ينضب في حالة الاستيلاء على السلطة، لكن البرهان وحميدتي، اللذين تلقيا وعودًا بتمويل من الخليج، لم يترددا في تطبيق هذا السيناريو، وفي 25 أكتوبر، شكر البرهان حمدوك على خدمته ثم أعلن حالة الطوارئ.

ندد المعلقون الدوليون بموسم من الانقلابات، ووضعوا السودان في تشكيلة متنوعة من الانقلابات إلى جانب ميانمار ومالي وغينيا، لكن في الحقيقة، لم يكن انقلاب السودان سيؤدي الى دكتاتورية عسكرية على النموذج المصري.

لم يكن لدى المجلس العسكري برئاسة السودان عقيدة او قاعدة اجتماعية حقيقية، على عكس نظام البشير، الذي حكم بمساعدة الإسلاميين في السودان، على الأقل خلال العقد الأول من عهده. كان استيلائهم على السلطة بمثابة خطوة تفاوضية، تهدف إلى إعادة حمدوك إلى منصب رئاسة الوزراء بحكومة ضعيفة مع الحفاظ على قاعدة القوة العسكرية.

عاد حمدوك إلى منصبه بعد شهر من الانقلاب، لكنه استقال وسط استمرار الاحتجاجات في الشوارع بعد ستة أسابيع، وبحلول أكتوبر 2022، كان من الواضح أن النظام العسكري كان يتراجع.

لقد فشل الخليج في الوفاء بوعوده المالية للمجلس العسكري، وكان التضخم والجوع يتصاعدان، ولم يكن هناك تهاون في الانضمام الى المظاهرات العامة.

أثبت الانقلاب أن العداء الأساسي للثورة السودانية بقي على حاله، فمن ناحية كان الحاكمون هم مجلس الامن الذي شكله البشير (وكان مازال قائمًا في غياب البشير نفسه) ومن ناحية أخرى كان المواطنون الحضريون في السودان متمسكين بالحكم المدني وتمثلهم لجان المقاومة المختلفة مع تهميش قوى الحرية والتغيير.

بالنسبة للأمريكيين والبريطانيين، لم يكن الجيش السوداني ليغادر السلطة، لذا تطلبت الواقعية حكومة انتقالية مدنية عسكرية جديدة، وفي الدوائر الدبلوماسية، لا يُعتبر البرهان إسلاميًا، وبالتالي فهو شخص يمكن للغرب أن يتسامح معه.

من جانبه، اعتبر المجلس العسكري أن أفضل طريقة للحفاظ على الانقلاب هي إنهاؤه وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، يمكن للجيش لاحقًا أن يلقي باللوم على هذه الحكومة في مشاكل السودان الاقتصادية المتفاقمة.

كانت هذه خلفية الاتفاقية الإطارية، الموقعة في 5 ديسمبر 2022، والتي جمعت بعضًا من قوى الحرية والتغيير وبعض الأحزاب السياسية السودانية في حكومة جديدة مع الجيش.

أعرب مسؤولو الأمم المتحدة والدبلوماسيون الغربيون عن رضاهم عن الاتفاق الذي قوبل بالاحتجاجات في جميع أنحاء السودان. الاتفاق، مرة أخرى، رفض التعامل مع القضايا الأكثر الحاحًا في البلاد.

تُركت ديناميكيات القطاع الأمني، ومكانة قوات الدعم السريع، ودور الجيش في الحكومة إلى المرحلة الثانية، والتي أعطيت الإطار الزمني القصير بشكل سخيف وهو شهر واحد.

في صدارة الصفقة كان يقف حميدتي، الذي كان يجتهد في انتقاد الانقلاب وحاول أن يضع نفسه في مكانة قريبة من قوى الحرية والتغيير المدني.

أثار ذلك قلق مصر، التي كانت تخشى تهميش القوات المسلحة السودانية، وبالتالي أنشأت إطارًا تفاوضيًا منفصلاً في القاهرة، بما في ذلك بعض الجماعات المتمردة التي انضمت إلى الحكومة قبل الانقلاب.

مع توقيع الاتفاقية الإطارية، أصبحت المعارضة المدنية - العسكرية التي هيمنت سابقًا على السياسة السودانية أكثر تعقيدًا إلى حد كبير.

بدأ البرهان وحميدتي البحث عن دعم من المدنيين والمتمردين، بينما كانا يبحثان أيضًا عن داعمين إقليميين.

كان هذا يعني أنه كان من المستحيل تقريبًا تصور إصلاح قوات الأمن، حيث كان اللاعبان العسكريان الرئيسيان في البلاد على خلاف متزايد: تحالفت مصر مع البرهان بينما كان حميدتي يعمل مع مجموعة فاغنر الروسية.

بحلول شهر مارس، كانت ورش العمل جارية مؤقتًا بشأن القضايا الأعمق التي تؤثر على الصراع في البلاد، بما في ذلك مكان قوات الدعم السريع داخل الجيش السوداني.

أعلن رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرثيس، أمام مجلس الأمن الدولي في العشرين من مارس أنه "يشعر بالتشجيع بسبب ضآلة الاختلاف الجوهري بين الأطراف الفاعلة الرئيسية"، ومع ذلك، لم يقتنع باقي السودان.

شعر أصدقائي الذين يعيشون في الخرطوم أن الصراع بين البرهان وحميدتي أصبح حتميًا.

وكان كذلك. اصطدمت القضايا، التي تم تأجيلها مرارًا وتكرارًا، بالحائط، وطرد البرهان ممثلين عن قوات الدعم السريع من اجتماع بشأن إصلاح قطاع الأمن، بينما بدأت قوات الدعم السريع في حشد قواتها حول الخرطوم استعدادًا للاشتباكات.

الجدول الزمني التعسفي الذي وضعه الدبلوماسيون الذين أرادوا تشكيل حكومة بنهاية شهر رمضان، زاد بلا شك من حدة هذه الانقسامات.

الآن، مع دخول القتال يومه الثالث، هناك فرصة ضئيلة لوقف إطلاق النار في المستقبل القريب خصوصًا وان خطاب الرجلين عدواني.

بالنسبة لحميدتي، فإن هذه على الأرجح هي المرة الأولى والوحيدة التي سيحاول فيها الاستيلاء على الحكم، وإذا هُزم، وتم حل قوات الدعم السريع في الجيش، فسوف تتآكل قاعدة دعمه وسيتبع ذلك تفكك إمبراطوريته الاقتصادية.

بالنسبة للبرهان، المدعوم من مصر، لا يزال هناك المزيد من الخيارات للمفاوضات، لكن لا ينبغي الاستهانة بعمق الحقد الذي يشعر به الجيش ضد مغرور دارفور.

على الرغم من قوة القوات المسلحة السودانية - والدعم المصري - فمن غير المرجح أن تكون معركة سهلة، فقوات الدعم السريع موجودة في المناطق المدنية بالخرطوم، ووقعت بالفعل بعض أكثر المعارك دموية في دارفور، على أرض حميدتي.

مهما كانت نتيجة الصراع - والاحتمال هو أنه سيؤدي إلى خسائر مدمرة في الأرواح - فإنه سيمثل حقبة جديدة للسودان.

اندلعت الحروب الأهلية الثلاث السابقة في الأطراف، وحافظت على العلاقات الطبقية المتأثرة جغرافياً المرتبطة بالبشير.

لكن هذه الحرب الاهلية تقف على النقيض من ذلك، فهي تجري في الخرطوم والمدن التابعة لها.

حميدتي، الذي برز من خلال سياسات المصالح المالية التي تبناها البشير واستغلاله للميليشيات، يتمتع الآن بحياة سياسية خاصة به. إن وضعه كطرف خارجي الذي يتحدى النخبوية النهرية في الخرطوم يشاهده الجميع الان في شوارع وسماء مساحات السودان الحضرية.
-------------------------------------------------
جوشوا كريز من موقع سايد كار - الترجمة نقلا عن صفحة زيد بنيامين