27 - 12 - 2024

د. عبدالله التميمي: وسائل الإعلام تعاني "الأمية الإعلامية" وافتقاد القدرة على التعامل مع أدوات العصر

د. عبدالله التميمي: وسائل الإعلام تعاني

يقدم الاكاديمي اليمني وخبير الإعلام والاتصال د.عبدالله عبدالمؤمن التميمي في كتابه "الإعلام العربي الاستراتيجية والدور" رؤية مستقبلية لما يجب أن يكون عليه الإعلام العربي في المرحلة القادمة، وذلك من خلال قراءة متفحصة ودقيقة، وبشكل موضوعي حيث يضع يده على مكامن الخطر، ومواطن الضعف. وذلك انطلاقًا من كون الإعلام هو قضية الساعة، حيث يرى أن الذين قالوا من قبل (لكل زمان آية.. وآية هذا الزمان هو الإعلام) لم يكونوا مبالغين، فالرسالة الإعلامية في النهاية هي التي تتشكل بها وجدان ومفاهيم وقناعات الآخرين، وهي التي تحدد قيمة الشعوب ومكانتها بين الأمم.

ويشير التميمي في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة إلى أن الإعلام والدبلوماسية وجهان لعملة واحدة هي "السياسة الخارجية" وصورة الدولة في المجتمعين الدولي والإقليمي، ولذلك نجد أن الرسالة الإعلامية العربية وهي ترسم هذه الملامح لاتزال دون المستوى برغم كل الجهود المبذولة للارتقاء بها خارجيًا وداخليًا، فما زالت رسالة ضعيفة ركيكة المستوى والمحتوى دفاعية تبريرية لم تدخل بعد مرحلة اقتحام الغير وطرح المبادرات التي تجعل الطرف الآخر في موقف دفاعي بديل.

ويؤكد إن الإعلام العربي بحاجة ماسة اليوم إلى إعادة قراءته من جديد بما يتماشى مع الواقع الجديد والرؤية الجديده لما يدور اليوم على الجغرافية السياسية العالمية، والتي تلقي بظلالها على العالم العربي. فحالة التغيير الدراماتيكي السريع الذي يعيشه إعلامنا العربي، والتطورات السياسية المتلاحقة على المشهد السياسي في العديد من أقطارنا العربية وحالة الغليان التي أصابت الشعوب العربية، وحالة الارتباك الشديد التي يعيشها العديد من دول الربيع العربي، كل ذلك ألقى بظلاله على ضرورة إعادة النظر في الاستراتيجية القائمه لوسائل الإعلام، ومحاولة رسم خطوط من المعرفة والتنبؤ لمستقبل جديد لأمتنا وشعوبنا.

ويرى التميمي إن عملية وضع استراتيجية إعلامية جديدة للإعلام العربي من شأنها أن تعطي انطباعًا قويًا على أهمية استشراف المستقبل وحسن توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الاستراتيجية المستقبلية، وهو الطريق الأكثر إبداعًا وإثراءً للمستقبل. إن الحديث عن الاستراتيجية هو الحديث عن المستقبل بكل تفاصيله، وهو ليس ترفًا فكريًا كما يتصور البعض أو نوعًا من التنجيم بل هو نشاط إبداعي ينطلق من دراسة الواقع بكل أبعاده ويرسم رؤى وأهدافًا مستقبلية من شأنها الحفاظ على استمرار المؤسسات الإعلامية وتطورها ومن ثم توفير الكوادر والمهارات المطلوبة لقيادة هذا المستقبل ومن ثم التخطيط له.

ويلاحظ أنه بالرغم من أن البعض ينظر إلى أن الإعلام العربي بوضعه الحالي يتمتع بدرجة مقبولة من التطور إلا أن هذا الإعلام لايزال يفتقد إلى وجود استراتيجية إعلامية عربية واضحة المعالم، مما أدى إلى وجود نوع من الارتباك في الأداء الإعلامي، واختلاط العديد من الأوراق والتصورات الإعلامية الأمر الذي أضعف من كفاءتها، وجعلها لا تلبي الطموحات القومية ولم توصلها إلى مستوى الإعلام الغربي. وهذا ما يجعلنا اليوم نعيد النظر في هذا الأمر ونسعى من خلال هذه المحاولة المتواضعه في وضع ملامح ومرتكزات استراتيجية قادمه للإعلام العربي بما يجعله يدخل حلبة السباق العالمي وبما يخدم القضايا العربية. 

يشخص التميمي واقع الإعلام العربي المعاصر لافتا إلى أنه لا يستطيع أحد أن ينكر مدى تأثير وسائل الإعلام وخاصة المرئية منها والإلكترونية على المتلقي أيًا كان نوعه أو سنة، كما لايستطيع أحد أن ينكر الرسالة المجتمعية التي يقوم بها الإعلام ودوره التثقيفي بمفهومه الشامل، وفي صياغة الرأي العام تجاه العديد من القضايا المهمة الداخلية منها والخارجية، إلى جانب دوره الترفيهي. لذلك فإن الأصل في وسائل الإعلام أن تكون معبرة عن واقعها ومجتمعاتها بصدق وشفافية، لكن بالمقابل فإن المشهد الإعلامي الراهن لايمثل بأي حال الواقع العربي بأوضاعه السياسية، والاقتصادية، والأمنية والثقافية. بعد أن استمرأ الاستنساخ من الإعلام الأجنبي وتركيزه الكبير على الجانب الترفيهي من غير وعي أو إدراك لانعكاسات ذلك على المتلقي العربي. 

إن المحتوى الإعلامي في معظم وسائل الإعلام العربية بأشكاله وأنواعه المختلفة متخم بأشكال من التسلية الغثة والرخيصة على حساب الجوانب المعرفية والعلمية وبناء الشخصية السوية. وإذ كان البعض يعزو التردي الإعلامي العربي إلى أنه انعكاس طبيعي لما عليه المجتمعات العربية فهو مخطئ، لأن ما يعانيه المواطن العربي في يومه وليلته يخالف بصورة كاملة وشاملة ما يراه أو يقرؤه أو يستمع إليه من وسائل الإعلام العربية. ففي الوقت الذي تعاني فيه معظم المجتمعات العربية فقرًا وحرمانًا وتدنيًا في مستوى المعيشة، فإن معظم وسائل الإعلام العربي تعاني فقرًا في مضمون ومحتوى المنتج، وفقرًا أكبر في القيم والمبادئ وتدنيًا في مستوى الأخلاق.

ويقول "بينما يواجه المجتمع العربي انتشار الأمية وارتفاع نسب البطالة، فإن وسائل الإعلام تعاني "الأمية الإعلامية" من افتقاد القدرة على التعامل مع أدوات العصر وإمكانياته وإدراك ما توفره من أساليب وطرق حديثة في التعامل مع الرأي العام، مما جعل الإعلام العربي يتمسك بالقشور والسطحية ليواكب التطورات في وسائل الإعلام وطرق إدارته، كما تنتشر بطالة مُقنَّعة خاصة في أوساط القائمين على البرامج "الهابطة" والمعتمدين على "الاستنساخ" من وسائل الإعلام الأجنبية، لأن الإعلام في حاجة إلى إبداع، ومن يفتقد هذا الإبداع يصبح عالة على الإعلام. وإذا كان المواطن العربي يعاني في بعض الدول ضعف الخدمات المعيشية والحكومية، فإن وسائل إعلامه تعاني ضعف الأداء وقلة الكفاءات وتدني مستوى الإدارة، وإذا كنا نتهم المجتمع العربي بحقيقة مصادرته لحقوق المرأة فإن وسائل الإعلام العربية تصادر حق المتلقي في التثقيف والترفيه، وأن يكون لهذه الوسائل دور مؤثر وفعال في حياته، وتعبر بصدق عن واقعه. وإذا كانت حقوق الإنسان العربي مهدرة في كثير من الدول العربية نتيجة لوجود سقف محدد للحريات تتحطم عنده كثير من هذه الحقوق، فإن لدى وسائل الإعلام العربية قدرًا من الحرية يتجاوز كل الأسقف طالما ظلت بعيدة عن "الذات الحكومية"، ونقد الواقع المعايش، وتجنبت التعرض لأصحاب الوسيلة الإعلامية والمساهمين فيها وأقاربهم وأصدقائهم، وكل ما يمتُّ لهم بصلة.

ويوضح التميمي أنه "إذا كان المواطن العربي يتعرض لتسلط سياسي وإداري، من حكومته ورب عمله، وأحيانًا أسرته وذويه، فإن وسائل الإعلام على أنواعها تخضع للتسلط الإعلاني والتجاري، فهي أسيرة الإعلانات والدعاية لكافة السلع والمنتجات والخدمات، دون أدنى اهتمام بمدى الاستفزاز الذي تمثله للمتلقي الذي لا يستطيع دخله أن يوفر له الكفاف من الحياة. وإذا كان الواقع العربي يفتقر إلى المساواة والتنافس الشريف ويعتمد على الوساطة والرشوة في معظم الظروف، فإن الواقع الإعلامي يعتمد على التنافس في تكرار الموضوعات والبرامج والتسابق في الاستيلاء على أموال المتلقي. وإذا كان المواطن العربي يجتر مشكلاته نتيجة انتشار الفساد الإداري، فإن وسائل الإعلام تعاني "الفساد الترفيهي" و"فساد الذوق" فيما تتناوله من موضوعات يراد بها التخفيف من معاناة المواطن العربي، بدلًا من أن تفضح الفساد الإداري، وتزيد من الوعي الشعبي لمقاومته. لقد اتسعت الفجوة بين ما تعرضه وسائل الإعلام العربية وواقع المواطن العادي، واقتصر عمل معظم وسائل الإعلام على عرض الجزء المظلم فقط من الصورة الواقعية لبعض الأحداث المأساوية في العراق وسوريا واليمن وفلسطين فقط، من قتل وتدمير وتشريد، ولم تتعد ذلك إلى عرض الصورة الأشمل بشقيها السلبي والإيجابي، فضلًا عن وضوح تحيز وسائل إعلامية لدول أو جهات أو شخصيات بعينها، مما يفقدها مصداقيتها وشفافيتها. ويجب ألا نغفل دور الجمهور المتلقي الذي يتسم بالسلبية تجاه ما يشاهده في وسائل الإعلام، بل إنه أحيانًا يكون مشجعًا على استمرارها في غيها، من خلال إقدامه على تلبية دعوة للمشاركة بالرسائل القصيرة، أو شراء ما تصدره المؤسسات الصحفية الغث منها والثمين. لقد أدت الفجوة بين الواقع المعايش و"التسلط الإعلامي" الترفيهي والثقافي والإخباري إلى حدوث تداعيات مهمة تؤثر في صميم التركيبة "النفسية - الثقافية" للمتلقي، ليس أقلها "الاغتراب السياسي" أو "المجتمعي"، بل تكمن في تحطيم الهوية الوطنية وإضعاف المواطنة، وتراجع المستوى الثقافي، وتدني التفاعل مع القضايا الوطنية، وتزييف الوعي، وزيادة مساحة الغلو والتطرف، والدفع في اتجاه الانفصال بين المواطن وواقعه، وبناء "الفرد الاستهلاكي".

ويتساءل التميمي: ما هو مطلوب اليوم من المؤسسات الإعلامية العربية وفي ظل المتغيرات الراهنة هو العمل الجاد من أجل ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية وتنمية روح المشاركة عند الجماهير العربية، إضافةً إلى الاستخدام الأمثل لكل مقومات وإمكانات الإعلام في بناء العقل العربي المستنير المنتمي لقيمه وتأريخه وتراثه؟. 

يقول "لكي يستطيع الإعلام العربي أن يؤدي رسالته المطلوبة في المرحلة القادمة وفي ظل كل التغيرات التي تحيط به عليه أن يسير وفق الضوابط والآليات التالية:

أولاً: ضرورة وجود أجندات وأولويات تحكم مضامينه الإعلامية المقدمة في مختلف وسائل الإعلام، بحيث يشعر المواطن العربي بأن الأجهزة الإعلامية تخاطبه وتهتم بقضاياه ومشاكله وتطلعاته.

ثانيًا: العمل على توسيع قاعدة المشاركة الجماهيرية في صنع الرسالة الإعلامية والتعبير عن نفسها بكل توجهاتها السياسية والفكرية دون حكر لرأي أحد ووفق الثوابت المعروفة.

ثالثًا: أن تكون مصالح الفرد العربي هي الهدف الأساسي الذي تعمل من أجله جميع وسائل الإعلام ويتم ذلك بعيدًا عن الإثارة والمبالغة والتهويل، والتزام المهنية والقواعد الأخلاقية.

رابعًا: ترسيخ مبدأ الحوار والممارسة الديمقراطية وقبول الآخر من خلال تقديم خطاب إعلامي متزن يتسم بالاعتدال ويعمل على البناء.

خامسًا: يجب أن يكون محتوى الإعلام نابعًا من واقع الجمهور العربي ويعبر عنه وعن حضارته وقيمه وتقاليده، وهذا يتطلب عدم الترويج للنماذج الغربية بالشكل الذي يفقدنا ذاتيتنا وهويتنا الثقافية.

سادسًا: الاهتمام بمقدمي الرسالة الإعلامية وحسن اختيارهم بالشكل الذي يمكنهم من تنفيذ خطط وأهداف الرسالة الإعلامية، وبالتالي يساعدهم في تقديم رسالة أكثر تأثيرًا على الجماهير.

سابعًا: البعد عن لغة الإثارة والابتذال والاتهامات والصراخ والمبالغة والتهويل، والعمل على تقديم الفرد العربي المتزن الحضاري المؤمن بالقيم والتقاليد.
----------------------------------
تقرير - محمد الحمامصي