17 - 07 - 2024

هكذا ترعرع تيار انتهازي في الثقافة المصرية!

هكذا ترعرع تيار انتهازي في الثقافة المصرية!

هوامش كتاب د. صبري حافظ عن طه حسين تحمل من الديناميت الفكري أكثر مما يحمله المتن 

دُعيت لندوة لتوقيع ومناقشة كتاب "طه حسين : ذكريات شخصية معه" للدكتور صبري حافظ، بالقاعة الشرقية بالجامعة الامريكية بوسط القاهرة. المؤلف ناقد أدبي و مسرحي مصري ، هاجر إلى بريطانيا لأجل منحة للدكتوراة بجامعة لندن جاءت بعد منحة  قصيرة بجامعة أكسفورد أقدم الجامعات البريطانية و أكثرها نفوذا،  كان هذا بنهاية عام ١٩٧٣

الكتاب مكون من أربعة فصول، يبدأ الأول بتكوين المؤلف وانحيازاته الثقافية والأدبية، وعلاقته بجماعة وحدة الشيوعيين المكونة داخل منظمة الشباب، التي أدت إلى اعتقال الجماعة مع تنظيم للبعثيين في سنة ١٩٦٦، (أنصح بقراءة رواية الدكتور ايمان يحيى "قبل النكسة بيوم") ، ثم الباب الثاني يشرح العلاقة الوظيفية و المتقطعة بطه حسين، ثم باب ثالث عن أثر طه حسين بنفسه أو لتلامذته على الثقافة المصرية وسط الاضطراب السياسي الحاصل بوفاة جمال عبد الناصر وتولي خليفته أنور السادات، و أخيرا باب رابع عن هبوط كاتب الكتاب في بريطانيا عام ١٩٧٣، وذكرياته عن النظام والثقافة الاكاديمية والاجتماعية البريطانية .

هوامش الكتاب وملحق المراجع خلف كل باب، ربما تحمل من الديناميكا والديناميت الفكري أكثر ما يحمله المتن، أو ربما تتساوى، وهي ضرورة لازمة للقراءة جنبًا إلى جنب مع المتن. في قاعة الجامعة الأمريكية المزدحمة جدا على غير العادة لتوقيع كتاب لناقد لا يعيش بمصر، وربما لا يعرفه من كان في سن الخمسين أو أصغر وربما من هم أكبر من ذلك مثلي. 

الكاتب يبريء ضميره ويقر ويشير في أكثر من موضع إلى زخم الصالونات الثقافية في القاهرة في أواخر الستينيات ، وبوادر ظهور المثقف السلطوي (التابع و المدّجن) ، ونواحي التضييق الناصرية الاستبدادية على الثقافة ، الكاتب كان يحضر لزهرة الثقافة المصرية في صالون نجيب محفوظ وسط عمالقة الأدب والثقافة المصرية ( بالضرورة سبقوا ١٩٥٢في التعليم والممارسات الاكاديمية السياسية والاجتماعية )، صالون نجيب محفوظ بدأ يعاني من مضايقات أمنية وحضور "المخبرين" حتى تم اغلاق الصالون نهائيا، وهكذا عاش الصالون ثلاثة سنوات فقط ( ١٩٥٩-١٩٦٢).

مقاومة المثقفين للتدجين السياسي الناصري، ضرب بها مثل بالاديب أنور المعداوي الذي كان له صالون في الدقي مطل على النيل، و هو من خريجي كلية الآداب بالجامعة المصرية سنة ١٩٤٥، كانت دائرة المعداوي تقاوم "الاحتواء" وربما هذا لفظ يليق بالقوميين البعثيين أمثال (رفاقه: رجاء النقاش وجلال أمين وسليمان فياض) ، من ضمن الباب الاول سيرة السادات الفاشية في اغلاق المجلات والدوريات الأدبية مثل: المجلة ، الكاتب ، الفكر المعاصر ، المسرح والسينما ، عالم الكتاب، و الشعر وغيرها. 

الأهم في سيرة الكاتب هو عمله بالثانوية العامة، ثم التحاقه بكلية الآداب وحصوله على ليسانس خدمة اجتماعية في منتصف الستينيات ، الكاتب من مواليد المنوفية ، و يقول عن اسرته أنها ورثت أطيانا زراعية فهي أسرة متوسطة، ونال تعليمه بالقاهرة ويبدو من الاهداء أن له من الاخوة سبعة على الأقل، رحل منهم ثلاثة. وأنه بفضل سياسات طه حسين وأبويه استطاع الجميع ذكورا وإناثا أن ينهي تعليمه، ولا شك أن هذه المقدمة ضرورية ومهمة و ترجع الفضل لأصحابه.

نظرية ثقافية يبنيها الكاتب أن الثقافة المصرية في ابتعاثها بعد مرقد طويل، انقسم المثقفون فيها إلى تيارين، تيار من سلالة عبد الله النديم الذي عاش مطاردا من السلطة وأتباعها وأشياعها وظل هو وفيا لمبادئه ولقيم الثورة "العرابية"، و تيار آخر من سلالة على مبارك كنموذج المثقف الذي يقيّف (من فصيلة ترزية القوانين) أفكاره وقيمه لتناسب السلطة وليحيا في ركابها. 

يرصد الكاتب أيضا في خضم الباب الاول نشوء تيار انتهازي ربما على نمط مدرسة على مبارك، فالدكتور رشاد رشدي حمل له أبطال المشهد حقيبته تذللا وتقربا ومنهم: سمير سرحان ، محمد عناني ، عبد العزيز حمودة وفاروق عبد الوهاب. ونستطيع أيضا التقاط ما قامت به سهير القلماوي في مضايقة الكبير يحي حقي حتى استقالته من رئاسة "المجلة"، وقد استمر دور الثنائي رشاد رشدي وسهير القلماوي في تسليم الوسط الثقافي للسلطة، حتى أنهما أصبحا ضليعين في كتابة رسالة الماجستير الخاصة بجيهان السادات - سيدة مصر الأولى- المذاعة تلفزيونيا وإن كان الكاتب لم يستجل الشطر الأخير من أعمال الثنائي لهجرته إلى الخارج. 

ينتهي الفصل الأول بعمل الكاتب كموظف في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وهو الجسم السابق على المجلس الأعلى للثقافة، في الستينيات كان يرأس المجلس قامات كبرى مثل طه حسين، و في مجلس الأمناء عباس العقاد ويحيى حقي ومحمود تيمور ومحمد عوض محمد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين فوزي وسليمان حزين وعائشة عبد الرحمن وإبراهيم بيومي مدكور وأترابهم، يا ترى من هم يتحكمون في المجلس الأعلى للثقافة اليوم؟ 

لا يخلو الباب الثاني من لمز عن فاروق حسني وجابر عصفور وعلاقتهما السافرة بالسلطة ، كما يشرح لقاءات الكاتب الوظيفية بطه حسين في فيلته "رامتان" بحي الهرم وقت أن كان متسعا للحدائق والغيطان المديدة الخضراء وقبل ردم الترعة التي صارت شارع فيصل، لتدشين أشد صور القبح وقتل الجمال فيما بين شارعي الهرم و فيصل. 

ويسجل أن طه حسين (١٨٨٩-١٩٧٣) كان حاضر الذهن جدا وهو في العقد التاسع من عمره ويملي بنفسه محاضر اجتماعات المجلس الأعلى، و يحظر كتابتها بغير ما يرضى ويستسيغ ، داخل المجلس في ضيافة سوزان طه حسين ، ظهر إسلاميان في المجلس وعدة "دولتجية" (لم يستخدم الكاتب المصطلح لكنه أشار إلى وجود سهير القلماوي البغيض بالنسبه له). 

كانت نصيحة الدكتور طه حسين بعد أن تعرف على كتابات الموظف/الكاتب هي ضرورة إتقان إحدى اللغات الأوروبية والسفر لأوروبا، كان السفر مستحيلا بسبب تأشيرة الخروج لمعتقل ماركسي سابق، وبسبب التضييق المالي، لكن اثنان لهما الفضل في تذليل ذلك المستحيل ليصير ممكنا، أحد تلامذة طه حسين التنويرين وهو محمد مصطفى بدوي الدارس بجامعة أكسفورد، والكاتب و الروائي ادوارد الخراط. 

وسط المتن أيضا يصف الكاتب (أتفق معه بشدة) محمد حسنين هيكل "مهندس تمكين السادات"، كما يصف بتفاصيل خطة الملك فيصل في اختراق الوسط الثقافي المصري بالتعاون مع السادات وأشياعه (شيخ الأزهر ومصطفى محمود واللواء محمد عثمان اسماعيل)، سأترك التفاصيل لقارئي الكتاب. 

في الفصل الثالث، يشرح الكاتب على استحياء تأثر المشهد الثقافي بأفكار وكتابات طه حسين ورؤيته في النقد (في الأدب الجاهلي) وكيف استطاع القضاء المستقل النبيل أن يقضي بألا وجود لقرائن على حجية الدعوى، رغم تكاثر السياسيين (منهم سعد زغلول) وعناصر سياسية و أكاديمية ومطالبتهم بضرورة إيقاع الأذى بطه حسين، وموقف الجامعة المصرية للحفاظ على استقلالها عن السلطة السياسية، وكيف أسقط نظام العسكر قانون استقلال الجامعات في أول عهدهم (قانون استقلال الجامعات ٩٦ لعام ١٩٣٥) وهو ما نعاني منه باستفحال التدخلات السياسية والأمنية في الجامعات حتى تدهور البحث العلمي والتفكير الحر حاليا إلى أدنى المستويات .

في الباب الرابع، يتعرض الكاتب لتقاليد جامعة أكسفورد، والتقاليد العريقة القديمة العائدة لقرون مضت ، وكيف تكونت الجامعات الاوروبية كجامعات لاهوتية وتحولها الداخلي إلى جامعات علمانية وإن كانت تحتفظ ببعض الطقوس المسيحية إلى حد ما، وكما أحببت أنا لندن يقع الكاتب في غرامها ويشرح كيف تكون لندن صعبة (برأيه مثل القاهرة) عصية على محبة الغريب، و يستعرض باستفاضة ثقافة المتاحف العظيمة التي تقارب ١٧٠ متحفا بلندن وحدها، وترسيخ حب العلوم والمعرفة لدى الشعوب البريطانية، يشرح أيضا وهذا أهم، كيف كانت البعثات العلمية والأفق الثقافي المصري يرى أوروبا ميدانا للاستطلاع والاطلاع، وكيف تدهورت قيمة الثقافة المصرية بإعراضها عن الاتصال بالحضارة العالمية ونزيف العقول المصرية المستمر بالهجرة للغرب أو لدول الخليج العربية سواء بسواء.

الكتاب ممتع وسهل القراءة وبلغة سلسة ميسرة، وإن كانت تتناول تاريخا صعبا في الثقافة أو السياسة الثقافية، وإن كنت أعيب على الناشر والكاتب العنوان غير الدال على المحتوى، فخرج الكتاب لا هو بمذكرات ناقد أدبي، و لا هو تاريخ سياسي، ولا يوجد به طه حسين إلا هامشيا Tangent ، وليس في صلب وقلب الأحداث، هذا عيب كبير وربما له جذر بالثقافة المصرية التي تتمسح بالمشايخ، فصار حتى المفكرين العلمانيين الكبار مشايخ في نظر أتباعهم أو حتى مشاركيهم الكافيهات والحانات. ودعني أشير إلى الكم المثير للشفقة الذي كتب عن نجيب محفوظ أو طه حسين! رأيي إن كتبتً عن طه حسين - بمناسبة ذكرى وفاته الخمسين - ناقش أفكاره وطورها أو انقضها!، لكن التمجيد الساحق لعظماء ديكارتيين ليس باضفاء المشيخة عليهم .. أنا متأكد أن الاثنين (طه حسين ونجيب محفوظ) سيلعنان اليوم الذي كتب فيه هؤلاء عنهم إن قرأوا تبجيلهم بهذه الطريقة… 

أخيرا في المتن أيضا، في سنوات من ١٩٧٠-١٩٧٣ نادى أعضاء المجلس الأعلى للثقافة طه حسين ب"حضرة الباشا" وكثيرون منهم قبلوا يديه… وعايزني أكسبها !
------------------------------------
بقلم : شريف العصفوري *
كاتب وروائي وقاص مصري والمقال نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك مع تغيير عنوانه

مقالات اخرى للكاتب

هكذا ترعرع تيار انتهازي في الثقافة المصرية!