17 - 07 - 2024

السودان : محاولة مصرية للفهم

السودان : محاولة مصرية للفهم

لا زلت أذكر أثناء بعثتي الدراسية لجامعة ميرلاند عام 1987 صديقا من السودان اتسم سلوكه بشيء من الغرابة. كان من المفترض أن يحصل على الدكتوراه من جامعة فرنسية ولكنه جاء لجمع المعلومات في الولايات المتحدة. المهم أنني لاحظت في سلوك صاحبنا قدرا كبيرا من الاستعلاء وهي سمة بعيدة كل البعد عن الشخصية السودانية كما ألفناها. يتحدث دوما عن أنه نوبي وأن أهل النوبة هم أصل الحضارة وهلم جرا. اشتبكنا في حوارات وجدل كان بعضها عقيم لأنه نابع من شوفونية متطرفة تتسق مع طبيعة المرحلة العمرية لكل منا آنذاك. بعد ذلك بعامين جاء البشير وكيزانه من الاخوان وأصبحت أفكر مليا في ماذا حدث للسودان وأهله وكيف أننا في مصر لا نحسن النظر إلى هذه الجغرافيا الجيوسياسية المترامية الأطراف. بقدر بسيط من التأمل تجد طبيعة الدولة في مصر مركزية وفقا لمفهوم السياسة الهيدروليكية أو المجتمع النهري وهي أشبه بمفهوم دولة المخزن في بلاد المغرب. وربما ساعد ذلك على خلق هوية واحدة مشتركة منذ بداية نشأة الدولة القديمة على الرغم من تعدد الغزاة والوافدين . كانت مصر بسحرها الدفين تجبر من يأتي إليها ويعيش بين ظهرانيها أن يتمصر ولعل ذلك يفسر لنا كيف أن أهل مصر لم يتعربوا لسانا إلا بعد دخول الإسلام بنحو ثلاثة قرون. وإن كان البعض يرى أن  الأمر استغرقأكثر من 500 عام على دخول المسلمين مصر وبعد أن تُرجم الكتاب المقدّس إلى العربيّة.

كانت مصر في حالة من الثقة والاسترخاء فهي التي أثبتت صحة أن المغلوب يؤثر ثقافيا على الغالب. ولم لا وهي ترى بأنها أم الدنيا. الجميع يأتي إليها طلبا للعلم والمعرفة أو الزيارة والاستمتاع. انعكس ذلك على نظمنا التعليمية فلا أذكر أني درست شيئا عن عادات وتقاليد أهل السودان : إذا سألت بعض المتعلمين عن الفرق بين المسيرية الحمر والمسيرية الزرق فلا أدري ما تكون الإجابة . بالنسبة لي لم أعرف أشهر مشروب شعبي وهو التبلدي أو الجونجليز، وهو ملك العصائر على المائدة السودانية، إلا أثناء زيارتي للخرطوم عام 1990.وقس على ذلك.

المهم يبدو السؤال الجوهري هو هل نفهم السودان حقا؟ أعتقد أننا بحاجة إلى استدعاء التاريخ والجغرافيا. أولا فتاريخ بلاد النوبة يغلب على ما يعرف اليوم بالسودان الحديث. فقد حكمت مملكة كوش مصر وفلسطين أثناء الأسرة الخامسة والعشرين إلى أن انهارت بعد غزوها من قبل عيزانا ملك أكسيوم. بعد ذلك قامت ثلاثة ممالك نوبية مسيحية والتي دخلت مع المسلمين في مصر في معاهدة البقط التي استمرت نحو سبعمائة عام ولذلك تعد أطول معاهدة في التاريخ . وطبقا لرواية ابن عبد الحكم الذي أورد نصوص المعاهدة فقد كان يتم التعامل بين مصر ومملكة النوبة المسيحية على قدم المساواة حيث أنها فرضت التزامات متبادلة على الطرفين. بالعودة إلى التاريخ ادركت لماذا يصر صاحبنا أن أجداده حكموا كلا من مصر والسودان وحتى بلاد الشام. ولعل ذلك يذكرني بمقابلة تلفزيونية طريفة مع الفنان الراحل عمر الشريف حينما قال :"لقد تم احتلال مصر من قبل قوى مختلفة الهكسوس والمقدونيين والأوروبيين ويظلوا بها وبعدين يزهقوا ويمشوا" . وبغض النظر عن ذلك فإن موقع مصر الاستراتيجي في البوابة الشمالية الشرقية لأفريقيا جعلها مطمعا للغزاة عبر سائر العصور.

السودان جغرافيا قبلية!

بشكل عام ، كانت دولة ما بعد الاستعمار في السودان دائمًا  هي بيت الداء فهي ليست مركزية كما هو الحال في مصر . ومن ثم كانت المشكلة دوما وابدا هي العلاقة بين المركز والأطراف . كانت الحكومة المركزية (سواء كانت مدنية او عسكرية ) تنتمي إلى النخبة النهرية الوسطى من جعلية وشايقية ودناقل. وبدلا من تمثيل كافة مكونات الجغرافيا القبلية دأب الحكام إلى  إنشاء مجموعات شبه عسكرية لدعمها في سحق التمردات في مناطق الهامش ،وربما تم توظيف مفاهيم التعريب أو الأسلمة لخلق قاعدة تأييد ضيقة للنخبة الحاكمة . عندما وصل الإسلاميون للسلطة عام 1989 تم   أسلمة الدولة والمجتمع السوداني . وفي هذا السياق تم توظيف القبائل العربية لقمع التمرد في دارفور (خبرة ميليشيا الجنجويد المرعبة) والتي تحولت بعد ذلك في عام 2013 إلى قوات  الدعم السريع  . كانت تلك خطيئة البشير الكبرى الذي كثيرا ماردد حميدتي حمايتي.  كان يهدف إلى سحق التمرد في منطقة دارفور بغرب السودان وفي أجزاء أخرى من البلاد وفي نفس الوقت يكون قوة موازية للجيش الوطني فلا ينقلب عليه. كانت الجنجويد هي ذراع البشير القوية التي يبطش بها حيث   نجحت في قمع التمرد ودفع الجماعات المسلحة إلى البلدان المجاورة ، لكنها  بالنسبة للمدنيين كانت أشبه بالتتار والمغول في حرقها الأخضر واليابس حيث أنها كانت تنتصر ببث الرعب والخوف في قلوب أعدائها. رأينا ذلك في حادثة واحدة في عصر السوشيال ميديا حينما تم القاء القبض على والي دارفور خميس أكبر وهو بمعية الجنرال جمعة بارك الله قائد الدعم السريع ثم مالبث أن تم تصفيته بدم بارد والتمثيل بجثته مع تهليل وتكبير أفراد المليشيا الرهيبة. 

استمرت قوات الدعم السريع في التمكين من قبل البشير حتى الإطاحة به في عام 2019 من خلال ثورة شعبية استهدفت التخلص من النخبة الأمنية المحيطة به  والتي لايزالاثنان منهما في حالة حرب اليوم ، حميدتي والبرهان. كان حميدتي تاجر الجمال السابق يراوده حلم السلطة والوصول إلى المركز من أجل تحطيم مفهوم دولة المركز وإعادة حلم الخليفة عبدالله التعايشي زمن الدولة المهدية في السودان.

بعد الإطاحة بالبشيربدا واضحا أن السودان  دولة بجيشين وأصبح الرابح الأكبر هو قوات الدعم السريع التي تعهدت بدفع مليار دولار من استثماراتها الخاصة لدعم موازنة الدولة السودانية.

أصل الحكاية 

تنتمي قيادة قوات الدعم السريع إلى عائلة آل دقلو  الذين ينتمون إلى فرع الماهرية من عرب الرزيقات. وهي قبائل بدوية تمتهن رعي الجمال والماشية.و الرزيقات تندرج تحت مظلة عرب جنيد وهي المجموعة الأكبر التي تضم عشرات القبائل العابرة للحدود بين السودان وتشاد و ليبيا ومصر وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر ومالي وربما غيرها من بلدان الساحل الأفريقي الكبير. وعلى سبيل المثال المحاميد  هم أيضا من فروع الرزيقات  ولهم ناظر أو أمير باللغة المعاصرة في السودان ، وهم موجودون أيضًا في ليبيا بينما  يقطن   المسيرية الحمر( نسبة إلى أحمد الأحمر)  والزرق ( نسبة إلى محمد الأزرق)  في السودان وتشاد في ما يعرف بحزام البقارة. وعلى فكرة كان هؤلاء يشكلون عماد قوات الدفاع الشعبي زمن البشير. يمكن رؤية الروابط المتبادلة على المستوى السياسي، حيث أن الرئيس الحالي للنيجر محمد بازوم  هو أول رئيس عربي وينتمي إلى قبائل أولاد سليمان العربية التي تمتد من ليبيا حتى دارفور ويشاع أنه على صلة قرابة مع حميدتي في حين أن العديد من كبار السياسيين في الحكومة التشادية الحالية هم أيضًا من أقاربه بما في ذلك كبير مستشاري الرئيس محمد كاكا الجنرال بشارة عيسى.  ولا شك أن هذه الجغرافيا القبلية جعلت الحواكير بديلا للوطن وجعلت الصراعات القديمة على الأرض والموارد والتمثيل السياسي مع القبائل التي تعيش في دارفور هي القضية الكبرى . تسببت الصراعات بين أصحاب الحواكير في تحركات سكانية ضخمة وأعمال عنف مجتمعية مع مظالم عميقة على المستوى المجتمعي .  

أدت الديناميكيات السياسية بين الحكومة المركزية والمجتمعات البدوية والزراعية في دارفور(أي الصراع بين أصحاب المهن المختلفة) إلى مزيد من العسكرة والصراع. ونتيجة لذلك ، تم دفع المجتمعات الزراعية (وأغلبهم من الأفارقة) إلى مخيمات النازحين داخليًا بينما اتُهم البدو العرببتوسيع أراضيهم لمصلحة أقاربهم من مختلف البلدان الأفريقية. هذا الصراع على الأرض ، وهي أهم مورد ، أدى إلى حمل الطرفين السلاح لحماية مصالحهما. أصبح الصراع في دارفور هو القاعدة.

 أصبح تسليح البدو العرب  أمرا محتومالأنه في الماضي ، يجب أن يكونوا مسلحين لحماية سبل عيشهم من النهب أثناء تحركهم مئات الكيلومترات للوصول إلى المياه والأماكن الآمنة. كما أن علاقتهم المتوترة مع الجماعات الزراعية الأفريقية والعنف الطائفي المستمر جعلهم يبرمون اتفاقات مع الجماعات المسلحة والحكومات لتسليحهم. هكذا كان السياق الذيتحول حميدتي من تاجر إلى زعيم ميليشيا. وقال بنفسه  قبل عدة سنوات في برنامج تلفزيوني إن جماله تعرضت للسرقة من قبل الجماعات المسلحة ، وذهب إلى القصر الرئاسي وقام بعدة محاولات لمقابلة البشير طلبا لحمايته. طلب منه السلاح لحماية عمله وإلى حد ما مجتمعه. انتهز البشير الفرصة لأنه أراد قمع التمرد في دارفور ، وعلى حد تعبير البشير نفسه ، "طلبت منه 5000 رجل ، وأحضر لي 15000 رجل في أسبوع واحد".جمع حميدتي قواته بسرعة وعلى مر السنين ، زاد عدد قواته إلى مائة ألف أو يزيد لأنه استهدف المجتمعات ذات التقاليد  العسكرية الذكورية.  

وهكذا يتضح لنا أن أصل الحكاية هي غياب الدولة التي أصبحت هي أصل الداء في السودان. إنها معضلة المركز والطراف والنخبة النيلية وأيديولوجيات التعريب والأسلمة في مجتمع يعاني من جغرافيا قبلية مترامية الأطراف.
----------------------------------
بقلم: د. حمدي عبد الرحمن 
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

السودان : محاولة مصرية للفهم