26 - 06 - 2024

نصير شَمّة في حوار متفرد لـ "المشهد": الموسيقى مِصفاة القلوب

نصير شَمّة في حوار متفرد لـ

* لحظة قال العُود لصبيّ الحلّاق: "أوتاري تعشِق أناملك" فأسّسَ بَيت العُود العربي
* نصير مِن بائعٍ للخُبز والصّحف إلى زرياب أيقونة العُود
* المَقامات العراقية بدأت بعلاقة وجدانية بين الإنسان وربه، والصوفية نظام كَوني وليست حِكرًا على الإسلام

"أيقونة العُود"، "زرياب الصغير"، "وتَر العراق الراقي"، "الظاهرة".. تلك ألقابه، هو الفنان الصّوفي المُولع ببغداد؛ المُتيّم بالشِّعر؛ الوَله بالفنون التّشكيلية؛ الشّغوف بالقراءة.. هاتيك بعض أوصافه، عمِل بائعًا مُذ طفولته؛ يستيقظ في السّادسة صباحًا يبيع الخبز ليشارك في التّبرعات التي ترسلها المدرسة كل خميس لأطفال فلسطين؛ فتَشكّل الجانب الإنساني لديه بقوة، وعطفًا على رغبة والده الذي كان يحضر الاجتماعات السّرية للمثقفين اليساريين والذي أراد لطفله أن يشهدها لتتسع مداركه؛ لم يكن أمامه إلا ان يَدّعي أنه: "صبي حلاق" ليتمكن من الاستماع لما يقولونه، وعندما أُلقِي بهم في السّجون، تَنكّر في هيئة "بائع صحفٍ" يُخبئ الجرائد الشّيوعية داخل الجرائد الحكومية ليسرّ بها عليهم، وعندما أمسك به الضابط قال له: "أنا مجرد طفل يوزع الصّحف ولا أعرف شيئًا"!

- في حواره لـ "المشهد" سألناه بدايةً عن نبرة الحُب التي نحسها دومًا في أوتاره فيقول: الموسيقى مِصفاةٌ للقلوب لا تحب البخيل، والصّوفي الحقيقي الأكثر قربًا منها؛ لأنه يرى ما لا يراه الآخرون، وراحة القلب أهم من الملايين، والله منحنا الموهبة لنكون قريبين مِن النّاس لا لتزيد أرصدتنا في البنوك، لذا تعلمتُ أن أخدم الفن حتى أستطيع خدمة الإنسانية بشكل أفضل، وأتمنى أن يسبقني تلاميذي لأنِّي لم أبخل عليهم بشئ، وأنا إنسان لا أفكر في الماضي؛ بل أمتطي رحلة المضارع والمستقبل؛ ولديّ دائمًا أمل في أنَّ القادم أجمل، وأُجزِم أنَّ أفضل ما لديّ لم يخرج بعد.

* وُلدتَ بقرية "الكوت" بالعراق فكيف كان تأثيرها عليك؟

- اشتُهرت القرية بمثقفيها سِيّما اليساريين، مما أدى لاتساع رؤيتي للعاَلم فرأيته بأبعادٍ مختلفة، عملتُ في مهن كثيرة، وشغُفت بالقراءة خاصّة في الفن والسّياسة والأدب والشّعر وأمهات الكتب، عشقتُ الموسيقى؛ وأخذت أول دروس العُود من أستاذي/"صاحب حسين الناموسي"، ثم أنجزتُ العُود "المُثمّن" عن مخطط لـ "الفارابي" عٌمره ألف عام، وقدَّمته للمختصين وأنا في الثّالثة والعشرين من عمري، ثم أنهيتُ دراستي الجامعية في معهد "الموسيقى العربية النّغمية" في بغداد، وحزتُ سَنة التخرج على جائزة أفضل لحن للأغنية العاطفية، وقدمتُ أول حفلاتي مُنفردًا ولم أتجاوز بعد الواحد والعشرين من عمري، في قاعة "الأورفلي" بالعراق بدعوة من السيدة /"وداد الأوفرلي"؛ والتي دعتْ -آنئذ- كبار الفنانين والموسيقيين والشُّعراء والنّقَّاد، ثم شاركتُ في حفلات في ألمانيا وفرنسا وسويسرا واليونان قبل تخرجي في المعهد، بعدها تعددتْ الحفلات بفضل الله في كافة أنحاء العالَم العربي بصورة تَصْعُب على الحصر.

* تُردد دومًا أنّك صوفيّ؛ وأنّ الصّوفية ليست حكرًا على الإسلام؛ فهل توضح لنا؟ وما علاقتك بالفن التّشكيلي؟

- مُذ بداياتي وأنا مُغرم بالصّوفية، بسبب طبيعة أسرتي المتدينة، فتعمقتُ في قراءة الطّرق الصّوفية العشر، واغترفتُ في القراءة من مَعين: ابن عربي وابن الفارض والسَّهروردي ورابعة العدوية والحلاج، ودخلتُ عالَم الإنشاد الدّيني؛ ولي تجربة تشهد عليها "ليالي العشق الإلهية" كما أسميها، وأرى الصوفية مسألة وجدانية بين المخلوق وربه، وهي نظام كَوني يُؤهِل صاحبه للخلاص من الدّنيويات، لذا هي ليست حِكرًا على الإسلام وَحْده؛ فلكل ديانة طريقتها وأسلوبها في الإنشاد، حتى المَقامات العراقية بدأت بعلاقة الإنسان الرُّوحية بربه -عز وجل- مِن أول قصيدة كُتبت في حُب الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما ساهم في تطوير الإنشاد الدّيني.

كما استوحيتُ العديد من مقطوعاتي الموسيقية مِن عيون الشِّعر ولحنتُ كثيرًا من القصائد؛ خاصةً لبدر شاكر السّياب ومحمود درويش من ديوانيه: "لماذا تركت الحصان وحيدًا"، و"تعاليم حورية"، وإبراهيم زيدان والجواهري ومظفر النّواب وأمل دنقل وأدونيس وبشارة الخوري وأحمد شوقي وجارسيا لوركا وفاروق شوشة ومحجوب العياري، وكذلك قصيدة لي، وأيضًا لعشر شاعرات عربيات كـ: فضيلة الشّابي وفدوى طوقان ووفاء العمراني ولينا الطّيبي ووداد الجوراني ومنى عبد العظيم وفوزية العلوي وغيرهن، أما الفنون التّشكيلية فأنا مولع بها في محاولة لقراءتها موسيقيًّا، ودراسة تأثير الموسيقى على التّشكيليين.

* "حدثٌ في العامرية" تُخَلِّد معاناة العراقيين؛ فكيف كان للحرب على العراق تأثيرها عليك وطنيًّا وإنسانيًّا وفنيًّا؟

- بعد وقف إطلاق النار؛ قدَّمتُ مباشرة حفلًا موسيقيًّا بالمتحف الوطني ببغداد بعنوان: "قادمٌ من الماضي.. ذاهبٌ للمستقبل"، وكان أول حفل موسيقي يقدمه فنان عربي عقب الحرب، عزَفتُ خلالها مقطوعتي: "حدثٌ في العامِرية" والتي تُعبر عن معاناة ثمانمائة مواطن عراقي قضوا نَحبهم جَرّاء قصف ملجأ كان يؤويهم، وقد قضيتُ أيامًا داخل الملجأ حتى أستطيع نقل مشاعر الألم التي تعتمل بداخلي، وتحول هذا العمل الموسيقي إلى مايزيد عن ثلاثين عملًا من لوحات ومسرح وباليه وأفلام تسجيلية وسينمائية، بخلاف مقطوعاتٍ أخرى خصصتها في العديد من المناسبات كـ: حرب الخليج الثّانية، وحصار العراق، وإغاثة الطّفل العراقي، وتحرُّك وفد شعبي طبي من مِصر تجاه العراق، وحفلات أخرى أقمتها بُغية لفت الانتباه لأطفال العراق المصابين بأمراض قلبية للعلاج بالخارج، وأخرى تشرح القضية الفلسطينية، ومُساندة منظمات حقوق الإنسان التي افتُتح بدولة المغرب، وأخرى لدعم يوم القدس والانتفاضة، وقدَّمتُ العديد من الحفلات الخيرية في مختلف المناسبات على امتداد العالَم العربي، ولدَعْم السّلام بين الشعوب الإنسانية، ومناهضةالإرهاب، ومساعدة النّازحين العراقيين، ويوم اللاجيء العالمي، ويوم الأرض، وحاليًا أقوم بالتّحضير للفت انتباه العالَم لقضايا الصّومال.

* وماذا عن مشوارك الفنّي وبيت العود الذي ارتبط باسمك؟

- في "بيت الهوّاري"؛ ذلك المنزل الأثريّ بالقاهرة الفاطمية؛ اخترتُ أن أُؤسس أول بيتٍ للعُود العربي، تلاه فرع أبوظبي، أعقبه فرع مدينة قسطنطينة بالجزائر، ثم رابع بمكتبة الأسكندرية، كما أسَّستُ فرقة "سُداسي الأنامل الذّهبية العراقية"، وفرقة "البيارق" الموسيقية، ومجموعة "عيون" لموسيقى الحجرة العربية بالقاهرة، و"أوركسترا الشّرق" المكونة من سبعين عازفًا من كل أرجاء الشّرق، ومجموعة "بيت العود" المؤلفة مِن ثلاثين عازفًا، وتنقّلتُ بين العراق والأردن وتونس ومصر وأبوظبي.. حيث قدمتُ عشرات من حفلات العزف الحي، كما عملتُ أستاذًا للعود في عدد من الجامعات والأكاديميات العربية، وقدَّمتُ عددًا مِن البرامج الموسيقية في إذاعة العراق ومصر وفرنسا، وشاركتُ في العزف مع فنانين عالميين أمثال: الإيطالي فرانكوفويس، وأريكو دي لمنجور، والباكستاني أشرف خان، وكارلوس بينينا، وشرف خان، وشاهيناز حسين، وأسطورة الجاز ونيتون مارسلين، ولي أكثر من عشرين اسطوانة مُدمجة عليها مؤلفات صدرت لي عربيًا وعالميًّا، وكمٌ كبير مِن أشرطة " الكاسيت".

ألّفتُ أول أوبرالية شرقية بعنوان "شهر زاد"، ووضعتُ موسيقى مايزيد عن ثلاثين عملًا مسرحيًّا في مختلف أجزاء العالَم العربي، وموسيقى "عَودة النّوارس" والعرض المسرحي "رسالة الطّير" المأخوذة عن ابن سينا والغزالي، والعديد من الموسيقى التصويرية لأعمال سينمائية عربية وكندية وإيطالية وبريطانية، والموسيقى التصويرية لثلاثين فيلمًا وثائقيًّا.تتحدث عن حضارة العراق والمرأة العراقية والقضية الفلسطينية، وغَرق العَبّارة المصرية "السَّلام" بآلاف العمال الكادحين الذين كانوا على مَتنها.

* كشَفَ الكتاب النقدي "الإشراق" عن عدد من المقطوعات الموسيقية التي قام البعض بسرقتها أو أخذها ودمجها مع ألحانٍ أخرى؛ فكيف كان ذلك؟

- "الإشراق" كتبه الناقد "علي عبد الأمير"، والنّقد يعطي الحقَ لأصحابه، وقد أُخذ المؤلف عنوانه من إحدى مقطوعاتي الموسيقية الشّهيرة، والاسم يحمل بُعدًا صوفيًّا روحانيًّا، ومؤلف الكتاب كان مُرافقًا لي مُذ الطفولة وشاهدًا على مشواري خُطوة بخطوة، لذا هو يعْلم الكثير عن مقطوعاتي، ورغم صداقتنا إلا أنّي لم أتدخل أبدًا في كتاباته بدليل أنِّي اختلفتُ مع بعض النّقاط الواردة فيه؛ ورغم ذلك تركته يكتب بحرِّية، فصدرَ في مجلدين؛ واحدهما يضم مقالات عدد كبير مِن الكُتّاب والنّقاد والشُّعراء والموسيقيين كـ: خيري شلبي، د.جابر عصفور، د.يحيى الجمل، د.صلاح فضل، د.قيس العزّاوي، والسّفير اللبناني خالد زيادة.. وثانيهما عن مشواري الفنّي.

* حاز شمّة العديد مِن التّكريمات والجوائز والأوسمة والدّروع والميداليات وشهادات التّقدير؛ منها: أحسن موسيقى تصويرية من إذاعة فرنسا، أفضل أغنية عاطفية عراقية، أفضل موسيقِي عربي بمهرجان جرش بالأردن، جائزة مهرجان قرطاج المسرحي، درع النّضال الفلسطيني، أفضل فنان عراقي، أفضل عازف في إذاعة مونت كارلو، جائزة المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، درع الثّقافة من الإمارات، ميدالية متحف طه حسين، وسام الأكاديمية البريطانية، درع جامعة البحرين والمجمع العربي بإيطاليا، شهادة تقدير مِن منظمة الصّحة العالمية، جائزة مهرجان الفيلم العربي بهولندا ومعرض القاهرة الدّولي للكتاب ومهرجانات العالم العربية جميعها التي شارك فيها.
-----------------------------------
حوار أجرته: حورية عبيدة






اعلان