30 - 06 - 2024

فخ الاعتماد علي الأدوات المالية والنقدية فقط لمعالجة المشكلات الاقتصادية (١- ٣)

فخ الاعتماد علي الأدوات المالية والنقدية فقط لمعالجة المشكلات الاقتصادية (١- ٣)

يمكننا وصف آي نشاط بأنه اقتصادي حال توافر العناصر الأساسية الآتية : الأرض، العمل، رأس المال، والإدارة أو المشروع، انطلاقا من مفهوم أن الاقتصاد هو الاستغلال الأمثل لكل ما يمتلكه مجتمع ما من موارد، محدودة بطبيعتها، وذلك من خلال مجموعة من الأنشطة والعمليات التي تعتمد على العناصر الرئيسية للاقتصاد السابق ذكرها، مضافا اليها حديثا المعارف والتقنيات.

و يمكن تعريف الاقتصاد بأنه ذلك العلم المعني بدراسة كيفية استغلال الأفراد للموارد المتاحة لديهم أو صنع قرار ما يفيد في استغلالها للإتيان بمنتجات أو خدمات تعود بالنفع عليهم؛ وبهذا المعني تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الاقتصاد لا يقتصر على الثروة والتمويل والكساد والأعمال المصرفية فحسب، بل تتسع رقعته لتشمل نطاقات أخري أوسع بكثير، نطاقات تشمل جوهر النشاط الاقتصادي، ألا وهي تسخير كافة الادوات السابقة ومعها كل ما هو جديد ومستحدث من العلوم والابتكارات والنظريات لإنتاج الخيرات التي تنعكس علي رفاهية المجتمعات.

ولما كانت السمة الرئيسية للموارد الاقتصادية هي الندرة النسبية، أي أن القدر المتاح منها غالبا ما يكون غير كاف لإنتاج السلع والخدمات المتعددة التي يحتاج اليها البشر في المجتمعات المختلفة، وهو ما استدعي وجود علم الاقتصاد، ذلك العلم الذي يساعد الانسان علي تلبية واشباع حاجاته الاساسية المتزايدة بشكل لا نهائي، رغم موارده المحدودة والتي لا تفي باشباع تلك الحاجات، فيصبح عليه التفكير والابداع والتطوير والابتكار للوفاء بها وذلك بالعمل المستمر علي عناصر الانتاج او مدخلات العمليات الانتاجية، وبقول آخر، الاشتغال علي الموارد الاقتصادية بعناصرها المختلفة، لتحقيق التوازن في نمو تلك العناصر وتعظيم قيمها المطلقة، بما يجعلها قادرة رغم ندرتها النسبية الدائمة علي تلبية حاجات البشر واشباع متطلباتهم الحياتية المتجددة دوما

 وبتعبير آخر هو ذلك العلم الذي يهتم بمشكلة الموارد النادرة أو المحدودة واستعمالها على نحو يسمح بالحصول على أكبر إشباع لحاجات المجتمع غير المحدودة، فموضوعه هو الثروة الاجتماعية من جهة، وسلوك الإنسان الاقتصادي من جهة ثانية.

هذا المدخل قد يبدو بديهيا، وألف باء اقتصاد بالنسبة للبعض ومع ذلك وجب التذكير به قبل الشروع في مناقشة أزمتنا الاقتصادية الحالية، حيث لا يوجد مواطن في مصر الآن مهما علا شأنه ومهما بلغت مكانته في السلم الاجتماعي لا يعاني ولم تطله آثار الأوضاع الاقتصادية المتردية، والتي زادت حدتها بشكل ملحوظ ولافت جدا في الآونة الاخيرة بما ينذر بمخاطر اقتصادية واجتماعية كبري قابلة للانفجار في وجه الجميع وفي اية لحظة

فعندما تتناول كافة أطياف المجتمع وفئاته وعناصره المكونة له، سواء رجال دولة، رجال صناعة، رجال أعمال من مختلف التخصصات، اكاديميين ومتخصصين، مفكرين وكتاب وباحثين، حتي المواطنين بمن فيهم البسطاء جدا بالحديث المشكلات الاقتصادية والازمات التي تعاني منها البلاد بما يشبه الاجماع، اولا : علي وجود الازمة واحتدامها، وثانيا: علي تداعياتها وآثارها المدمرة علي اقتصاديات المواطنين والوحدات الاقتصادية، من أصغرها إلي أكبر المشاريع والمؤسسات الاقتصادية، فان ذلك يعني الإقرار العام بوجود أزمة كبري وجرس إنذار بأنها تجاوزت حدود المسموح به وأصبحت تهدد السلم والامن المجتمعي

والملفت للنظر أن الجميع يتحدثون نفس اللغة ويستخدمون ذات المصطلحات مع فارق بسيط بينهم في درجة الوعي وعمق المنظور والفهم لطبيعة الأزمة ومدلولات المصطلحات المستخدمة، مثل مصطلح القروض، تحرير أسعار العملة، التضخم، الضرائب، أسعار الفائدة البنكية، الجمارك، الديون، ذلك بالإضافة إلي طرح قضايا وإشكاليات مربكة، ليس فقط للمواطن العادي البسيط، ولكن أيضا للكثير من الخبراء والمتخصصين، مثل : بيع بعض الأصول المملوكة للدولة وغيرها من العناوين التي تم إغراق الناس بها، فباتوا في القلب منها علي غير رغبة منهم أو اختيار

ويلفت النظر أيضا أنها جميعها مصطلحات مالية، أي مرتبطة باستخدام الأدوات المالية والنقدية للتعامل مع المشكلات والتحديات الاقتصادية الكبري، وغابت عن الاستخدام، بل واختفت من قاموسنا اليومي (جميعا) مصطلحات أخري مثل الدخل القومي، الناتج المحلي الاجمالي، النمو الاقتصادي، الادخار، التنمية الاقتصادية والتنمية الإنسانية الشاملة، تنمية الموارد وخاصة الموارد البشرية، وغيرها من المصطلحات المرتبطة بتقوية وتعظيم قيمة عناصر الانتاج وعوامل البناء الاقتصادي الأساسية التي هي: الأرض، البشر، الاستثمارات، الإدارة والتخطيط، …. الخ.

هل هي مجرد صدفة؟ أم أن وراء ذلك كله قيما ومفاهيم ومدارس اقتصادية كاملة مرتبطة بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تصر وبإلحاح شديد أن تجذبنا الي تلك المعالجات التي تعمد إلي استخدام الأدوات المالية والنقدية فقط للتعامل مع مشكلات ومعضلات الاقتصاد في بلداننا، وتصرفنا قسرا عن البحث عن توجهات بديلة ومعالجات اقتصادية تدخل إلي صلب وجوهر مشاكلنا وتقتحم التحديات الحقيقية المطروحة علينا لمعالجة الخلل البنيوي في اقتصاداتنا، حيث باتت الهوة بين ناتجنا المحلي الاجمالي وبين استهلاكنا واحتياجاتنا الاساسية متسعة بشكل كبير ومرعب، وضعفت عناصر الاقتصاد الرئيسية بصورة كبيرة سواء كان الحديث عن العنصر البشري او عن الموارد المالية التي تشكل ركنا أساسيا في العمليات الاستثمارية المطلوبة لتطوير واستكمال مشروعات قائمة بالفعل أو للبدء في مشروعات جديدة توفر فرص عمل حقيقية ودائمة للشباب المتعطل وتزيد من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ذلك الخلل الذي ترتب عليه الانزلاق إلي هاوية الديون اللا نهائية لسد العجز، الذي يتزايد بمتواليات هندسية، بين الإيرادات والمدخولات الكلية من ناحية وما تحتاجه البلاد لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين من ناحية أخري، والتي قد تجعل جزءا كبيرا من السكان يتحول من وضعية مصدر رئيسي للثروة والقيمة المضافة، باعتبارهم عنصرا أساسيا ومكونا رئيسيا من مكونات اقتصاد قوي، إذا ما أحٌسن الاستثمار فيهم، إلي عبء علي كاهل الدولة كنتيجة طبيعية للفقر وتدهور التعليم وضعف المنظومة الصحية

عندما يغيب عن المسؤولين وصانعي القرار وواضعي السياسات الاهتمام بالعنصر البشري، عندما لا تضخ الاستثمارات المطلوبة والكافية للاهتمام بالتعليم والصحة، عندما لا ندرك قيمة وأهمية أهم استثمار اقتصادي، ألا وهو الاستثمار في البشر، فنحن نهدم أهم ركن من أركان الاقتصاد الثلاث بجانب الأرض وما تحتويه من خيرات والموارد المالية القابلة للاستثمار، وتصبح أي محاولة، بل وجميع محاولات الإصلاح الاقتصادي باستخدام كافة الأساليب والأدوات المالية والنقدية، مجرد حرث في المياه، فلا اقتصاد بدون بشر متعلمين أصحاء قادرين علي استيعاب وهضم العلوم والتكنولوجيات الحديثة والتفاعل معها وقادرين علي الخلق والابتكار والإبداع وطبعا قبل ذلك كله القدرة علي استخدام تلك التقنيات الحديثة وتطويرها والتطور معها، لا اقتصاد بدون تخطيط مركزي وتصورات استراتيجية متكاملة ومترابطة عن كيفية الاستخدام الأمثل لمواردنا الحقيقية والفعلية والقابلة للتطوير والنمو ، سواء ما تحتويه الأرض في باطنها أو ما يملكه البشر من معارف وخبرات وتقنيات، لا اقتصاد بدون إدارة علمية جيدة للمشاريع الكبري والصغري، لا اقتصاد بدون مشاركة آمنة لرأس المال توفر له شروط النجاح والبقاء والاستمرار والنمو.

وقد يجوز ومعمول به أيضا استخدام الأدوات المالية والنقدية لبعض الوقت، لتصحيح بعض المسارات الاقتصادية الخاطئة ولمعالجة الخلل الناتج عن بعض الانحرافات التي تجري طول الوقت والتي تتسبب في ظواهر مثل التضخم أو الانكماش أو زيادة نسب البطالة أو ارتفاع أسعار السلع علي المواطنين أو لمعالجة الخلل الناتج عن التوزيع غير المتوازن وغير العادل للثروة ومعالجة التفاوت في الدخل بين المواطنين …. الخ.  

ذلك كله يحدث ويؤتي ثماره فقط عندما تتوافر المقومات الحقيقية لاقتصادات قوية قادرة علي البقاء والاستثمار وقابلة للنمو والتطور ، اقتصادات تنتج و تتحق لها شروط الاستمرار بالتوازن والنمو المتكافئ لعناصرها الأساسية : البشر، الأرض،الاستثمارات، والادارة، أما تصور أنه يمكننا التغلب علي مشكلاتنا الاقتصادية وتحديات تحقيق معدلات متزايدة للنمو  الاقتصادي، وزيادة حقيقية للناتج المحلي الإجمالي وتحقيق رفاهية المواطنين المتمثلة في الزيادة الفعلية لمتوسطات دخولهم بقيمها المطلقة، (والتي تعد جميعها مؤشرات قياس حقيقية لقوة أي اقتصاد او ضعفه )، بالاعتماد فقط علي استخدام تلك الحلول المرتبطة بالمعالجات المالية والنقدية وحدها، فالكل يعلم أنه أمر مستحيل وأنه سيذهب بنا إلي منزلق المزيد من الاستدانة وبيع أصول وممتلكات الدولة والشعب والأهم والأخطر من ذلك كله أنه سيضعف المكون البشري الذي يشكل الهدف النهائي وطوق النجاة في نفس الوقت، وهو الأمر الذي قد يحتاج حال حدوثه إلي عدة أجيال لعلاجه ولاحتواء أضراره وآثاره السلبية الخطيرة، فهلا تداركنا الأمر قبل الوصول إلي ذلك المصير المشؤوم؟
-------------------------------------
بقلم: د. مجدي عبد الحميد


مقالات اخرى للكاتب

حارة نجيب محفوظ ومشهد الانتخابات الرئاسية





اعلان