30 - 06 - 2024

الحاكم لا يولد مستبدا.. الاستبداد صناعة محلية

الحاكم لا يولد مستبدا.. الاستبداد صناعة محلية

كلما يحاول بعض المخلصين من فتح نافذة ضوء فى غرف المقهورين، تقوم السلطات بإغلاق الشوارع وهدم المدن فوق رؤوس قاطنيها. غباء سياسى واجتماعى وإدارى لا نظير له. كل تضييق على الشعب هو تضييق على السلطة أكثر، وبداية انفجار وانفراج غير معلوم. إن عاشت الشعوب تحت القهر مرغمة راضية، فلن تسمح لها العوامل البيولوجية ولا الطبيعية بالتكيف. لكل فعل رد فعل، وإن تأخر رده، ولكل جسم طاقة وقدرة. تضعف الطاقة فيقل الوهج والحيوية، وتضعف القدرة فتضعف المقاومة. زيادة ضغط الدم تقود إلى انفجار الأوردة تسبب نزيفا داخليا يقتل صاحبه أو يلقيه فى غيبوبة. زيادة الضغوط على الأوطان من قبل المستبدين فيه ميزتان:

الأولى: اليقظة والسيطرة على مناطق الضعف وإصلاحها للعمل في منظومة الجهاز المناعى دفاعا عن أي غزو محتمل. إما إذا تغولت إحدى مكونات الجهاز المناعي على رفاقها في المنظومة (كتغول كريات الدم البيضاء على الحمراء والتهامها)، صار الجسم فى حالة خصومة داخلية وحالة عجز لا يقدر فيها على مقاومة من يهاجمه. هكذا يكون حال الدول عندما تنقسم إلى طوائف، ويتغول قويها على ضعيفها.. يلتهم شركاءه أولا، ثم يسلم الروح والوطن للعدو.

الثانية: كشف وتعرية من يجيدون الرقص على كل الحبال، وفى كل الاتجاهات. هؤلاء رئات تنفس الفساد وإطالة عمره.

لا تنجح الثورات فى بلاد تركز شعوبها على إزاحة رأس السلطة، وتترك قواعدها وماكينات إنتاج الاستبداد برعاية المثقفين الانتهازين ترزية قوانين السلطة، وقاعدتها، وهم أول من يجب الإطاحة بهم كنوع من التطهير العرقى لفساد السلطة. 

المثقف المصرى في الغالب يعشق السلطة المتسلطة –الاستثناء الوطنى موجود- قد يختلف معها، ليس لصالح الوطن، ولكن للفت نظرها لإمكانياته ومهاراته، عساها تفسح له مكانا فى معيتها، يفلح ويفلحون، ويصيرون سياط المستبد على ظهور الشعب. التاريخ حافل والتذكرة واجبة. لدينا ماكينات عتيقة ماتزال تعمل بكفاءة في صناعة الاستبداد وتقنينه، والتفريط في الأوطان برغم تجاوز الزمن لها، إنها القدرة على تجديد الخلايا والثياب.. بثبات مع كل الأنظمة. هم أخطر على الدولة من الحاكم المستبد، هم القاعدة الصلبة التي تحمله، والتربة الخصبة لنموه، والرى الدائم لترعرعه. هم ماكينة ماهرة في صناعة الاستبداد، وآفة الوطن وخونته، وأجنحة المستبد وسياطه. يجيدون السباحة بنفس الكفاءة مع التيار وضده. إن الحاكم المستبد هو نتاج ماكينة تصنيع الاستبداد.

يفسد المثقف فيخون أولا قبل أن يفسد الحاكم ويستبد. المثقفون الخونة هم أجنحة المستبد التى يحلق بها متعاليا على شعبه فيبطش به. المستبد المعلب هو نتاج صناعة خارجية، باركتها ماكينة المثقفين من تجار الوطن والدين. المثقفون المتقعرون أصحاب المواقف المزدوجة، من يلوذون بالأمان في المناطق الرمادية، يلومون الشعب، ويتحدثون عن خنوعه، وتاريخه المشين وانبطاحه للغزاة، وينسون تضحياته، والدماء التي سالت على أرضه قبل مجيئهم، ولم تجف بعد.. هؤلاء هم المرتزقة بائعو الدم والضمير، مسرطنات الوطن.

الحاكم لا يولد مستبدا، الاستبداد هو صناعة محلية بماكينة المثقفين الخبيثة فى غياب وتغييب وعى الشعب. المثقف الوطنى هو لسان صدق الوطن، والانحياز للشعب، والعدالة فى الحكم على التاريخ بلا تأليه وبلا تحقير. المثقف الحق أكثر الناس معاناة وعدم استقرار، إنه ضمير الوطن اليقظ الجوال ولسان الشعب المقهور، وسيف الحق في وجه الظلم.. أول من يدفع وآخر من يحصل. إنه مازال موجود بيننا. مصر لم تعدم مثقفيها البررة، مازالوا في رباط إلى يوم الدين.
----------------------------
بقلم: د. يحيى القزاز


مقالات اخرى للكاتب

العوار الوطنى.. إشكالية المثقف والسلطة





اعلان