26 - 06 - 2024

منحوس في مصلحة حكومية!

منحوس في مصلحة حكومية!

هذا النهار... كنت في مصلحة حكومية، أنهي بعض الأوراق، ولأنني لا أفلح أبدًا في إنهاء الأوراق بطريقة سلسلة، فقد بات لديّ يقين أنني رجل منحوس؛ إذ لا يعقل أبدًا أن كل هذه الجيوش من الموظفين لا عمل لها سوى تعطيل أوراقي أنا تحديدًا في كل مصلحة أذهب إليها...!

دخلت المبنى الرمادي ( هكذا رأيته رغم لونه الأصفر الكالح) مستعينًا بالله وبروح من يمشي واثق الخطوة ملكًا، لا يشغل نفسه بحرّ ولا قرّ ولا بالكهرباء التي يمكن أن تؤجل كل شيء إلى الغد على نحو ما فعلت بالأمس، دخلت إلى مكتب موظفة خمسينية ممتلئة، ألقيتُ عليها تحية الصباح، وأشرتُ إلى نعيم المروحة التي تلطف الهواء الرطب في هذا الدور الأرضي، ابتسمتْ ابتسامة لا معنى لها، ثم قالت: 

قدمها إلى الأستاذة فردوس بالغرفة المجاورة...!

اسم "فردوس" في حد ذاته مريح، وأنا أتفاءل بمعاني الأسماء، طرقت باب المكتب رغم أنه مفتوح، وضعت الورقة أمام السيدة فردوس، نظرتْ، ثم أعادت النظر، وأنا أنتظر ابتسامة تاريخية مؤجلة، وبعدها تؤشر السيدة فردوس على الورقة ثم أصعد إلى هناااك .. إلى الطابق الأعلى حيث يقبع ختم النسر في درج أحدهم وينتظر أن يحط بفرح على ورقتي التي أوشكت على الذوبان من كثرة الأيدي المعروقة التي فردتها وطوتها على امتداد يومين..!

ابتسمت السيدة فردوس ثم قالت: هناك ورقة يجب أن تسبق هذه الورقة، عليك أن تأتي بها من مكتب الأستاذة همّت. وبصبر مصريّ تاريخي قلت: لا بأس، أين مكتب العزيزة همت؟ قالت بجواري..!! وأين هي؟ قالت: في أجازة ..! ومن يحل محلها؟ قالت: لا أحد ..!

  سوف تنتهي أجازتها يوم الأحد، يمكنك أن تأتي يوم الاثنين وسوف تنتهي مشكلتك ..!!

خرجت بعد سجال إداري حول الحضور والغياب، ومن يخلف مَنْ إذا غاب هذا الموظف أو ذاك.. جدال فارغ أعلم أنه لن ينتهي إلى شيء... !!

فيما يبدو أنني صعبت على عامل البوفية، وكنت قد أكرمته ببقشيش في اليوم الفائت، فعزم عليّ بفنجان قهوة (عمولة) محترم، فشكرته وجلست أحتسي قهوته ببطء، ومعها سيجارة أجنبية، لم أعد أحفظ أنواع السجائر الأجنبية لكثرتها، بعد هوجة السجائر الأخيرة..!

وأنا أحتسي القهوة السوداء بلا سكر سمعت صوت السيدة صباح تغني بمرح في غرفة تلي مكتب الأستاذة فردوس، وصباح اسم جميل ورسم أجمل، صباح امرأة إغريقية الجسد والروح أيضًا، أناقة صباح من حب الحياة وتقديرها، وحبّ الحياة - كما تعلم - فن، لا نصيب لنا فيه...!

 كانت تغني بدلع إغريقي أعرفه جيدًا:

 عاشقة وغلبانة والنبي، عاشقة ومسكينة والنبي ...! 

تذكرت المنشد محمد العجوز وهو يقف في شادر شعبي بزيه الصعيدي الفخم ينشد هذه الغنوة العجيبة، وينقلها من الحالة الإيروسية الناعمة التي أمتعتنا بها السيدة صباح إلى حالة العشق الإلهي في تساميه وعلوه وكيف تفاعل معه جمهور المديح الديني، فرقصوا وتمايلوا وهاجوا وماجوا وهم يناجون نورًا يسري في فضاء الشادر الفقير المتقشف..!

لا تستغرب المسافة بين ذكورية العجوز والإنشاد الديني وأنوثة صباح وإيروسية الشكوى من المحبوب... (يمكن أن نتحدث عن ذلك في منشور لاحق..!)

فكّرتُ في سؤال الموظف الذي يسمع هذه الأغنية في هذا المكان الرطب قليل التهوية، ولم لا؟ فأنا لن أخسر شيئًا.. أخذتُ أمني نفسي  وأنا أسترجع منشورات سابقة كنت قد دونتها على "فيس بوك" حول العلاقة بين نوع الأغاني والسلوك العام، فمثلا أغاني المهرجانات تخلق شخصًا فوضويًّا لا يفكر في شيء له قيمة، وليست لديه فرصة ليسأل عن معنى شاعريّ مسّ شغاف قلبه، بعكس رجل يسمع الآن: 

"عيني يا قلبي علينا، أنا وانت مساكين.. مبقاش فاضل لينا غير دمعك يا عين..!!."

لا يستوي الرجلان مثلا .. !!

انتظرتُ انتهاء الغنوة، ثم استأذنت في الدخول، كان الرجل يجلس على مكتب في غرفة منظمة مرتبة، سلمت عليه، فرد التحية بأحسن منها، وأشار عليّ بالجلوس، فجلست شاكرًا... وعرضت عليه مشكلتي من أولها إلى آخرها، وهو ينصت باهتمام نادر.. وبعدها قال بهدوء: يجب أن تنتظر الأستاذة همت، فهي وحدها المسؤولة عن هذا الملف، ولا يوجد بديل لها بعد أن خرج كثير من الموظفين على المعاش..!

ابتسمتُ ابتسامة رجل يتصور أنه "منحوس" في كل ما يتصل بالحكومة وأن أحدهم - بلا شك- قد صنع لي عملا على ذيل سمكة صغيرة تسبح في المحيط الهادي.. شكرت الموظف ثم خرجت، وعدت إلى بيتي، غيرت ملابسي، واسترحت قليلا، وبعدها اتصلت بصديق أقوله له:

 عندي نكتة حلوة، تحب تسمع..!
----------------------------------
بقلم: د. محمد عبدالباسط عيد
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)

مقالات اخرى للكاتب

منحوس في مصلحة حكومية!





اعلان