17 - 07 - 2024

العوار الوطنى.. إشكالية المثقف والسلطة

العوار الوطنى.. إشكالية المثقف والسلطة

صارت الكتابة عبئا، والتوصيف مخجلا، ومواجهة الواقع المر وجهات نظر شخصية بغير منطق، والبحث عن مخرج هو بحث عن مزنق. لا جديد يقال عن واقع بائس مكشوف، فاق وصفه أتعس مفردات اللغة، وتكرار القديم فيه ملل وألم. لا نستطيع الصمت على الوجع ولا البوح به ولا الفكاك منه.. سرمدية القهر والاستبداد. ينطبق على من يعانيها وصف الشاعر المطارد بنضاله بيرم التونسى "اتقلب على جمر النار/ واتشرد ويا الأفكار" الذى غنته سيدة الغناء العربى الراحلة ام كلثوم، فأحالت هذا العذاب إلى نعيم مقيم واستمتاع لذيذ. وغدونا نستمتع بعذاباتنا ونغنيها بنشوة، وكأننا فى فرح لم يمسسنا قرح قط. لا أعرف إن كانت شدة الاستبداد وقسوته هى مَا جعلتنا نتحمله ونتعايش معه أم الشعراء الذين تغنوا بالألم فحولوه لبهجة تستحق الاستقامة والاستدامة؟  إن ظاهرة استبداد الحكم المتوارث تحتاج إلى دراسة لمعرفة أسبابها، وعلاقة المثقفين والسلطة بنشأتها. لا أظن أننى متخصص ولا مؤهل لهما، إنه استفسار عنَّ لى فبادرت به لمن هم أهل للعلم والدراسة.

مقدمة فرضت نفسها فاستعبدتنى، فأسقطتها من أم رأسى أرضا متحررا من احتلالها وأوجاعه.  كنت أنتوى الكتابة، عن توصيف مؤجل لما يسمى بالحوار الوطنى، بعد طول انتظار وطول معاناة.. النتيجة ليتها كانت صفرية، بل صارت سلبية متكاثرة، يشيب لها الولدان. دفعنى للكتابة ما قرأته في تعليق على بوست، يرى أن الحوار الوطنى لم يسفر عن شيء. صيغ التعليق فى تساؤلات قد تبدو ساخرة مستهترة: "ولماذا تقول أن الحوار لم يسفر عن أي شيء مفيد. أليس الحوار بين ممثلين لأحبابك الموالاة وكل أحزاب المعارضة وخصوصا غالبية أحزاب الحركة المدنية مفيدا؟ أليس للاعتراف بهذه الأحزاب أي قيمة؟ اليس في وجود الحزب الشيوعي المصري علنا ولأول مرة في التاريخ وجلوسه مع أحزاب الحكومة أي قيمة؟ هل سمعت عما دار في الجلسات المخصصة للحريات الأكاديمية أو العمل الأهلي؟ هل لابد أن يسفر الحوار عن تغيير شامل للنظام السياسي في مصر حتي تعترف بقيمته؟ وبماذا تنصح كبديل للحوار وترينا الطريق حتي نستفيد؟" ولا تعقيب لدى على التعليق فهو كاشف فاضح لنمط فكرى بدأ يسود فيه اتهام ووشاية مغلفتين. ثم أردف المعلِق "ولماذا تعتبر الجلسات المصغرة التخصصية علامة فشل وهى حوار حقيقى بين عدد محدود من ممثلى الاحزاب ثلثهم من المعارضة الحقيقية مع عدد من الخبراء، لماذا يعتبر ذلك علامة على فشل الحوار".  

تدخل معلق آخر بأنه "حوار إجبار وليس اختيار، ومعروف نتيجتة مسبقا ولكن هناك إيجابية واحدة غير مقصودة وهو لمة الكل وظهور تصريحات لم يكن مسموح بها سابقا...". ثم عاد فعقب كاتب البوست على التعليق الأخير -متجاهلا التعليقين الأوليين- بانها "تصريحات لها هامش محدود بعد ما استبعدوا مسبقا كل الموضوعات الرئيسية من الدستور للانتخابات الرئاسية للسياسة الخارجية والامن القومى". تعقيب في رسالة مهذبة لمن يرى في تكرم الحكومة واعترافها بالمعارضة وجلوسها معها أنجاز كبير، رسالة مفادها أنه لاجدوى من الحوار بدون تداول الأمن القومى والدستور والسياسة الخارجية، ولم يذكر شيئا سياديا آخر، ولن نذكره حتى لا نحمله ما لم يقل وما لا يطيق.

المكتوب يكشف عن العوار الوطنى، ويعيد السؤال عن علاقة السلطة بالمثقف وإشكاليتها. وهو موضوع كبير لست مؤهلا له، ويحتاج دراسة من متخصصين موضوعيين وأتمنى أن تكون قضية شاغلة. السلطة هي التسلط مصحوبا بالاستبداد، والمثقف هو كل من له وعى معرفى وضمير حى. شعاع يضيء ولا يحرق. لديه معارف ووعى بمقاصدها وتأثيراتها على مايدور حوله. إن غاب الضمير صار المثقف انتهازيا في ركاب السلطة ومضلِلا، معول هدم وعائق ضد تقدم الوطن، عنصر بلبلة وتشكيك لتقسيم الشعب، يقنن الظلم، ويجمل القبح، ويقبح الجمال، يتوافق مع كل العصور كصانع حاذق ماهر، يجيد حياكة المطلوب بالمقاس. وتظل إشكالية العلاقة بين المثقف الحقيقى والسلطة هى الصراع بين العدل والظلم.. بين الخير والشر، والعلاقة بين المثقف الانتهازى والسلطة هى العلاقة بين صانع الآلهة وعابدها. العوار الوطنى هو المهدد الأول لانتخابات رئاسية نزيهة.
-----------------
بقلم: د. يحيى القزاز

مقالات اخرى للكاتب

العوار الوطنى.. إشكالية المثقف والسلطة