27 - 09 - 2024

أوبنهايمر .. كعب أخيل

أوبنهايمر .. كعب أخيل

حظيت الأسطورة بمكانة كبيرة في التراث الشعبي عززتها عدم القدرة العلمية على فهم الكثير –إن لم يكن أغلب- الظواهر الطبيعية. ولا تكاد حضارة تخلو من أساطير تفسر الرياح العاتية، والأمطار، والخير والشر، وغيرها.

أخبر العرافون والدة أخيل أنه سوف يموت في إحدى المعارك، فحملته وجلة إلى النهر المقدس لتغمره في مياهه ليكتسب قوة لا تقهر، قبضت الأم الحنون على كعب وليدها وغطسته في النهر حتى اطمأنت أن الماء غطى جسمه كله، ثم عادت به للقصر مطمئنة النفس مرتاحة البال.

كَبُرَ أخيل وترعرع وصار عملاقًا لا يهزم، حتى وقعت حرب انتصر فيها على الطرواديين وقبيل نهاية المعركة أصابه سهم مسموم في كعبه، ذات الموضع الذي أمسكته أمه منه ولم يصله الماء المقدس. من هذه الأسطورة اليونانية انتشرت عبارة (كعب أخيل) كناية عن أضعف موضع في الإنسان.

أُجريت أول تجربة لاختبار القنبلة النووية في يوليو 1945 بمنطقة صحراوية جنوب شرق ولاية نيو ميكسيكو الأمريكية، أطلق عليها أوبنهايمر اسمًا حركيًا (الثالوث Trinity)، وتختلف الروايات فيما إذا كان التسمية لمرجع ديني مسيحي أم إلى أحد قصائد الشاعر الإنجليزي جون دون (1572-1631).

بعد أقل من شهر من نجاح الاختبار، وتحديدًا في 6 أغسطس، أُسقطت القنبلة النووية الأولى، والتي حملت الاسم الحركي (الولد الصغير) على مدينة هيروشيما اليابانية، وفي 9 أغسطس أسقطت الثانية، (الولد البدين)، على نجازاكي.

تركت صور الضحايا والجرحى آثارًا سلبية على أوبنهايمر، أرغمته على إعادة النظر في برنامج عمله مع فريقه، من جانب كان عملاً وطنيًا استسلمت اليابان على إثره وجنب أمريكا مزيدًا من الضحايا، وعلى الجانب الآخر قاربت أعداد الضحايا ربع مليون شخص فضلا عن المشوهين والدمار.

فاقت الإحصاءات كافة التقديرات، مما دفع أوبنهايمر لرفض استكمال العمل في انتاج قنبلة هيدروجينية أشد فتكًا، وأدلي بتصريحات تدعو إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية. انقسم حوله الرأي العام؛ بين تصنيفه كبطل قومي ومجرم حرب، ووجد اعداؤه في انقلاب الإدارة السياسية ضده فرصة للإساءة إليه ونجحوا في إخضاعه للتحقيق.

تحولت ميوله الاشتراكية في شبابه وضمه علماء ذوي ميول شيوعية وماركسية، وكذلك تبرعه لثوار إسبانيا الشيوعيين إلى كعب أخيل، رغم علم الإدارة الأمريكية بكل هذا قبل رئاسته فريق العمل. تبنت الإدارة وقتها مبدأ ميكيافيللي (الغاية تبرر الوسيلة).

بالغ المحققون في اصطناع تصورات سلبية عنه وفي توجيه التهم إليه. كانت مرحلة عصيبة شهد ضده بعض المقربين ممن عملوا تحت قيادته، ربما لرفضه بعض أفكارهم، وربما بدافع الحقد، ارتدوا لباس وطنية مزيف وقالوا نخشى على أمريكا منه!.

"اللعنة، أنا أحب هذا البلد"، رد أوبنهايمر على نصيحة أينشتاين له بأن يترك أمريكا ويرحل، في إشارة لتجربته مع بلده الأصلي ألمانيا، الذي تركه إثر تولي هتلر منصب المستشارية عام 1933، واضطهاده لليهود، مما دفع أينشتاين للبقاء في أمريكا بعد أن كان في زيارة علمية لها.

أنكرت أمريكا جهود أوبنهايمر. تحولت سطور قليلة من تاريخه القديم إلى ثغرة -كعب أخيل- نفذ منها أعداؤه إلى بنيانه القوي لتحطيمه وإلقاء تاريخه في سلة النفايات، كانت أمريكا وقتها غارقة في المكارثية، نسبة إلى جوزيف مكارثي العضو بمجلس الشيوخ، حيث كانت تُلقى تهم الشيوعية وتهديد أمن البلاد دون تفرقة؛ مارتن لوثر كينج وأينشتاين وآرثر ميللر وتشارلى تشابلن، كانوا من ضحاياها.

حتى مكارثي اتهم بالفساد والتزوير، عثروا عنده على كعب أخيل !!.
------------------------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]
من المشهد الأسبوعية


مقالات اخرى للكاتب

يفجيني بريجوچين.. المقامر