17 - 07 - 2024

في الطريق إلى الانتخابات .. إشكاليات الحالة المصرية

في الطريق إلى الانتخابات .. إشكاليات الحالة المصرية

غياب مرشحين مؤهلين قادرين على منافسة الرئيس حتى الآن

شهور قليلة تفصلنا عن انتخابات رئاسية مستحقة في مصر. 

يشير الاهتمام الكبير الذي تبديه دوائر محلية وعالمية معنية بالوضع في مصر بهذه الانتخابات إلى أننا أمام انتخابات فارقة ومصيرية، ليس بسبب المشكلات والأزمات التي يعاني منها الاقتصاد المصرية، والتي يأتي في مقدمتها وعلى رأسها أزمة الديون وإدارتها، وإنما أيضا بسبب النقاش الدائر حول السياسات المتبعة بتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبسبب الأوضاع السياسية العامة، وفي مقدمتها أزمة الحريات وأزمة العمل السياسي وأزمة السياسة بشكل عام، التي تعبر عنها حالات من الاستقطاب الشديد على أكثر من مستوى وفي أكثر من اتجاه، على نحو يحد من إمكانية بناء توافق عام على الأولويات من ناحية، ووضع قواعد تنظم التنافس السياسي والصراع الاجتماعي من ناحية ثانية، والإدارة الأمثل للموارد وتعظيم المردود منها من ناحية ثالثة. ولعل النتيجة الأخطر المترتبة على حالات الاستقطاب تلك أن الخطاب السياسي السائد في مصر يتراوح بين تمجيد السياسات الراهنة، والدفاع عن ضرورتها لإحداث نقلة في الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبين شيطنتها واعتبارها السبب الرئيسي فيما تعاني منها البلاد من أزمات ومشكلات، ولا يساعد مثل هذا الوضع في تطوير ووضع برامج انتخابية قابلة للتنفيذ، يمكن للناخبين تقييمها والتصويت على أساس ما يتوصلون إليه من نتائج استنادا إلى هذا التقييم. 

في الانتخابات وفلسفتها

أصبحت الانتخابات التي تُجرى بشكل دوري لاختيار من يشغلون المناصب العامة، تشريعية كانت أم تنفيذية، آلية ضرورية من آليات النظم السياسية في العالم، حتى لو كانت هذه الانتخابات صورية. إن التزام نظم الحكم المعاصرة بإجراء الانتخابات تأكيد لاستقرار مفهوم الديمقراطية وترسخه في الثقافات السياسية في عالم اليوم، ذلك أن ديمقراطية نظام الحكم باتت أحدد الأسس الثابتة للشرعية، وإن تنوعت مصادر هذه الشرعية وركائزها. هذا من الناحية الشكلية، أما من ناحية الجوهر، فلا يمكن فهم منطق الديمقراطية والانتخابات، بدون فهم عميق للسياسة باعتبارها آلية يتم من خلالها تحديد الأولويات الذي يعد أساساً لتخصيص الموارد لتلبية الاحتياجات. والطريقة التي يتم من خلالها ترتيب الأولويات هي التي تحدد طبيعة النظام السياسي وشكله. 

في النظم غير الديمقراطية، تنفرد السلطة الحاكمة بتحديد هذه الأولويات وتوجيه الموارد لها نيابة عن المجتمع وبصرف النظر عن احتياجاته ومدى إلحاح هذه الاحتياجات. قد تكون هناك فروق في هذه النظم مرتبطة بشكل تلك السلطة غير الديمقراطية، فهي إما أن تكون فردية متمركزة في شخص الزعيم أو الحاكم الأوحد، أو أن تكون جماعية حيث تكون السلطة موزعة بين عدد من مراكز القوة. تجدر الإشارة هنا إلى أن السلطة في الحالتين، الفردية والجماعية، قد تأتي من خلال انتخابات حرة ونزيهة، لكن الإشكالية تكمن في غياب المقومات الأخرى للديمقراطية، مثل مبدأ الفصل والرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية مع قدر كبير لحرية الإعلام وقوة تأثير الرأي العام؛ ومبدأ المساءلة والمحاسبة؛ وكذلك القواعد الحاكمة لعملية صنع القرار وآلية اتخاذ القرار. قد يحدث في مثل هذه النظم أن يكون تحديد الأولويات متوافقاً مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع سواء في اللحظة الراهنة أو وفق تصور لتطوره في لحظة ما في المستقبل، ويستند ذلك، غالباً، إلى دراسات محكمة وتحليل دقيق للتوجهات والاتجاهات العامة. وقد تنجح السلطة في إقناع الرأي العام والمجتمع بهذه الأولويات، وتحمل الأعباء الناتجة عن السياسات المتبعة وكسب رضا الجمهور العام عنها. وغالباً ما تكون نتيجة الانتخابات بمثابة استفتاء عام على هذه السياسات. 

إشكالية الحالة المصرية

الإشكالية في الحالة المصرية تتمثل في عدم وجود تقييم دقيق لمدى رضا الجمهور عن الأولويات التي حددتها القيادة السياسية واستعداده للمشاركة في تحمل أعباء تنفيذ هذه السياسات، أو الإنجازات بلغة مناصري النظام. هناك من يرى، استناداً إلى شواهد كثيرة، أن القيادة السياسة تحظى بتأييد شرائح عريضة من المجتمع ممثلة في الأغلبية الساحقة من محدودي الدخل، وربما الفقراء، ومن المرأة، ومن الأقليات الدينية، وأن تلك الشرائح تمثل قاعدة تأييد انتخابي عريضة للقيادة، رغم تضرر قطاعات كبيرة من السياسات المتبعة ونتائجها الاقتصادية والاجتماعية. التأييد هنا لا يستند إلى المصالح وإنما يستند إلى التصورات السائدة لدى هذه الشرائح في الدور الذي يلعبه النظام في تقديم بعض الحلول لمشاكلهم وتلبية احتياجاتهم الآنية وإن يكن بشكل محدود. قد يتمتع النظام هنا بميزة نسبية يتمثل في سهولة حشد هذه الشرائح انتخابيا في حين أن الشرائح الاجتماعية الساخطة التي تنتمي غالبا لشرائح الطبقة الوسطى، فهي عازفة غالبا عن المشاركة الانتخابية ولا توجد قوة سياسية قادرة على حشدها وتحويلها إلى قوة انتخابية، رغم الحديث المتزايد عن التصويت العقابي. لكن لا نجد في برامج الأحزاب السياسية المختلفة ما يشير إلى الالتفات إلى هذه الشرائح وبلورة مطالبها وتطلعاتها. وعليه، فإن الانتخابات في الحالة المصرية محكومة باعتبارات أخرى غير البرامج السياسية وغالبا ما تعبر عن تحيزات أيديولوجية أو سياسية وتكون محكومة غالباً بمصالح آنية مباشرة وضيقة، والنتيجة أن السلطة المنتخبة لا تأتي استنادا إلى برنامج سياسي تكون ملزمة بتطبيقه، لاسيما في ظل غياب آليات الرقابة والمحاسبة.

هل من طريق للخروج من هذه الأزمة، يعيد للعمل السياسي مكانته اللائقة في المجتمع ويفتح المجال أمام عملية للانتقال الديمقراطي تسقط الموانع التي تحتجزه منذ عقود؟ 

إن الشرعية التي اكتسبها مفهوم الديمقراطية كمفهوم محوري في التنظيم السياسي المعاصر والتي يعبر عنها حرص الغالبية العظمى للنظم السياسية المختلفة على تأكيد التزامها بمبدأ الديمقراطية في الحكم تدفع لضرورة مثل هذا التفكير في طريق للخروج، ونحسب أن هذا التفكير بات ضروريا أيضا لضمان صيغ أفضل في تحديد أولويات المجتمع وتكريس الموارد اللازمة للوفاء بالمتطلبات وفق هذه الأولويات. 

والسؤال الآن كيف يمكن أن تكون الانتخابات القادمة آلية لإعادة بناء المجال السياسي؟ المتابع للحوار الوطني وما تبلور خلاله من كتل وتيارات سياسية يكشف عن حاجة ملحة لتطوير ظهير سياسي للنظام أكثر كفاءة من التنظيمات التي تعبر عنها أحزاب الموالاة، وعلى رأسها حزب مستقبل وطن. لكن ليس هناك ما يشير، بعد، إلى القدرة على تطوير أطر تنظيمية سياسية قادرة على تحدي قدرة الأطر التنظيمية ذات المرجعيات الدينية، متمثلة في جماعة الإخوان المسلمين المحظورة أو في تيار "حازمون" السلفي، وغيرهما من أحزاب سلفية على العمل وسط القواعد الجماهيرية والشعبية، والأمر سيظل هكذا لعقود طالما استمر هذا الخلط بين الديني والسياسي، وطالما استمرت المنابر الدينية في كل من المسجد والكنيسة الآلية الرئيسية للتواصل الجماهيري الواسع. وسيتعين على الأحزاب السياسية بذل جهودا جبارة للتغلب على هذه الإشكالية لكن بشرط رفع القيود المفروضة على حرية العمل الحزبي والتنظيم أولاً. فلا سبيل لتحقيق هذا التمايز بين الديني والسياسي بدون فتح المجال واسعا أمام الأحزاب السياسية للتحرك في الشارع وتنظيم مؤتمرات جماهيرية واسعة والسعي لكسب أعضاء وبناء الحزب على المستوى القاعدي الجماهيري. فوجود تعددية حزبية فعالة ومؤثرة هي التي تعطي للانتخابات أهميتها ودلالاتها الفعلية. وهي التي تعيد ربط السياسة بالمصالح المباشرة للجمهور وتوجد أطرا تنظيمية مشتركة ترسخ لقيم المواطنة الإيجابية والمشاركة. 

من انتخابات الرئاسة إلى الانتخابات النيابية

الاستحقاق الانتخابي الأقرب هو الاستحقاق الرئاسي. وبالرغم من الحديث المتكرر بخصوص مرشحين مؤهلين قادرين على منافسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن الشخصيات التي أعلنت نيتها خوض انتخابات الرئاسة لا تشكل تحديا يُعتد به للرئيس الذي لم يعلن رسميا بعد ترشحه للانتخابات. إن دعوة الرئيسي السيسي للحوار الوطني التي أطلقها قبل أكثر من عام وبدء جلسات هذا الحوار منذ أسابيع تكشف عن إدراك بأن الوضع السياسي الحالي بحاجة إلى ضخ دماء جديدة ووجوه جديدة وتبلور قوى سياسية جديدة خارج كتلتي أحزاب الموالاة وأحزاب المعارضة التي تعمل حاليا من خلال إطار أحزاب الحركة المدنية التي تقدمت برؤى وأطروحات من خلال الحوار الوطني لكنها لم تعكف بعد على صياغتها لتعبر عن برنامج سياسي بديل للسياسات الراهنة، وربما يرجع ذلك إلى التباين الشديد في رؤى الأحزاب السياسية المشاركة في الإطار التنسيقي لأحزاب الحركة المدنية، لاسيما في الملف الاقتصادي وفي توجه النظام السياسي، رغم وجود قواسم مشتركة فيما يخص بالحريات العامة والحريات السياسية. 

ورغم الحديث عن التقدم بمرشح لانتخابات الرئاسة يحظى بتوافق هذه الأحزاب، إلا أنه لم يظهر، بعد، مثل هذا المرشح. وعليه فإن المجال الأرجح الذي يمكن لهذه الأحزاب أن تحرز تقدماً فيه هو مجال الانتخابات التشريعية وانتخابات المجالس المحلية المؤجلة منذ أكثر من عشر سنوات، خصوصاً إذا أسفر الحوار الوطني عن الاستجابة لمطالب تعديل قانون الانتخابات وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وإحراز تقدم في إصدار قانون المحليات. والسؤال هل يمكن أن تسفر هذه العملية، إذا ما توافرت الشروط المذكورة عن آلية تفتح الباب لوجود مجلس تشريعي بغرفتيه، النواب والشيوخ، قادر على تفعيل صيغة الفصل بين السلطات والرقابة وإنجاز مهمة الإصلاح التشريعي التي بات من الواضح أنه مقدمة ضرورية لأي إصلاح آخر. 

كذلك، فمن شأن الوفاء بالاستحقاق الخاص بالمجالس المحلية المنتخبة أن يضمن توفير آليات أكثر قدرة على الاستغلال الأمثل للموارد، على نحو يضمن تحقيق تنمية متوازنة لا توجه الموارد في اتجاه تنمية قطاعات أو مناطق على حساب أخرى يجري تهميشها. وقد تكون هذه المجالس آلية أمثل لممارسة سياسية أكثر تأثيرا في الواقع من خلال تحديد من يحصل على ماذا على المستوى المحلي على نحو يضمن توزيعا أكثر عدالة للموارد على مستوى صنع السياسة العامة. وقد تكون هذه الانتخابات المحلية آلية حاسمة في عملية بناء الأحزاب السياسية وزيادة فاعليتها على المستوى القاعدي. لكن من المهم هنا ملاحظة أن هناك أيضا مجهود يتعين على الأحزاب السياسية بذله استعدادا لهذه المرحلة. عليها أن تعيد النظر في هياكلها التنظيمية وأن تضطلع بمهمتها الرئيسية لتصبح مدارس حقيقية لبناء الكوادر السياسية والتنظيمية المدربة وأن تعتمد أساليب أكثر مأسسة وديمقراطية في إدارة شؤونها، وعليها العمل على توسيع عضويتها ويناء قواعدها الانتخابية على المستوى المحلي، والاستعداد للعب دور في المرحلة الجديدة، وأن تدرك أن لها دور رئيسي سواء فازت بمقاعد في هذه المجالس المحلية أم لم تفز، من خلال القيام بمهمة مراقبة أداء هذه المجالس والدفاع عن مصالح الجمهور وتنظيمها، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تطوير أدوات التواصل الجماهيري لهذه الأحزاب، والاعتماد على كوادر لها تواجد مؤثر وسط الجمهور.
---------------------------------------
بقلم: أشرف راضي
من المشهد الأسبوعية


مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023 | هل تغامر إسرائيل بفتح جبهة حرب جديدة في لبنان؟