27 - 06 - 2024

لا علاج للمحب إلا الذكرى! الشهاويّ أنموذجاً

لا علاج للمحب إلا الذكرى! الشهاويّ أنموذجاً

لا أنسى أبداً أنّني قضيتُ مع حسنة الدهر الحسنى وقتاً كثيراً في الحديث عن والديه وأساتذته، فأبصرتُ مسالك التربية وأثرها في نفسه، وعرفتُ من بره بأمه - وأنا بلديها - ما يؤكد لي أنّ تلك المنزلة الرفيعة التي أدركها بسبب سلوكه هذا الطريق. 

كانت أحاديثي معه عن أقاربها مما يشرح صدره، ومما يشعرني إلى خاتمة عمري كيف تحيا الأمهات في قبورهن بذكر الأبناء البررة؟!

لم يكن أسعد مني حالاً حين كنت أتردد عليه؛ لأنظر إلى حديقة معارفه مقتطفاً منها ما يُنير ذهني، ويُشبع رُوحي، ويُهذِّب نفسي.

ويا حبّذا لو أتاح لي الزمن أن أقيم في ملاذه مرة أخرى أكثر مما أقمت.

إنّي آنس به حاضراً، وأشتاق إليه غائباً، وأحبه حباً مستكناً، وأنتسب إليه انتساباً بادياً!

ما لقلمي يبكي كأنّما هو أيضاً محب؟!

 قد أعجز عن وصف حالة العلامة الفقيه شيخ الشافعية بالديار المصرية عبد العزيز الشهاوي الملهمة حين يأتي ذكر والدته، فهو من أولئك الرجال الذين يحاولون استرجاع الذكريات وتعداد المواقف عند ذكر المحبوب.

هي هي مصورة مع أعمالها في قلبه، منطبعة مع مآثرها في وجدانه!

كان حديثه عن أمه من أفانين شتى، منها عبادتها وزهدها، وإكرامها لأهل زوجها، وحفاوتها بضيوفها.

لقد هذبت أخلاقه بنصائحها، ورقَّتْ نفسه بمروءتها، وأحيته بتربيتها، وخصته بعنايتها، وأسعدته بسخائها، وربطته بصالح قومها، وأفردته بدعائها، وزادته بوعيها، وعززته بورعها، وزينته بمداركها، وحصنته بأفكارها، وأمدته بسبيلها!

ماذا أكتب لكَ غير ألفاظ أدبه وآثارها؟ 

هو مِن آثارها، وآثارها سحاب يُمطر الأيام خيراً وحسناً، وتربية وتهذيباً.

امتزجت منذ صغره روحه بروحها حتى صار يريد ما تريد، ويحب ما تحب، ويكره ما تكره، ويشعر بما تشعر.

لا أكذبك فقد كان في نفسي بواعث كثيرة تحملني على طيّ الحديث عنها، أهمها عدم فوات درسي، وانحراف الدرس عن مقصوده بذكرها، هكذا كنت أظن، إلا أنّ الله تداركني برحمته، فعرفتُ بركة الانشغال بسير الصالحين والصالحات ومحاسن المروءة.

ها أنذا أغلغل نظرتي إلى المعاني البعيدة!

لقد رأيتُ صورة حية لرجلٍ ستيني – آنذاك - استولى على قلبه حب أمه وأخواله، أحسستُ بلسان محب صادق يتحدث عمن فقدهم؛ وكأنّه رسول مبشر يتكلم عن أخلاقٍ عزيزة بين قوم لا يهتمون، ولا يصيخون!

تلك أجيالٌ عرفتْ قيمة الكبار وأخلاقهم، أما اليوم فقد صحونا على من يتنكرون بلباس الكبار.

لقد فسحَ لي مجالًا رحيباً للوقوف على عواطفه التي اختلجت في جنانه، فلا تزال أمه على طول العهد حيةً في ذاكرته، حاضرةً في وجدانه؛ كأنّ مواقفها معه وقعت أمس، وكأن حياته بكل ما فيها هي الأم.

كان عمرها أعمالاً عظيمة تسمى أياماً!

كنت أشاهد عبراته وأسمع خفقان قلبه على فقد والدته، تلك المذكورةُ بأعظم المبرات الوالدية وأجلّ المواقف التربوية.

لا يجد كفايته من الروح إلّا في حِكمها، ولا يريد قلبه إلا تذكر جميلها، ولا يرغب عقله إلا في الاستئناس بالتفكر فيها، ولا تستطيب نفسه إلا استماع أخبارها.

ما أجلّ امتثالك للبر، وأعظم وفاءك له بعد موتها!

أجل فقدها، غير أنّه وجد بعض السلوى بما يعرف من أخبارها التي تُعرفه بأفضالها، فلا تزال أقوالها النيرة المحكية عنها موضع فخره ومسرته. 

وا عجباه! إذا كانت الأفعال اليسيرة التي سردها لي وجدتْ خلودها في أعماق ذاكرته، فكيف بالأحداث الجليلة والأعمال العظيمة مما خبأها عني؟!

ومهما بلغ الابن من المنزلة فالأم أعظم منه بأنّها مركز إعداده، وطريق إلهامه، وعنوان قوته.

وتخرج ذاكرته أيامه القديمة معها لتجعلها مادة جديدة لسعادته وأنسه. 

حقاً؛ إنّ الانشغال بالأعمال الفريدة مما يستحضر الماضي في الأذهان!

تبارك الذي جعل في تذكرها تخفيفَ ما يعانيه من فقدها! 

قد أخذها الموت فمَن يرجعها؟ وأبقتها الذكرى فمَن يميتها؟

 يا مَن لهم في الذكريات حياةٌ!

إنّ الذكرى إذا استمرت في النفس انتهى بها آخر الأمر إلى الشوق الملح بسيرتها. 

ما أبعد الأمس! وما أقربه بتذكره!

ولقد أعجبني هذا التعلق لأنّه أبان لي تمسكه بأصل حياته ورمز وجوده.

هذا هو الابن الشفوق الذي يريد إرجاع الحياة لوالديه في القبور بالذكرى!

لقد كنتُ من قبل أبصر المواقف بالعقل، والعقلُ خدّاع، وأنا الآن أبصرها بالقلب، والقلبُ دليل!

أطال الله بقاء سيدي لِعلمٍ يحيي آثاره، وسلوكٍ يعلي مناره!

وأدام نعمته له ولنا به!
-------------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني*
* كاتب وأديب أزهري 

مقالات اخرى للكاتب

البيومي ونقد عبد الفتاح أبو مدين





اعلان