19 - 06 - 2024

فتاتان

فتاتان

تمسكُ بذراعٍ، تبدو أنها لشقيقها، وتحِملُ في يدها الأخرى مِلفًا شفافًا يُظهر أن به أوراق ترشيحها إلى إحدى الكليات، في إعلانٍ صريحٍ لطي صفحة الثانوية العامة وكواليسها، وتقلّبُ ناظريها حول المشروع الذي كانت تراه فقط عبر شاشات "التلفاز"، متعجبةً أو معجبةً بطريقة التشييد هذه تحت الأرض.. تتحسسُ الخطى وهي تضع إحدى قدميها على سُلم كهربائي، لتتشبث أكثر بأخيها في مشهدٍ يؤكد للوهلة الأولى قدومها من إحدى المحافظات النائية التي يغلب عليها وقاطنيها الطابع الريفي الخجول النقي..

ها هي الآن نزلت إلى رصيف إحدى محطات مترو الأنفاق المتجه إلى عدلى منصور، بعد مرورها بعدة سلالم كهربائية لتقف مُنتظرةً وصول القطار.. عيناها مملوءتان بالسعادة وهما تتقلبان يُمنة ويُسرى تتفحصان الوقوف، وعلى شفاهها ابتسامةٌ تفضحها عيناها أكثر من أسنانها، فيما يمر على مخيلتها سنون عمرها المنصرمة، مستذكرةً كم المرات التي طلبت فيها أمها أن تذاكر، وخروج أبيها ليقتات لها وإخوتها، وكم ساعة هي ذاكرت، حتى إنها قد تتذكر جل أو معظم معلميها في المراحل التعليمية الثلاث السابقة، كل ذلك في دقائقَ معدوداتٍ لا تتجاوز وقت انتظار القطار الذي وصل لتوّه، لتستقله مُتشبثةً بالذراع نفسها، وبدرجة الاندهاش والترقب والفرحة ذاتها..

في اليوم نفسه.. رجل خمسيني يرتدي جلبابًا بلديًا بفتحة صدر واسعة تُظهر "سديري" أسفله، ويلف حول عنقه "شالاً" واضعا فوق رأسه "طاقية"، في زيٍّ ينمُّ في النهاية عن هيبة ووقار، وفي اللحظة نفسها تشي خطواته بأنه لم يأتِ كثيرًا إلى المدينة.. تمسكُ بيده فتاةٌ يبدو أنها ابنته، يُرى في مشيتها شموخٌ، وتكشف ثقتها عن مستوى تعليم يوحي بأنها تسبق الفتاة الأولى التي بدأت إجراءات التقدم إلى كليتها، بخطوات، وفي ممرات محطة القطار التي تقع بحي مصر الجديدة، تسير بأبيها في فخرٍ وتباهٍ، وهو الفخور المتباهي بنجلته، حتى وصلا إلى السُلَّم الكهربائي، وسرعان ما مسكت بكلتا يديه، حتى تزيل رجفته التي أظهرها توقف قدميه فجأةً قبل الصعود، وكأن لسان حالها ينطق: "لا تخف يا أبي أنا بجوارك، فأنت الذي عملت ليل نهار من أجل توفير حياة كريمة لنا، أنت ووالدتي التي سهرت علينا، أنتما قدوتنا، الآن آن دورنا أن نبرّكما ونرد شيئًا ولو يسيرا"..

ولدى وصولهما إلى ماكينة الخروج، اكتشف فرد الأمن أن قيمة التذكرة أقل من عدد المحطات التي استقلاها.. ليحمرَّ وجهُ الفتاة ويتلعثم لسانها كما أنها لم تبعد من قبل عن قريتها التي ترعرعت في شوارعها، وأبوها الذي اتضح أنه ذاهب إلى أحد المستشفيات من رده على رجل الأمن عندما قال له "أنا أول مرة أركب مترو ومكناش نعرف".. لينتهي المشهد في غرفة ناظر المحطة بالسماح لهما بالانصراف بعد أن يقطعا تذكرة أخرى تساوي فرق المحطات.
-------------------------------
بقلم: عزت سلامة العاصي

مقالات اخرى للكاتب

«العصفور المفترس».. هل أدرك المحتل حجمه؟





اعلان