16 - 08 - 2024

من الصعب العثور على دكتاتور لم تسلحه إسرائيل!

من الصعب العثور على دكتاتور لم تسلحه إسرائيل!

دعا بروفيسور يوفال نوح هراري، في ملحق هآرتس (7.7)، عاملي ورؤساء الصناعات الأمنية إلى رفض التعاون مع الانقلاب على الحكم. وكتب أنه "حتى اليوم، كان بالإمكان أن نأمل أن القرارات بشأن كيفية استخدام هذه الأدوات ولمن نبيعها تُتّخَذ من قِبل قادة ملتزمين بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأن هذه القرارات تخضع لرقابة قضائية معقولة... ليس بعد الآن".

يجب، بالتأكيد، تأييد الدعوة إلى رفض التعاون مع الدكتاتورية، إلا أنّ ادعاء هراري غريب بعض الشيء. من الواضح أن الناس يميلون إلى رفض خدمة الدكتاتورية حين تكون قوّتها موجَّهة ضدهم، أكثر من ميلهم لذلك حين تكون هذه القوة موجَّهة ضد آخرين غيرهم. وبشكل طبيعي، أستطيع أن أخمّن أن شعور أعضاء كيبوتس بيت ألفا حين يتعرّضون لخراطيم المياه من سيارة أنتجوها هم بأنفسهم يكون أقل لـُطفاً من شعورهم لدى مشاهدتهم هذه السيارة وخراطيمها تعمل ضد معارضي النظام في سانتياغو، عاصمة تشيلي. لكنّ إنكار التاريخ ليس هو الطريق السليم.

أولاً، رجال الصناعات الأمنية يتعاونون مع النظام العسكري في الضفة الغربية، في تطوير الأسلحة ووسائل الرصد والتعقُّب، وهم يعلمون جيداً أن هذه القدرات تُستخدَم لقمع السكان المدنيين، لابتزاز الأبرياء وللاغتيالات من دون محاكَمات. وثانياً، لا أساس من الصحة للادعاء بأنّ رجال الصناعات الأمنية كانوا يستطيعون أن يأملوا، حتى الآن، أن تُباع الأسلحة لدول تحفظ حقوق الإنسان فقط. من يؤمن بهذا حقاً، لديّ دكتاتور متنوِّر لأسوّقه له.

من الصعب العثور على دكتاتور في العالم لم تقم دولة إسرائيل ـ في ظل حكومات اليمين واليسار ـ بتسليحه. كلما قتَل أكثر، أصبح من الصعب عليه أكثر الحصول على سلاح من دول العالم وأبقى على إسرائيل المزوِّدة الوحيدة، في الغرب على الأقل. لديّ اشتباه بأنّه من بين منظومات الرصد والتعقّب التي تم تطويرها هنا، ثمة واحدة تستطيع الكشف المسبق عن الدكتاتوريين الطغاة في مراحل نشوئهم وتطورهم وتعدّ لهم إعلانات دعائية دقيقة. وإلاّ، لكان من الصعب تفسير المثابرة على شراء السلاح من قِبل قادة من هذا الطراز. القائمة طويلة: خورخيه رافائيل فيديلا في الأرجنتين، مانويل نورييغا في بنما، أوغوستو بينوشيه في تشيلي، فلاديمير بوتين في روسيا، إفراين ريوس مونت في غواتيمالا، تيودورو أوبيانغ في غينيا الاستوائية، بول بيا في الكاميرون، راتكو ملاديتش في صربيا وحتى مين أونغ هلاينغ في ميانمار.

ربما كان بروفيسور هراري لا يعلم أن إسرائيل قد باعت الأسلحة بالفعل للعديد من الأنظمة الدكتاتورية، أو ربما كان يفتقر إلى فهم الدكتاتوريات. إنه عدم فهم مشابه، تماماً تقريباً، لعدم الفهم لدى أوساط اليمين، ابتداء من رئيس الحكومة وحتى آخر المغرّدين على تويتر، الذين يدّعون بأنّ رفض أفراد سلاح الجو التطوع للخدمة هو بمثابة انقلاب عسكري (يبدو أنه الانقلاب الأول في التاريخ الذي يلقي فيه العسكريون أسلحتهم). لإنعاش الذاكرة، تجدر العودة إلى يوم 24 مارس 1976. في ذلك اليوم، وقع انقلاب عسكري في الأرجنتين، استلمت السلطة على أثره الطغمة العسكرية التي "أخفَت" (أي، خطفت وقتلت، دون تحمّل أية مسؤولية) نحو 30 ألف أرجنتيني اشتُبِه بمشاركتهم في أنشطة يسارية. اختفت حقوق المواطن أيضاً وبدأ صيد النشطاء. بين "المفقودين" كان نحو 2,000 يهودي، يشكلون نسبة تعادل عشرة أضعاف نسبتهم من بين السكان. كثيرون من هؤلاء "المفقودين" تمّ تربيطهم ورميهم من الطائرات ـ نموذج معبر عن الصورة التي يبدو عليها الانقلاب العسكري حقاً، خلافاً للطريقة التي يحاولون بها تصوير ضباط سلاح الجو الذين يرفضون الطيران في هذه الأيام بالذات.

لقد قام الجيش الإسرائيلي والصناعات الأمنية الإسرائيلية بتسليح وتدريب نظام مجرم ولا ساميّ، مع معرفتهما التامة بأنه كذلك. ثمة وثائق أرشيفية تظهر فيها تصريحات وزير الخارجية الأرجنتيني ـ الذي أنهى حياته في السجن ـ وهو يعبّر عن تقديره لصفقات الأسلحة بين الصناعات العسكرية والصناعات الجوية وبين الطغمة العسكرية في بلاده وينوّه، أيضاً، إلى أنه حتى لو انتهى حظر الأسلحة على النظام الدكتاتوري، فسوف تفضّل الأرجنتين شراء السلاح من إسرائيل التي، خلافاً لدول مُصدِّرة أخرى، لا تضع أية شروط. وفي وثيقة أخرى موجَّهة إلى إلياكيم روبنشطاين، إبّان إشغاله منصب المستشار القضائي لوزارة الخارجية، ورد أنه قد تم استخدام بيع طائرات لجنرالات للضغط عليهم لكي يدعموا الاحتلال الإسرائيلي، في هيئات الأمم المتحدة.

طريقة العمل هذه، "دبلوماسية العوزي"، متأصلة كخيط ناظم في مجمل سياسات تصدير الأسلحة الإسرائيلية، كل الوقت حتى اليوم. من الأرجنتين يمكن الانتقال إلى جبال الأنديز والوصول إلى تشيلي. في 11 سبتمبر 1973، عزل الجنرال أوغوستو بينوشيه الحكومة المنتخَبة برئاسة سلفادور أليندي. في اليوم التالي مباشرة، بدأت حمة تطهير لكل مَن اشتُبه بأنّ لها ميولاً يسارية أو شيوعية في الدولة عموماً وفي المدارس والجامعات خصوصاً، وهي الحملة التي استمرت حتى العام 1990. خلال السنوات الأولى التي تلت الانقلاب العسكري، قتلت الشرطة العسكرية (DINA) نحو 3,200 إنسان فيما "اختفى" كثيرون آخرون. أكثر من 35 ألف إنسان تعرضوا للتعذيب.

الوثيقة التي أعدّتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في شباط 1988، والتي أُسقِط تصنيفها مؤخراً، تورد تفاصيل صفقات الأسلحة بين إسرائيل وتشيلي. إلى جانب سيارات خراطيم المياه من كيبوتس بيت ألفا، والتي استُخدِمت لـ "صبغ" المتظاهرين، ثم قتلِهم، شملت تلك الصفقات، من ضمن أشياء أخرى، صواريخ أرض ـ أرض، أنظمة رادار، صواريخ جو ـ جو، صواريخ أرض ـ جو، بنادق "جليل" و"عوزي" ودبابات. وقد كتب السفير الإسرائيلي دافيد إفراتي أن تزويد الشرطة التشيلية ببنادق "عوزي" هو بمثابة سرّ ذائع، تماماً مثل تواجد مندوبي الصناعات العسكرية في تشيلي، حيث يعملون بأساليب "غير نظيفة". وأشار إلى أنّ ثمة تفضيلاً للأسلحة الثقيلة، إذ أن بنادق "عوزي" تكون بارزة جداً في أيدي مسلحي بينوشيه في الشوارع، مما يولّد انطباعاً غير جيد. وتنوّه الوثيقة ذاتها، مرة أخرى، بحقيقة أن إسرائيل، خلافاً لدول أخرى، لا تضع شروطاً أو مطالب تتعلق بحقوق الإنسان.

شهدت مبيعات الأسلحة ازدهاراً في غواتيمالا أيضاً، في ثمانينات القرن الماضي، في السنوات التي قُتل خلالها ما يزيد عن 200 ألف من السكان الأصلانيين الذين اشتُبه بنشاطهم اليساري. وقد شملت الصادرات الإسرائيلية بناء مصانع أسلحة، تزويد أنظمة رصد وتعقُّب، دعم ضباط من "الموساد" وبيع راجمات تم استخدامها في قصف قرى السكان الأصليين. الصناعات الأمنية الإسرائيلية كانت صديقة حقيقية للدكتاتور إفراين ريوس مونت.

عملياً، أية نقطة نضع عليها إصبعاً على خارطة العالم، في الأماكن التي حصلت فيها انقلابات عسكرية أو ارتُكبت فيها جرائم إبادة شعب، كانت الأسلحة الإسرائيلية متورطة. نوع الأسلحة فقط هو الذي تغير ـ فقد كانت، ذات مرة، بنادق "عوزي" وراجمات، أنظمة رصد وتعقُّب بسيطة وتدريبات أشرف عليها ضباط الجيش الإسرائيلي لوحدات الاغتيال والتصفيات أو لفرق الحرس الخاصة بالحكام الطغاة. أما اليوم، فهي مركبات جوية، طائرات من دون طيارين، بينما تعمل شركة "رفائيل" على تطوير نظام ذكاء اصطناعي لجمع الأهداف العملانية بغية تجريمها. هذه المنظومات، معاً، تأتي لتحل، إلى حد كبير، مكان الطيارين وقد أصبحت قيد الاستخدام العملاني. هذه الخوارزميات لن ترفض أوامر مشغّليها وفي الانقلاب القادم لن يكون هنالك من يُسمِع صوتاً.

يكفي أن نقرأ تعقيب رئيس الحكومة نتنياهو ووزير المالية سموتريتش على تحذيرات شركة تدريج الاعتمادات من هذا الأسبوع، إذ قالا إن "الشركات الأمنية تتعرض لقصف بالطلبيات". وهذا يجسد مدى اعتماد دولة إسرائيل على هذه الشركات ومدى أهمية وأثر رفض العاملين في هذه الشركات التعاون مع الانقلاب على الحكم.

في هذه الأيام، يُعرض في صالات السينما فيلم "أوبنهايمر" الذي يروي قصة حياة اليهودي المسؤول، أكثر من أي شخص آخر، عن القنابل النووية التي جرى تطويرها وتصنيعها في لوس ألاموس وألقِيت لاحقاً على هيروشيما وناغاساكي. فبعد أن أدرك حجم مسؤوليته، قبل إلقاء القنابل حتى، رفض روبرت أوبنهايمر المشاركة في تطوير القنبلة الهيدروجينية وأطلق حملة ضد استخدام هذا السلاح. وجرّاء "يساريته" هذه، تعرض للملاحقة. نحن لسنا في حاجة إلى أشخاص ينكرون الواقع ويخجلون بليبراليتهم. نحن في حاجة إلى أشخاص يعترفون بالجرائم التي كانوا شركاء في تنفيذها ويدركون أن إسرائيل تتقدم بخطى سريعة، حتى بدون الانقلاب على الحكم، نحو الثيوقراطية والأبرتهايد، إن لم يكن ما هو أسوأ من ذلك. ولأنهم يدركون حجم مسؤوليتهم، سيكونون مصمِّمين على الإصلاح.
--------------------------------
يقلم: سبستيان بن دانيئيل
(_نقلا عن ها آرتس بالعربي)