24 - 07 - 2024

جاء فى مستوى الطالب الضعيف

جاء فى مستوى الطالب الضعيف

...............

إنه خريف عام ٢٠٢١ ، وأنا بطبعى لا أحب هذا الفصل الضبابى بكافة تفاصيله ، إلا أننى الآن قد تجاوزت مرحلة أن أحب او لا أحب ، أصبحت ألتمس الراحة و الهدوء حيث كان،  خاصة بعد إنتهاء مغامرات فصل الصيف وتنقلاته التى لا تنتهى حتى الممتع منها .

ولكن انًى لى أن أرتاح وفى إنتظارى أعمال كثيرة قد أجلتها بسبب كثرة مشاغلى وغيابى عن المنزل بالإضافة إلى عدة مشاوير لعدد من الأطباء.

حسنا سأبدأ بطبيب الأسنان _ هكذا قررت_ وبالفعل ذهبت إليه وفى رحلة العودة حدث مالا تُحمد عقباه.

لقد تعرضت لحادث بسيط أدى إلى أن أضع قدمى فى الجبس لمدة شهر كما أمرني الطبيب .

كانت هذه الفترة من أمتع ماحدث لى ربما منذ سنوات ، فقد فُرِضت علىْ راحة إجبارية لم أشعر خلالها بثمة تأنيب ضمير كعادتى ، وكأننى فى امور حياتى الدنيوية قد رُفِع عنى القلم.

تفرغت لمهاتفة الأصدقاء والأقارب الذين شغلتنى عنهم متاعب الحياة وإستقبالهم ومداعباتهم  ، والتواصل مع أصدقائى على منصات التواصل الإجتماعى وقراءة الروايات التى حُرِمت من الإستمتاع بها منذ زمن ليس بقصير والتلفاز الذى كنت نسيت كيفية تشغيله ، فقد اعتزلته منذ سنوات.

ولكن الأهم من كل ذلك أننى تفرغت لملاحظة عينىْ، فقد لاحظت فى الآونة الأخيرة أن هناك تغيرََا ما فى شكل إحداهما ولكنى لم أعر ذلك اهتماما يُذكر.

كنت قد دُرت منذ سنوات بعيدة على عيادات الأطباء أشكو من نوبات تشوش فى الرؤية ، ولكن كان أكثرهم كرمََا يكتفى بكتابة بعض الفيتامينات، أما معظمهم فقد كان يسخر منى أو يحيلنى إلى طبيب نفسى.

الآن اختلف الوضع وأصبح الأمر ملموسََا وان لم يلحظه أحد غيرى بمن فيهم زوجى ، وكنت قد اتخذت عهدََا على نفسى ألا أتحدث فى موضوع نظرى هذا لمخلوق مرة أخرى.

حاولت كثيرََا خلال تلك الفترة أن أتوصل إلى ما جد على عينى دون جدوى ولكن مع كثرة المحاولات وقبل اسبوع من موعد فك الجبس ، هدانى الله أن أغمض عينىْ وأتحسس جفنىْ ، فإذا بى أجد أن أحدهما متحجر بشكل مخيف.

لم أعد إلى طبيب العظام ، لقد ذهبت إلى إحدى المستشفيات وفككت الجبس من تلقاء نفسى، ثم توجهت رأسا إلى طبيب العيون الذى بدا على وجهه القلق وطلب منى إجراء أشعة على عينى وأكد علىْ ألا أتأخر.

من هنا بدأت الرحلة وكأن الله قد ابتلانى فى قدمى لأكتشف ذلك الخلل فى اللحظات الأخيرة قبل تفاقمه.

جاء الرد بعد مشاوير طويلة من الفحوصات،  ورم يرقد بين مقلة العين وتجويف المخ حيث كان السبب فى تشوش الرؤية التى صاحبتنى منذ سنوات قد تعبت من عدِها.

كانت ردود أفعال الأطباء صادمة . وكلما خرجت من عيادة أحدهم وتذكرت حواره معى بكيت كثيرََا ، وأُصبت فى تلك الرحلة بكل الأمراض المصاحبة للتوتر العصبى لدرجة أننى تعرضت للإغماء قبل أن أغادر عيادة أحدهم .

ولكن ذات مرة وأنا أستعرض كل تلك الأحداث فى ذهنى وجدت نفسى فجأة أردُد بصوتِِ عالِِ : الله أكبر .... وكأنى اسمعها لأول مرة فى حياتى ، نعم .... الله اكبر منى ومنهم ومن المرض الذى بالمناسبة أتحفظ على أن يُطلق عليه (المرض اللعين) فقد كنت أراه رحمة من الله ليقربنى إليه أكثر من كونه محنة وكيف لا وهو عليه هين !

وبالرغم من الحيرة فى إختيار الجَراح المناسب ، هل هو جَراح عيون أم جَراح مخ وأعصاب؟

فالورم يرقد بين العين والمخ - كما سبق وذكرت - وبالرغم من إختلاف الآراء حول طبيعة المرض إلا أنهم أجمعوا على ضرورة إجراء جراحة على وجه السرعة لإستئصال الورم قبل يتفاقم الأمر ، خاصة بعد أن أصبح قريبا جدا من العصب البصرى مما يهدد بفقد بصرى.

فى تلك الفترة كنا قد قمنا بزيارة وإستشارة عشرات الأطباء ، وأخيرا رشح لنا طبيبى المعالج جراحا كبيرََا فى هذا المجال .

حين إستقرت السيارة أمام المستشفى الذى يعمل به ذلك الطبيب تفاءلت كثيرا ، لقد كان - المستشفى - يشغل فيلا نادرة فى منطقة المعادى السرايات ، إنه المكان الأحب إلى قلبى حيث قضيت فيه جزءََا طويلا من طفولتى وشبابى قبل أن تتغير معالمه وتتحول (سراياته) الى عمارات أسمنتية قبيحة .

إلا أن ذلك لم يكن الأمر الوحيد الذى دعانى للتفاؤل ، فقد تذكرت فجأة أننى قد جئت إلى تلك المستشفى منذ سنوات لأتوسط لسيدة رقيقة الحال كى تجرى جراحة عاجلة ونجحت فى ذلك بفضل الله ، فلِمَ القلق إذن؟ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان!

ولكنى خرجت من المستشفى منهارة بعد أن أخبرني ذلك الطبيب ، أننى قد أفقد بصرى أثناء إجراء الجراحة .

كان يوما من أصعب الأيام التى مرت علىْ وحاول زوجى عبثََا أن يخفف عنى أو يدعوني لتناول الغذاء بالخارج ولكنى أصررت على العودة الى البيت والإختلاء بنفسى .

لم أستطع يومها البكاء، لقد  تجمدت مشاعرى تمامََا، بينما ارتفع ضغطي وضربات قلبى بشكل غير مسبوق، ومع ذلك أصر طبيبى المعالج على أن استمر معه وأُجرى العملية على يديه.

كانت العملية كلما قررنا إجراءها تتأجل لسبب ما، بينما لا أكف عن آداء صلاة الحاجة والإستخارة واسأل الله أن يثبتنى على تشبثى بِبابِه ولا يجعلنى من الذين إذا إستجاب لهم مروا كأن لم يدعوه إلى ضرِِ مسهم.

كان الموعد كلما تأجل كلما تأججت النيران في اعصابي  ، فقد كنت أريد الخلاص بآية وسيلة ، كنت أحيانا أتمنى إجراء العملية فقط لأخضع للتخدير ، أريد أن أرتاح ولو قليلََا من هذا الهَم حتى لو قُدِر لى أن أموت بعد ذلك.

ولكن مع مرور الوقت بدأت أهدأ قليلا ، وكان كلما تأجل الموعد تيقنت أن الله هو من سيجرى لى الجراحة وليس الأطباء،  كان ذلك الشعور يطمئننى كثيرا.

وأخيرا تحدد الموعد النهائى لإجراء الجراحة، وها أنا ادخل غرفة العمليات ولا أعلم هل سيشقوا جمجمتى كما قال البعض أم سيخرجوا عينى من مقلتها ....... الخ ؟

كنت لا اسأل ولا أريد أن أعرف شيئا ، الله هو من سيجرى لى العملية ، أنا على يقين .

كان آخر شئ أتذكره فى هذه اللحظة أن الطبيب الجراح دخل علىْ بعد أن خضعت للتخدير ، نظرت إليه بتوسل قائلة: لو سمحت يا دكتور .... ثم غبت عن الوعى.

كنت أريد أن أقول له لو كانت المجازفة للحفاظ على عينى ثمنها حياتى فافعل وانا راضية كل الرضا.

خرجت من غرفة العمليات وما أن أفقت حتى تحسست عينى فوجدت ضمادة قد وُضعت فوقها، وقبل أن أسأل طمأننى أهلى وأصدقائي _الذين أصروا على مرافقتى _ والسعادة تعلو وجوههم ، فشعرت بالأمان وأن الله قد إستجاب لى ولهم وحفظ لى نور عينى والحمد لله.

وبالرغم من أن قلبى لا يتحمل رؤية ولو نقطة من الدماء ، إلا أننى طلبت من زوجى بإصرار أن أرى ذلك الورم ، أردت أن أشاهد ذلك الزائر الذى سكننى وأقض مضجعى ، إلا أن زوجى أخبرني أنهم بالكاد إستطاعوا أن يلملموه ليخضع للتحليل المعملى !!

فكم نحن ضعفاء وفقراء إلى الله رغم كل ما أنزله إلينا من خير !!

مرت الأيام ودخلت المستشفى (الفيلا) مرة أخرى لأنزع الضمادة وأفك غرز الخياطة التى تحيط بعينى ، وللمرة الأولى فى حياتي أدرك لم سيُطلع اللهُ المؤمنين على النار قبل دخولهم الجنة؟

كان إحساسى بالمكان قد اختلف كليََا عن ذلك اليوم الذى خرجت منه تائهة حزينة بعد مقابلة الطبيب واليوم الذى دخلت فيه خائفة متوجسة كى أخضع للجراحة .

أجلس الآن فى حديقة (الفيلا) وأنا أتناول قهوتى فى سلام  وأداعب قططا وديعة تملأ المكان مرحََا، وأُمَلى عينىْ التى كنت على وشك أن أفقد إحداهما بالشجر الأخضر الذى يناطح سقف الفيلا.

لم أر كل ذلك فى المرتين السابقتين ، إحساس لا يشعر به إلا من كاد أن يسقط فى هاوية ثم نجا وهو على الحافة.

ولكن يبدو  أن الرحلة لم تنته بعد،  فقد عدت إلى الطبيب المعالج ، الذى أخبرنى بضرورة الخضوع للعلاج الإشعاعي حتى لا يَرتد الورم مرة أخرى.

وهنا بدأ إختبار آخر ، لقد نجمت رحلة العلاج عن كثير .. كثير من الآلام ، ما بين إنهاك مُضنى و نزيف من الأنف وآلام فى الفك وإلتهاب شديد فى عينىً الإثنتين ..... الخ .

كانت دموع عينىْ لا تتوقف تلقائيََا بسبب ذلك الإلتهاب ، وحالتى النفسية فى تلك الفترة صعبة للغاية ومزاجى غاية فى السوء من أثر العلاج ، أستطيع أن أُجزم بأننى لم أتعرض لأى قَدْر من هذا التعب بالمرة بعد إجراء العملية!

هلً علينا الشهر الكريم فى تلك الفترة وإذا بالتلفاز يمطرنا  بإعلانات التبرع للمستشفيات الخيرية كالعادة.

أحيانا تقتلنا كلمة ربما لو سمعناها فى موقف آخر لتَغَنينا بها ضاحكين ، كان هناك إعلانا عن إحدى مستشفيات الأطفال والذى كان يؤديه الفنان أحمد سعد ، فيغنى لصغيره وهو يودعه قبل أن يتركه فى المستشفى : صاحبى ياجدع يابطل .. عارفك من يومك وأنت جبل .. بكرة ماتعود من تانى حروب ... وأرجع وأشيلك بالشقلوب ،  ليرد الطفل فى براءة : طب بكرة بعيد ؟... لأ شكله بعيد ، ليرد الأب : لا لا ... دا هوا

أقسم أننى أبكى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات .

كانت دموع الشجن تهطل من عينىْ لتمتزج بالدموع الناتجة عن الإلتهاب فيزداد الأمر سوءََا.

أكتب الآن بعد أن مر حوالى عامين على تلك التجربة ومازلت أتعافى بفضل الله .

كنت أظن أننى مررت بإمتحان صعب ولكن خلال تلك الفترة إلتقيت وسمعت بالعشرات ممن إبتلاهم الله بإمتحانات أصعب بكثير من الإمتحان الذى مررت به لأتيقن كم لطف الله بى إذ جاء الإمتحان فى مستوى الطالب الضعيف ، وأنا كلى رجاء أن يكون إسمى قد كُتِب فى قوائم الناجحين .
--------------------------------
بقلم: أماني قاسم

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف