30 - 06 - 2024

رسالة دكتوراه: لافرص لفيدرالية ولا حكم ذاتي لأكراد سوريا

رسالة دكتوراه: لافرص لفيدرالية ولا حكم ذاتي لأكراد سوريا

د.أحمد عبد العليم : رفض الأسد وتأثيرات إيران وتركيا وروسيا وأمريكا تقلص فرصهم السياسية
- مناطق سيطرة أكراد سوريا كيانات تمتلك خصائص الدولة باستثناء الاعتراف الدولي
تطبيع تركيا وسوريا بدعمٍ من إيران وروسيا يضع الأكراد بين مطرقة النظام السوري وسندان القوة العسكرية التركية الغاشمة

كيف شكَّلت العوامل الخارجية تأثيرًا على مساعي أكراد سوريا نحو تحقيق الحكم الذاتي خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2022؟.. هذا التساؤل كان محور الدراسة التي حصل بها الباحث د.أحمد عبد العليم أخيرا على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية وعنونها "أثر العوامل الخارجية على مشروع الحكم الذاتي لأكراد سوريا منذ عام 2011".

رأى عبد العليم في دراسته أن تأثير العوامل الخارجية على الأكراد في سوريا لم يكن أمرًا مستحدثًا على مدار الفترة من عام 2011 حتى عام 2022، ولكنه ارتبط بإرث تاريخي ممتد؛ حيث اتسمت المعضلة الكردية خلال النصف الأول من القرن العشرين بأنها عبر وطنية، خاصةً في ظل سيولة الحدود وهجرة الأكراد من بعض دول الجوار إلى سوريا، وقد كان الطموح الكردي نحو تدشين كيان موحَّد لهم في الداخل السوري سابقًا حتى على ظهور الدولة السورية الحديثة.

وقال "تعدَّدت تأثيرات العوامل الخارجية على مشروع الحكم الذاتي للأكراد في سوريا خلال فترة الدراسة، وتباينت مستويات ذلك التأثير ما بين تأثيرات إقليمية ودولية، وكذلك اتجاهات التأثير ما بين سلبية وإيجابية، وقد ثبتت فرضية الدراسة الرئيسة والمتعلقة بوجود علاقة طردية محتملة بين تصاعد حدة الانخراط الخارجي بأشكاله المختلفة تجاه أكراد سوريا، وتعثُّر مساعي الأكراد نحو تطبيق مشروع الحكم الذاتي الخاص بهم على الأراضي السورية.

وأكد عبد العليم أن هيكل الفرص السياسية للأكراد تأثر بشكل واضح بالسياقات الخارجية؛ إذ سعوا إلى توظيف الخارج بصورة كبيرة من أجل فرض رؤيتهم ومشروعهم على مدار الفترة من عام 2011 حتى عام 2022، ومع ذلك فقد كانت الارتدادات السلبية للعوامل الخارجية أكبر من الارتدادات الإيجابية، ولم يكن هيكل الفرص واحدًا أو ثابتًا بالنسبة للأكراد على مدار فترة الدراسة في ظل تأثيرات البيئتين الإقليمية والدولية.

وأوضح أن نظرية المساومة الإثنية انطبقت على وضع أكراد سوريا؛ حيث مثَّل الأكراد نموذجًا لحالة الصراع؛ أي وجود أغلبية قمعية ودعم خارجي، وذلك على مدار الفترة من 2013 حتى 2019، فخلال هذه الفترة عزَّز الأكراد من مكاسبهم تدريجيًّا في ظل تراجع قوة النظام وتصاعد الدعم الخارجي؛ لاسيما الأمريكي في مواجهة تحجيم تنظيم داعش، وهو ما استغله الأكراد من أجل تعزيز جهودهم لترسيخ مشروع الحكم الذاتي في مناطق سيطرتهم شمال وشمال شرقيّ سوريا. ولكن مع تراجع الدور الأمريكي لاحقًا، في ظل تذبذب سياسة إدارة ترامب وتصاعد الدور التركي القائم على توظيف القوة الصلبة، تحوَّل الأكراد إلى نموذج حالة الضعف؛ أي وجود أغلبية قمعية وتراجع الدعم الخارجي، وهو ما جعل الأكراد في موقف تفاوضي ضعيف، وبما سمح للنظام بالعودة إلى بعض المناطق التي كان قد سيطر عليها الأكراد بدعم من جانب بعض القوى الخارجية؛ إذ بات لدى الأكراد قدرة أقل على المساومة؛ سواء في مواجهة النظام السوري، أو حتى في مواجهة القوى الإقليمية والدولية.

وكشف من خلال استعراض الدراسة للخلفية التاريخية للأكراد في سوريا وتفاعلاتهم مع النظام السوري سواء قبل أو بعد عام 2011، وتوضيح المواقف الإقليمية والدولية البارزة على مدار فترة الدراسة، أنه تم التوصل إلى بعض النتائج، ومنها ما يتعلق بنجاح الأكراد في تحويل مشروعهم، من مجرد مشروع حزبي يُعبِّر عن حزب الاتحاد الديمقراطي وأفكار أوجلان فقط، إلى مشروع أكثر تعبيرًا عن غالبية الأكراد في شمال وشمال شرقيّ سوريا خلال فترة الدراسة؛ خاصةً في ظل ما توافر لهم من سيطرة لم تكن مُتخيلة على مساحة كبيرة من الأراضي وتعزيز القوة العسكرية للأكراد بشريًّا وتسليحيًّا، إلى جانب إدارة سياسة خارجية نشطة وأكثر مرونة؛ لاسيما عقب مشاركة الأكراد بفاعلية في هزيمة تنظيم داعش.

عوامل ضعف وانحسار

أضاف عبد العليم  أن "هذا المشروع برغم ما أُتيحت له من هياكل فرص غير مسبوقة، حمل بين طيَّاته عوامل ضعفه وانحساره، وذلك وفق عدة مستويات رئيسية؛ ومنها عدم وجود اتصال جغرافي بين بعض مناطق الحكم الذاتي للأكراد في سوريا، علاوةً على وجود مكوِّنات عربية ذات كثافة أكبر من الأكراد في بعض مناطق شمال وشمال شرقيّ سوريا، وبما عزَّز من التوترات العربية الكردية في هذه المناطق، ناهيك عن استمرار الخلاف الكردي ـ الكردي، وهو خلاف شعبي ونخبوي، قد تعمَّق مع عدم وجود رؤية موحدة للتعبير عن تطلعات الأكراد ومستقبلهم في إطار الدولة السورية. وقد لعبت العوامل الخارجية الدور الأساسي؛ سواء في تعميق الخلاف الكردي- الكردي عبر استمرار التوزيع غير المتكافئ للنفوذ، أو حتى منع الاتصال الجغرافي بين مناطق الحكم الذاتي للأكراد، وهو ما تجلَّى بشكل واضح في التعاطي التركي مع المسألة الكردية في سوريا؛ إذ وظَّفت أنقرة كل أدوات القوة الناعمة والصلبة المتاحة لديها من أجل القضاء على مشروع الحكم الذاتي، ونجحت بشكل كبير في ذلك عبر تقليل مساحة الأراضي التي سيطر عليها الأكراد، علاوةً على قيامها بإبعاد بعض القوى الدولية عن تقديم دعم واضح للأكراد سياسيًّا وعسكريًّا، مثلما حدث خلال فترة الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب، فيما فرضت أنقرة على روسيا التنسيق بشكل أكبر معها، وهو ما شكَّل عامل ضغط إضافي على الأكراد.

ورأى الباحث أن موسكو لعبت دورًا في تحقيق التقارب بين النظام التركي والنظام السوري، وهو التطبيع الذي يخشى منه الأكراد بطبيعة الحال؛ كون ذلك يعني فقدان القادة الأكراد أوراق الضغط في مواجهة النظام للتفاوض حول مستقبل مناطق الحكم الذاتي التي لا تزال تقع تحت سيطرتهم، بيد أن السياقات الحالية، وفي ظل موجة التطبيع التركية مع بعض القوى الإقليمية الفاعلة، قد تنعكس سلبًا على نحو كبير على مستقبل الحكم الذاتي للأكراد. 

ورغم ذلك، فإن العوامل الخارجية لم تكن سلبية في المطلق؛ وإنما كان لها أبعاد إيجابية، فقد أتاحت فرصًا مهمة للأكراد في سوريا، وهو ما حدث من خلال توظيف الأكراد لملف مواجهة تنظيم داعش لتعزيز النفوذ السياسي والعسكري، وتوطيد العلاقات مع بعض القوى الدولية الفاعلة؛ لاسيما الولايات المتحدة وبعض القوى الأوروبية، كما أتاحت معارك الأكراد ضد داعش فرصة مهمة لتحسين الصورة الذهنية عن الأكراد على المستويين الإقليمي والدولي بوصفهم نجحوا في مواجهة التطرف والإرهاب. ومن جانب آخر، خلقت تلك المعارك فرصة مهمة لتعزيز تقارب أكراد سوريا مع الأكراد في المنطقة، وذلك من خلال انخراط أكراد من دول الجوار للمساعدة في الدفاع عن مناطق الحكم الذاتي في مواجهة بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول.

ولفت عبد العليم إلى أن الدعم الذي قدَّمه أكراد العراق خلال فترة الدراسة، كان أبرز نماذج الدعم الكردي الإقليمي المُقدَّم للأكراد في سوريا، حيث لعب قادة كردستان أدوارًا مختلفة في محاولة تقريب وجهات النظر بين الأكراد في سوريا، ومحاولة حلِّ الخلاف المتفاقم بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، ومن جانب آخر، دعمَ قادة كردستان العراق أكراد سوريا عبر إرسال عدد من مقاتلي البشمركة، وكذلك الأسلحة لمساعدة أكراد سوريا في الدفاع عن أنفسهم، كما لعبوا دورًا مهمًّا على المستوى السياسي عبر تحركات بارزاني الخارجية من أجل الحصول على دعم أكبر للأكراد في سوريا.ومع ذلك، فقد كان لتطلعات الأكراد في العراق ارتدادات بالغة السوء على الأكراد في سوريا؛ خاصةً مع التوجُّه نحو الاستفتاء على الانفصال عن الدولة العراقية في سبتمبر عام 2017؛ إذ أتاح ذلك فرصة للنظام السوري، وكذلك للنظامين التركي والإيراني، للتأكيد على أن المشروعات الكردية في المنطقة، بما في ذلك في سوريا بطبيعة الحال، هي مشروعات انفصالية، وبما أضرَّ بأكراد سوريا بشكل كبير، وحفّز الدورين التركي والإيراني ليكونا أكثر رفضًا لأي وضع خاص للأكراد في الداخل السوري.

ولاحظ الباحث أن أنقرة قد عززت من عملياتها العسكرية ضد الأكراد عقب ذلك الاستفتاء؛ فقد نفَّذت عملية "غصن الزيتون" في الربع الأول من عام 2018، ثم عملية "نبع السلام" في الربع الأخير من عام 2019، وهي العملية التي قلَّصت مساحة سيطرة الأكراد في سوريا، وخلقت خريطة نفوذ جديدة شرق الفرات بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا، فاتجه الأكراد إلى روسيا لمحاولة إيقاف التقدم العسكري التركي، وهو ما لم يحدث، لكن تَصاعدَ التنسيق بين أنقرة وموسكو، وهو التنسيق الذي تزايد عقب اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، وبما تزامن مع تهديد النظام التركي بشنّ عمليات عسكرية جديدة ضد الأكراد في ظل تنفيذ علميات نوعية شملت استهداف قادة ومقاتلي الأكراد داخل سوريا وخارجها.

الانخراط التركي يدفع الحكم الذاتي للانحسار

شدد عبد العليم على أن هناك علاقة طردية بين تزايد الانخراط التركي وانحسار مشروع الحكم الذاتي للأكراد في سوريا، وكذلك ثبت أن ثمة علاقة طردية بين تراجع المشروع الكردي للانفصال في العراق وتراجع مشروع الحكم الذاتي للأكراد في سوريا. وبناءً على ما سبق، ومن خلال تقييم ديناميات التفاعلات الإقليمية والدولية الحالية، فإن تطلُّع الأكراد لتطبيق مشروعهم للحكم الذاتي يظل أمرًا مُستبعدًا؛ لاسيما وأن العوامل الخارجية السلبية أكثر من تلك الإيجابية، بل وإن هذه العوامل قادرة على تشكيل موقف النظام السوري بشكلٍ كبير تجاه الأكراد، كما سيظل التوجُّه الانفصالي لأكراد العراق عاملًا مؤثرًا، بالمعنى السلبي، على مستقبل وضع أكراد سوريا. ويظلّ العامل الخارجي عاملًا مؤثرًا في مدى تحقق الحكم الذاتي أو حتى نجاحه، وذلك بوصفه عامل ضاغط على السلطة المركزية من أجل ضمان تنفيذ التفاهمات القائمة حول الحكم الذاتي، كذلك لا يتمتع وضع أكراد سوريا حاليًا بما يُطلق عليه "الحماية الدستورية"؛ المحدد المهم لنجاح الحكم الذاتي، والمتعلق بوجود وضع خاص للأكراد في الدستور السوري.

وأشار إلى أنه يمكن توصيف وضع الأكراد في سوريا حاليًا بشكل منهجي، على أنه "دولة أمر واقع"، وذلك في ظل تطابق محددات مفهوم "دولة الأمر الواقع" مع وضع أكراد سوريا في الوقت الحالي. إذ يتمتع الأكراد بسيطرة فعلية على مساحة من الأراضي داخل الدولة السورية تُقدَّر بنحو 40 ألف كم2 حتى ديسمبر 2022 (ضِعف مساحة إسرائيل تقريبًا، وثلاثة أضعاف مساحتيّ البحرين وقطر مجتمعتين، وأربعة أضعاف مساحة لبنان)، وقد قام الأكراد ببناء مؤسسات محلية وتقديم الخدمات للسكان المحليين، وحتى منازعة الدولة في احتكارها للعنف عبر وجود قوات مسلحة غير نظامية خارج سيطرة جيش الدولة، كما قاموا بافتتاح ممثليات لهم في بعض الدول، وهي بمثابة سفارات، من أجل الترويج للمشروع الكردي. وينطبق على الأكراد محدد التطلعات الاستقلالية؛ إذ ينادون بوضع أكثر استقلالية داخل الدولة دون أن يصل ذلك إلى حدِّ المطالبة بالانفصال، وبرغم النفوذ المحلي الهائل للأكراد في مناطق سيطرتهم وافتتاح ممثليات لهم في الخارج، إلا أنهم لم يحصلوا على الاعتراف الدولي مع استمرار سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي على مدار فترة طويلة تمتد إلى نحو عقد، ومن ثَمَّ يمكن وصف مناطق سيطرة أكراد سوريا بأنها كيانات تمتلك خصائص الدولة باستثناء الاعتراف الدولي. خاصة في ظل ارتباك السياسات الأمريكية، ورفض الإدارات الديمقراطية والجمهورية الاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد، والموقف ذاته ينطبق على روسيا التي باتت أكثر تنسيقًا مع تركيا، وحتى مع إيران خلال السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالملف السوري. ولا شك أن أنقرة وطهران هما الأكثر رفضًا لأي وضع خاص للأكراد في سوريا؛ لاسيما في ضوء التخوُّف من تطلعات كردية مماثلة داخل حدود الدولتين.

وأوضح عبد العليم "هنا تظهر إشكالية متعلقة بوضع قوات قسد، أو وحدات حماية الشعب، في ظل رفض القادة الأكراد إدماج القوات الكردية ضمن الجيش الوطني السوري دون التوافق حول مستقبل الحكم الذاتي ككل، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية تطبيع النظامين التركي والسوري بدعمٍ من إيران وروسيا.وهو سيناريو يضع الأكراد بين مطرقة النظام السوري وسندان القوة العسكرية التركية الغاشمة، في إطار مجموعة من العوامل الخارجية السلبية ضد الأكراد؛ خاصةً إذا ما توصلت دمشق وأنقرة لحلول وسط فيما بينهما، كأن يتم توسيع اتفاقية أضنة – على سبيل المثال - لتمنح الحق لتركيا في التدخل لمسافة تصل إلى 30 كيلو مترًا، بدلًا من خمسة كيلو مترات كما هو مُقرّ بالاتفاقية، وهي مسافة تجعل أنقرة أكثر أمنًا، وفق منظورها، من أيّ تطلعات كردية على الجانب السوري من الحدود.

ورأى أن الفيدرالية قد تُمثّل حلًّا مأمولًا للمسألة الكردية في الداخل السوري، على غرار النموذج العراقي، ولكن لن يحدث ذلك إلا بوجود إرادة إقليمية ودولية داعمة لذلك، وبما يمكن أن يُمثّل عامل ضغط على النظام السوري للقبول به، خاصةً مع تأكيد الأكراد في شمال وشمال شرقيّ سوريا بمختلف توجهاتهم السياسية على رفض الانفصال عن الدولة السورية، وضرورة ضمان وضع خاص لهم يُراعي مخاوفهم وتطلعاتهم المنشودة.

واستبعد عبد العليم قبول النظام السوري الحالي بقيادة الرئيس بشار الأسد تطبيق الأكراد مشروعهم للحكم الذاتي، أو الحل الفيدرالي، مع احتمالية تحقُّقه في حال حدث تغيير للنظام السوري في ظل توافر عوامل خارجية إيجابية تدعم تحوُّل الدولة السورية إلى دولة فيدرالية؛ خاصةً وأن النظام الحالي يتعامل مع أي طرح، سواء كان متعلقًا بالحكم الذاتي أو الفيدرالية باعتباره مُقدمة لتقسيم البلاد في المدَيَيْن المتوسط والطويل.
---------------------------------
تقرير - محمد الحمامصي 
من المشهد الأسبوعية











اعلان