23 - 07 - 2024

لماذا يضحك المصريون؟! .. وسيلة مقاومة ومحاولة لرد الظلم وردع الظالمين طوال التاريخ

 لماذا يضحك المصريون؟! .. وسيلة مقاومة ومحاولة لرد الظلم وردع الظالمين طوال التاريخ

لم يمر رحالة أو عالم اجتماع أو مستشرق على مصر أو مؤرخ من أبنائها إلا والتفت إلى خصيصة من أهم الخصائص التي تميز بها الشعب المصري على مر عصوره ألا وهي الضحك ومحبة الفكاهة، فيقول عنهم الشاعر اليوناني ثيوكريتوس الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد «إنهم شعب ماكر، لاذع القول روحه مرحة»، ورد عن ابن خلدون قوله في المقدمة «إن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح والخفة والغفلة عن العواقب»، ونقل عنه أيضًا أنه حين رأى المصريين قال «أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب»، وقال عنهم المقريزي «من أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب،..».

وتتعدد النظريات التي تحاول تفسير ظاهرة الضحك ويمكن تصنيف نظريات الضحك كما تناولها الفلاسفة إلى 3 فئات

  • نظريات التفوق والسيطرة:- وتنضوي تحتها نظريات كل من أفلاطون وهوبز، وبرجسون، مع وجود تميز خاص بكل منهما في نظريته عن الضحك.
  • نظريات التناقض في المعنى ومن أقطابها أرسطو وكانط وشوبنهور.
  • نظريات تمزج بين التفوق والتناقض في المعنى ومن أقطابها أفلاطون، وكيركجورد، وكذلك برجسون الذي له نظرية في الضحك أطلق عليها اسم نظرية«الآلية«.

كما قدم علماء النفس العديد من النظريات المتعلقة بالضحك، يقع أكثرها ضمن الفئتين الخاصتين بنظرية التناقض في المعنى أو السيطرة أو التفوق، فيربط «جميس سلي» عالم النفس بين الضحك واللعب فيما يعرف بنظرية «مزاج اللعب» الذي يشتمل على رفض النظر إلى المواقف الحياتية بطريقة جادة، فيما اعتبر سيجموند فرويد الضحك آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات، وربط إرنست كريس المحلل النفسي بين الضحك والشعور بالسيطرة.

  ومن خلال هذه النظريات للضحك يمكن تفسير سبب حب المصريين لكل ما هو مضحك ومرح، سواء مسرحيات أو أفلام كوميدية، أو الولع بالنكتة، والمحاكاة الساخرة، والكاريكاتير...إلخ. فمن منظور نفسي يعد الضحك وسيلة من وسائل المقاومة تسمح للإنسان بأن يواجه المواقف الصعبة والأزمات التي يمر بها ويسخر منها، كما قال العديد من علماء النفس مثل فرويد ومكدوجل، والشعب المصري عانى أغلب فترات تاريخه من الظلم سواء من الاحتلال أو الحكام، فلجأ إلى الضحك كوسيلة للمقاومة، للنكبات التي مر بها وتعلق الدكتورة نفوسة زكريا على  كتاب «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف» بأن المعاني التي طرقها المؤلف سطحية، وأن هدفه من أول الكتاب إلى آخره كان إثارة الضحك لأن الضحك في ذلك الوقت كان وسيلة الشعب للتنفيس عما يعانيه من ظلم الحكام واستبدادهم، ويرى عادل حمودة في كتابه «النكت السياسية» أن النكت التي أطلقها المصريون بعد النكسة كانت القرص المهدئ الذي أنقذ المصريين من الجنون والانتحار.

يقول برجسون «إن المجتمع ينتقم عن طريق الضحك للحريات التي أخذت منه» وليس هناك حرية أكبر من حرية الوطن، فبفقدانها يفقد المرء جميع الحريات الأخرى، فلا يجد المرء أمامه سوى سلاح الضحك، فيسخر من السلطة السياسية بالنكتة، أو بالتحايل، لذا فقد كانت الفكاهة والضحك والسخرية وسيلة المصريين على مر العصور  للتعبير عن تذمرهم ورفضهم للسلطة السياسية واعتراضهم عليها، دون أن يقع عليه أذى مباشر خاصة وأنهم عزل في وجه سلطات عسكرية تملك القوة والسلاح ولا طاقة لهم بالقوة المباشرة معهم، يتحينون الفرص والوقت المناسب لاسترداد حقوقهم المسلوبة، شعب يلجأ إلى الحيلة ليتجنب ويلات العنف، أكسبته الويلات التي مرت عليه حكمة فطرية متى تكون الكلمة أصدق أنباء من السيف والعكس.

فهناك الكثير من الجداريات التي تكشف عن الروح الفكاهية للمصريين القدماء، ولما قدم الاحتلال الفارسي واليوناني والروماني على مصر وجه المصريون سهام سخريتهم على الغزاة لينفس الشعب بهذه السخرية عن ألمه وكآبته بفكاهات مملوءة بالتهكم والهجوم اللاذع، ورغم تودد البطالسة للمصريين إلا أنهم لم يسلموا من سخريتهم، فأطلقوا على بطليموس الأول لقب الزمار، ولما تزوج بطليموس الثاني من أخته سلطوا عليه سهامهم الساخرة، وفي عهد الرومان لم يترك المصريون قيصرًا من قياصرتهم زار مصر إلا وكان له نصيب من السخرية، فأطلقوا على سبيل المثال على القصير فسبسيان اسم تاجر السردين وقالوا عنه لا يساوي ستة مليمات، ولقبوا قيصرًا آخر بلقب النسناس المدلل الصغير، تواصلت هذه الطريقة في إطلاق الأسماء الساخرة على الحكام الذين يبطشون بهم ويضيقون عليهم في معايشهم ويفرضون الضرائب والإتاوات عليهم.

ولم تتوقف هذه الروح الساخرة لدى المصريين مع دخول الإسلام، كما ينقل الدكتور شوقي ضيف في كتابه «الفكاهة في مصر» فهناك شخصية سيبويه المصري الذي عاش في عصر الدولة الإخشيدية الذي كان يدعي الحمق والجنون ينتقد فيه حكام الدولة والموظفين في تلك الفترة نقدًا فيها مرارة وخبث وفيه تنفيس عما يقع على الناس من ظلم في هذه العهود الإقطاعية الجائرة.

وفي العصر الأيوبي رغم الحروب الصليبية والقلاقل الداخلية التي تعاني منها مصر ازدهرت الفكاهة وروح الدعابة، فظهر أقدم الكتب الفكهة في تاريخنا الأدبي لأسعد بن مماتي «كتاب الفاشوش في حكم قراقوش» الذي حول صورة الحاكم إلى مسخة يتندر بها الناس في الشوارع، ويستهل هذا الكتاب بقوله «إني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش محزمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمة، ولا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدي لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته أن يرد على كلمته، ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكمًا ما أنزل الله به من سلطان صنفت هذه الكتاب...» ويورد فيه مجموعة من المواقف المضحكة التي ينسبها إلى قراقوش.

ولعل هذه الروح الفكهة للمصريين لم تتسع في عصر كما اتسعت في العصر المملوكي، فازدهرت النكتة والنوادر والشعر الفكاهي حيث تورد كتب الأدب الكثير من الأشعار التي سخر فيها المصريون من الحكام المماليك، فأينما وليت وجهك في صحف هذا العصر تجد الشعراء يضحكون معاصريهم على حكامهم وأمرائهم سخرية منهم، ومن هؤلاء الأمراء الذين نالتهم السخرية يدعى طشتمر أطلق عليه العامة اسم «حمص أخضر»، ومن الكتب الفكهة التي ظهرت في هذا العصر كتاب بن سودون «نزهة النفوس ومضحك العبوس»، وفي العصر العثماني ظهر كتاب «هز القحوف في شرح قصيدة بن شادوف» ليوسف الشربيني الذي يصور فيه حالة البؤس والفقر والظلم الواقع المصريين في هذا العصر.

ومع قدوم الصحافة ظهرت العديد من الصحف المتخصصة في الفكاهة والتي كانت لها أسباب سياسية أيضًا، أما عن الفنون التي ارتبطت بالفكاهة فكان هناك فن الأراجواز وخيال الظل، وهناك فنون المحبظين والسماجة وغيرها التي كانت تكشف في شكل ساخر ما يعاني منه المصريون من ظلم على يد السلطة الحاكمة. وحتى فن المسرح الغربي الذي وفد إلينا كانت الكوميديا هي الأبرز فيه وهي التي مكنت من وجوده في مصر حتى باتت المسرح لدى العامة يوازي الكوميديا والضحك ولا شيء آخر، وهذه الكوميديا في المسرح لم تكن مجانية كما قد يظن البعض، فيعلق الدكتور علي الراعي على إحدى المسرحيات الهزلية فيقول «ومع هذا التبسيط - بل بفضل هذا التبسيط - تنطلق الشكوى الموجعة والسخرية الدفينة من الحكم والحكام، فمن وراء الضحك الظاهر تقول المسرحية في مصر تلك الأيام لا يحصل المرء على حريته إلا فقد كل شيء ماله وشرفه معًا»

ويكشف هذا السرد التاريخي لميل المصريين إلى الفكاهة وكثرة فنونها لديهم أنه لم يكن بهدف الضحك من أجل الضحك بقدر ما هو وسيلة مقاومة ومحاولة سلمية لرد الظلم وردع الظالمين طوال التاريخ، ولم يتخل المصريون عن هذه الطريقة على اختلاف العصور والأزمان.
--------------------
د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية