26 - 06 - 2024

نقاد ومبدعون للمشهد في الذكرى الخمسين للانتصار: حرب أكتوبر انتصار لامع وحضور باهت في الإبداع

نقاد ومبدعون للمشهد في الذكرى الخمسين للانتصار: حرب أكتوبر انتصار لامع وحضور باهت في الإبداع

- إبراهيم عبدالمجيد: الكتابة الأدبية عن الهزيمة أكثر درامية وغياب التفاصيل تسبب في عزوف الكتاب عن أكتوبر.
- خيري دومة: الأغاني لعبت الدور الأعظم في الاحتفاء وشعراء قصيدة النثر لم يعتبروا حرب أكتوبر قضيتهم.
- وليد الخشاب: تصوير حرب أكتوبر في السينما كموضوع أساسي لفيلم اختفى بدخول اتفاقية السلام حيز التنفيذ وكانت مجرد محرك مثير لحدث عاطفي حزين
- محمد السيد إسماعيل: شعر أكتوبر اتسم بالمباشرة والحماس الشديد واعتبار أكتوبر حرب تحريك لا تحرير قلل حماس الشعراء والأدباء
- عمار علي حسن: الأديب لا يتعامل مع الحرب مباشرة وإنما يلتقط التفاصيل الصغيرة وانشغلت في إبداعي بتأثير أكتوبر على الأوضاع الاجتماعية
- سيد علي إسماعيل: ورقة أكتوبر 1974 أجهضت ظهور العروض التي تتناول الحرب مسرحيًّا والرقابة رفضت إجازة أي نص يرفض السلام مع العدو الصهيوني 


اشتبكت الأعمال الإبداعية المكتوبة والشفاهية والمرئية مع انتصار أكتوبر، لكن الآراء تجمع أن هذا الاشتباك سواء كان في الرواية أو القصة أو الشعر أو المسرح أو السينما أو التلفزيون لم يكن بالقدر الكافي لتجسيد عظمة هذه الحرب، التي كشفت عن معدن الإنسان المصري، ففي 6 سنوات فقط استطاع أن يُكِّون جيشًا ويحول الهزيمة المرة إلى انتصار بشكل أسطوري يصعب تصديقه لمن يرصد السياقات المتنوعة وقتها، من تفوق ساحق للكيان الصهيوني تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية بأحدث الأسلحة والأجهزة العسكرية، بينما الحليف السوفيتي لمصر لم يكن يملك التقدم العسكري الذي تملكه أمريكا ولم يكن يعطي مصر أحدث ما لديه من أسلحة. 

معركة غير متكافئة لكن الجندي المصري استطاع أن يعوض فقر وضعف الإمكانيات العسكرية - مقارنة بما يملكه الصهاينة - بروحه القتالية العالية، وبعقليته الفذة التي لا تعرف المستحيل، فما كان يعتقد الكيان أنه بحاجة إلى قنابل ذرية كي يُدمر، دمره المصريون بخراطيم المياه. 

وبعد مرور 50 عامًا على هذه الحرب كان لـ«المشهد» هذا التحقيق مع نخبة مميزة من الأكاديميين والمبدعين المصريين في النقد والإبداع الروائي والسينمائي والشعري والقصصي، لنعرف كيف جرى تناول هذه حرب في الفنون المختلفة، وكيف حضرت في إبداعاتهم الخاصة، ومعرقة أسباب عدم مواكبة الإبداع (الروائي، القصصي، الشعري، المسرحي، السينمائي) لإبداع الجيش في هذه الحرب، وغياب حضورها مقارنة بحضور نكسة 1967م، وإليكم حديثهم:

حضور ضعيف

في البداية يقول خيري دومة أستاذ النقد ورئيس قسم اللغة العربية السابق بكلية الآداب جامعة القاهرة: أرى أن إنتاج حرب أكتوبر في الأدب قليل جدًا، في الزمن الماضي كنا ندرس قصيدة لصلاح عبدالصبور عن أول جندي مصري رفع العلم على سيناء، وهناك رواية "الرفاعي" لجمال الغيطاني، وروايات فيها أصداء من الحرب مثل «نوبة رجوع» لمحمود الورداني، و«قناديل البحر» لإبراهيم عبدالمجيد، وغيرها من الأعمال؛ لكن لن تجد عملًا ملحميًّا يخلد الحرب نفسها من أولها إلى آخرها، بينما هناك لمسات إنسانية كتبت لكل من عاش الحرب وقدمها، وهذا قليل أيضًا.

ويضيف دومة أن حرب 67 أكثر حضورًا في المشهد الإبداعي المصري، وأكثر بروزًا من 73 لأن النكسة كانت مؤلمة والنتائج التي ترتبت عليها كانت كبيرة.

ويرجع دومة سبب قلة حضور حرب أكتوبر أننا ربما نحتاج إلى وقت أطول كي نستوعب ما حدث فيها، ويضيف أن هناك الكثير من الأحداث الغامضة التي صحبت هذه الحرب، فما كان يذاع على العامة أنها انتصار عظيم، بينما من يقرأون كان لديهم شكوك. فوجود الثغرة، والخلاف بين السادات والشاذلي، وما أعقب الحرب من انفتاح أثر سلبًا على شعور كثير من الكُتَّاب بعظمة الانتصار. 

ويشير دومة إلى سبب آخر أضعف من حضور 73 في المشهد الإبداعي هو أن حرب أكتوبر لم يكن لها نتائج حاسمة، فلم نحصل على سيناء بالحرب ولكن بطرق أخرى، كما أننا غيرنا المسار السياسي من الحلف السوفيتي إلى أمريكا، ومن القطاع العام إلى الانفتاح، فتلك التحولات الكبرى لم تجعل المصريين يستوعبون ما حدث. خاصة بعد معاهدة السلام إذ اعتقد كثر أنها لم تكن حربًا حقيقية وإنما لعبة سياسية، موضحًا أن تلك النظرة فيها ظلم للجنود الذين خاضوا المعركة ببسالة وحققوا انتصارات وبطولات كبيرة.

اليسار

ويضاف إلى الأسباب السابقة، كما يلفت دومة، أن أغلب الكتاب الكبار في هذه الفترة كانوا ينتمون إلى اليسار ممن يبحثون عن قيم مثل العدل ومناصرة الفقراء، وربما اعتبروا أن الكتابة عن الحرب شيء دعائي للنظام وقتها وأدب مناسبات.

يوضح دومه أنك قد ترى انعكاس 67 في الأدب في ميل الكتاب إلى العبث وتيار اللاوعي بينما لن ترى انعكاس الانتصار في الفن سوى الأوبريتات والأغاني، مؤكدًا أن الأغاني قد لعبت الدور الأعظم في الاحتفاء بالحرب، فالأغاني هي ديوان العرب المحدثين.

ويفسر دومة سبب غياب الشعر عن الاحتفاء بأكتوبر بأنه في أعقاب الحرب تحول المشهد الشعري المصري والعربي، فبدأ الشعراء ينشرون في مجلات خاصة وابتعدوا عن المنابر الرسمية، فالحكومة كانت تتجه في ناحية وهم في ناحية أخرى، ومن وقتها لم يعد الشعر إلى حضن الدولة بهذا المعنى، مضيفًا أن شعراء النثر عاشوا في الهامش طوال الوقت ولم يعتبروا حرب أكتوبر قضيتهم فعبروا في شعرهم عن أمور أخرى.

يؤكد دومة أن الذين كتبوا بصدق عن الحرب هم المقاتلون الذين عاشوا تلك الحرب، فقد كان لي أربع إخوة في الحرب في تلك الأثناء، وأذكر جيدًا كيف كانت الأجواء وقتها. مردفًا أن الدولة أدركت بشكل ما عزوف الكتاب عن الكتابة عن هذه الحرب، فاستحدثت سلسلة باسم «أدب الحرب» لتشجيع الناس للكتابة عنها في السبعينيات.

 ويختم دومه حديثه بأنه حتى الآن لم يستطع أحد من المبدعين استيعاب حرب أكتوبر بالقدر الذي يسمح له بالتعبير عنها أدبيًا، ربما يستطيع ذلك القادة الذين كانوا في أتونها مثلما فعل الغيطاني في الرفاعي وحكايات الغريب.

قناديل البحر

ويقول الكاتب الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد للمشهد بأنه لم يكتب بشكل مباشر عن حرب أكتوبر سوى في رواية «قناديل البحر» عن أحد أبطال الحرب، وهو يذهب إلى مدينة العريش ليقضي بعض أيام الصيف فتتداعى عليه الذكريات، لكنها تتزاوج مع ذكرياته عن حروب أخرى عربية، وبلاد زارها في أوروبا وغير ذلك مما هو في الرواية. مضيفًا أن الحرب حضرت لديه في قصتين قصيرتين كتبهما من وحي الحرب كانت واحدة بعنوان «الرسالة الأخيرة للجندي الشجاع» والثانية بعنوان «تعليقات من الحرب» وهي عن جنديين محاصرين في الجيش الثالث، يتحدثان عن عظمة العبور، لكن يقول أحدهما ساخرا «لو انتهت الحرب لجئت يوما بعد سنوات فلا تجد جثثا أو حطاما. تظهر حيوانات لا تدري كيف ومن أين، وكذلك صعاليك وتجار الخردة» وهي قصة نشرتها في مجلة «الطليعة» عام 1974 وتحقق ما فيها للأسف. أصبح أكثر من يتصدر المشهد بعد أكتوبر من المقاولين وتجار الخردة!

تفاصيل مخفية

يوضح عبدالمجيد أن سبب ضعف حضور حرب أكتوبر في جيله من الكتاب أن كثيرا من تفاصيل هذه الحرب كانت مخفية عنهم، والأسرار العسكرية عن هذه الحرب لم تخرج حتى الآن.

ويضيف أن أكتوبر كان لها تأثير آخر، فإذا  كانت حرب 1967 سببًا في انفجار جيل من كتاب القصة القصيرة والتجديد في شكلها الأدبي، بعيدا عن الحرب وما جرى فيها، صارت الرواية في السبعينيات هي الملاذ لكثير من الكتاب، وتزايد الأمر حتى صار الزمن زمن الرواية، ومن قريب أو من بعيد كان هناك إحساس بأن النصر لم يكن كاملًا بعيدًا عن أي معنى عسكري، لأن ما فعلته سياسة الانفتاح الاقتصادي في مصر، وفتح أبواب المجتمع لجماعة الإخوان المسلمين، والنزعات الوهابية والسلفية المتخلفة، شوه شكل المجتمع وحياتنا المصرية، وانفتح الباب مع سياسة الانفتاح للصوص الذين نهبوا البنوك، ووجدوا ملاذا في بلاد أوروبية.

أبناء الصمت

يؤكد عبدالمجيد للمشهد أنه لم تخرج حتى الآن أفلام قوية جميلة تعبر عن أكتوبر وكل ما صنع حتى الآن أفلام دعائية، معتبرًا أن فيلم «أبناء الصمت» إخراج محمد راضي 1974 هو أفضل الأفلام التي تناولت أكتوبر.

ويفسر عبدالمجيد سبب قلة الأفلام السينمائية التي تعبر عن العبور وحرب أكتوبر بأنه لا تتم الموافقة عن أي عمل يتناول الجيش أو أحد الحكام إلا بعد موافقة الدولة عليه، ولم ينج من التضييق إلا عملان أو ثلاثة  مثل، «الطريق إلى إيلات» وهو عن عملية تدمير المدمرة البحرية الإسرائيلية إيلات، قبل حرب أكتوبر، أو فيلم السهرة «حكايات الغريب» لجمال الغيطاني، أو فيلم «أغنية على الممر» عن مسرحية لعلي سالم، وكتب له السيناريو والحوار مصطفى محرم، وأخرجه علي عبد الخالق، قبل حرب أكتوبر، وربما سبب قوة هذا الفيلم أنه يتناول جنودا محاصرين لا يعرفون شيئًا، ينتظرون الحرب. كما أنه أدبيَّا الكتابة عن رحلة جندي عائد من سيناء خاسرًا، بها دراما أكثر من عودة الجندي منتصرًا. 

إسكات متعمد

ويقول الدكتور وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، بكندا لـ«المشهد» بأن بعض المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي لفتوا الأنظار إلى أن تصوير حرب أكتوبر في السينما، كموضوع أساسي لفيلم ما، قد اختفى بدخول اتفاقية السلام حيز التنفيذ. لكن بقيت لنا عدة أفلام تصور النصر العسكري الأهم لمصر في القرن العشرين تم تصويرها في السبعينات، بعد انتهاء الحرب مباشرة. 

ويضيف الخشاب أن أكثر ما يدهشه في أفلام أكتوبر أن الحرب لا تصور كمعارك وكتأثير مباشر ويومي على حياة المقاتلين ومعيشة بقية الناس غير المشتبكين بالسلاح. كأن حرب أكتوبر على الشاشة هي مجرد ذريعة درامية تجعل البطل المقاتل يرحل تاركاً حبيبته إلى الجبهة، فتضطر الحبيبة إلى الزواج من شخص آخر. أي أن حرب أكتوبر لا تقدم كموضوع محوري على الشاشة، بل كمجرد محرك مثير لحدث عاطفي حزين. 

ويضيف الخشاب أن الحرب تبدو كتابو يتم الإشارة إليه في السينما، دون التصريح به أو تفصيل ذكره، ربما لأن الحرب كحرب حدث صادم يسعى الخيال لكبته، لإبعاد الناس عما قد يوترهم ويبلبلهم. 

يردف: لذا يبدو وكأن الحرب كانت عملية جراحية لازمة لتستعيد الأمة صحتها، وواكبتها عملية «إسكات» لسيرتها حتى لا تظل صدمة تشغل الأذهان، إلى أن اختفى تصوير الحرب كمعارك وكصراع من الشاشة تماماً.

ضعف الشعر

ويقول الناقد والشاعر الدكتور محمد السيد إسماعيل بأن الشعر هو أكثر الأشكال الأدبية استجابة للأحداث الكبرى التي تجري في الوطن، ففي الشعر تكون الأمور أسهل في التعبير عنها من القصة القصيرة والرواية والمسرح وغيره، لذا صاحبت حرب أكتوبر الكثير من القصائد كان أشهرها قصيدة صلاح عبدالصبور إلى أول جندي رفع العلم المصري في سيناء، وأيضًا أحمد عبدالمعطي حجازي كتب قصيدتين وهي «ثلاث أغنيات للوطن» و«أغنية لدمشق» وفاروق شوشة كتب «أغنيتان لمصر» وكتب محمد مهران السيد، وأحمد الحوكي له «نقوش على بردية العبور».

ويضيف إسماعيل أن هذا الشعر اتسم بالمباشرة والحماس الشديد، ولم يكن فيه رموز أو توظيف تراث أو ما نعرفه عن القصيدة الحديثة، وقللت هذه الأسباب من قيمة هذا الشعر الفنية. أعتقد أنه حان الوقت الآن للشعراء أن يتأملوا هذا الحدث، ويعبروا عنه بشكل أعمق.

ويذكر محمد السيد إسماعيل أن كامب ديفيد قد أجهضت الفرحة بالنصر، من مفاوضات الكيلو 101 ...إلخ، والأقوال التي ذاعت وقتها بأنها أكتوبر حرب تحريك لا تحرير مما جعل الشعراء والمفكرين يأخذون موقفًا مما يحدث، وهذا قلل حماس الشعراء للتعبير عن هذا الحدث. 

زهرة الخريف

ويقول الروائي والمفكر الدكتور عمار علي حسن بأنه تناول أكتوبر في رواية «زهرة الخريف»، التي   تدور جميعها في الفترة بين هزيمة 67 وانتصار أكتوبر 1973، قصة واقعية بمخيلة أدبية جرت بذرتها في قريته، حول شابين مسلم ومسيحي يحاربان اللصوص ثم جندا، فعاد المسيحي شهيدًا، وضاع المسلم في صحاري الحرب ولم يتم العثور عليه وظل أهله ينتظرون عودته بمن فيهم زوجته التي لم يقم معها سوى أسبوع واحد قبل إرساله للجبهة، حتى سجل مفقودًا بعد 15 عامًا من غيابه. مضيفًا بأن هذه الرواية لا تنشغل بالحرب وإنما بتأثيرها على الأوضاع الاجتماعية المصرية في هذه الفترة.

ويضيف حسن أن تناول الحرب أيضًا في قصة «تجلي يا ملامح محمد» التي فازت بجائزة القصة والحرب عام 1994، وهي لا تتعلق بحرب أكتوبر على وجه التحديد، وتحكي عن انكسار المصريين وقت الهزيمة ثم نشوتهم في انتصار أكتوبر، وتجري أحداثها في كتيبة للدفاع الجوي واستفدت فيها من فترة تجنيدي واطلاعي على التفاصيل والمفردات والحياة العسكرية، مضيفًا بأن هناك قصة ثانية له تحوم من بعيد عن الحرب، مستمدة من قصة حقيقية عن طائرة لرش المبيدات سقطت ذات مرة في إحدى قرى المنيا، وظن الناس أنها طائرة إسرائيلية عطفًا على ما كانوا يجدونه بعد النكسة حيث ضرب مطار المنيا، والطائرات التي كانت تغير على المدن المصرية بعد النكسة، فتابع أهل القرى الطائرة لحظة سقوطها في النيل واشتعال النار بها، ينتظرون الطيار الذي يتهادى نحو الأرض بمظلة وكادوا أن يفتكوا به حتى أخرج لهم أوراقا ثبوتية بأنه طيار مصري.

أدب الحرب

ويوضح عمار علي حسن أنه بشكل عام أدب الحرب مسرد مهم في الآداب العالمية ولا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للعالم الإبداعي، إما لأن الأديب شارك فيها، أو لرصد تأثيرها على الناس والمجتمع من حوله، أو لأن الأديب له قضية أو فكرة أو انحياز أيديولوجي تجعله يتماس مع الحرب باتجاه أو آخر، أو أن تكون له نزعة إنسانية تجعله يكره الحروب بشكل عام ويدعو إلى السلام.

ويردف أنه في كل الأحوال أدب الحرب سواء ما كتبه هيمنجوي عن الحرب العالمية أو ما كتبه تولستوي عن الحروب النابليونية أو ما كتبه آخرون عن حروب سواء كانت أهليه أو خارجية بذلك صار رافدًا أدبيا مهمًا، فالأديب لا يتعامل مع الحرب مباشرة كما الحال في المسجل العسكري وإنما يلتقط التفاصيل الصغيرة الإنسانية والنفسية المرتبطة بالحرب لأن الحرب موجودة ومستمرة وستظل كذلك، لذا ستظل من المقاصد للأعمال الأدبية شعرية أو مسرحية أو قصصية أو روائية أو حتى أعمال فنية مثل الأعمال التشكيلية.

ألف أب

ويفسر عمار علي حسن سبب حضور 67 أكثر من أكتوبر في الإبداع الروائي بأن  نكسة يونيو كانت زلزالا هز الكثير من الثوابت والتصورات والأحلام والآمال التي علقها الناس على نظام يوليو وعبدالناصر على وجه التحديد، وكان من الطبيعي أن يكون الأدباء أكثر انفعالا من غيرهم بهذه النكسة، لأنها لم تكن بالنسبة لهم مجرد هزيمة عسكرية إنما ضربة للمشروع الذي كانوا ينتجون آدابهم في ظله، سواء بمسايرته أو معارضته من أجل إصلاحه أو تحسينه والحفاظ على قوة اندفاعه، مضيفًا أنه من الطبيعي أن تكون الأحزان عند الأدباء  سببًا للإلهام أكثر من الفرحة، كما أن نكسة يونيو كانت يتيمة، فالنظام الحاكم لم يكن معنيًّا بالحديث عنها، ولذلك تركت المساحة للمؤرخين والأدباء كي يكتبوا عنها وأن يحاولوا الوصول إلى الأعماق التي تسببت فيها، بينما حرب أكتوبر كان لها ألف أب الآلة الإعلامية والدعائية للسلطة ملأت الآذان عن هذا الانتصار، ووجد الأدباء أنفسهم جزءًا من المشهد وليس المشهد كله كما في يونيو.

في المسرح

ويرصد الدكتور سيد علي إسماعيل المؤرخ المسرحي وأستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة حلوان كثيرا من المسرحيات التي منعت الرقابة عرضها بسبب أنها تتناول انتصار أكتوبر بشكل غير مرضٍ، ومن هذه المسرحيات التي منعت إلى حين مسرحية محمود دياب «رسول من قرية تميرة» قائلًا بأن جميع من كتبوا عن هذه المسرحية رأوا أنها تتناول انتصار أكتوبر، ولكنها لم تُعرض حينها، وعُرضت عام 1984 أي بعد وفاة المؤلف!، فحين أراد أن يقدمها للجمهور عام 1974 رفضتها الرقابة، ولا يعلم أحد بهذا الأمر منذ خمسين سنة وحتى الآن!! 

ويكشف إسماعيل أنه يحتفظ بالنسخة المسرحية التي قُدمت إلى الرقابة في إبريل 1974، مكتوب على الصفحة الأولى من النص: «مسرحية رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام، مسرحية في ثلاثة فصول». وفي آخر صفحة الشخصيات وتحت عنوان «زمن المسرحية» وجد الآتي: «تقع أحداثها ما بين سبتمبر ونوفمبر سنة 1973».

ويضيف إسماعيل أنه في الصفحة الأولى من النص المكتوب بالآلة الكاتبة، وجد ملاحظة مكتوبة من الرقيب بالقلم الرصاص، قال فيها: «إن المسرحية ضد أمريكا!!» لافتًا ربما هذه الملاحظة كانت السبب المباشر في رفض النص، واستندت الرقابة في رفضها على بعض الملاحظات الرقابية الهامشية لتبرير الرفض!

ورقة أكتوبر

ويردف إسماعيل أنه بقراءته للنص وجد أن المؤلف ينادي باستمرار الحرب، ويرفض السلام مع العدو الصهيوني؟! مؤكدًا أن ذلك كان هو السبب الحقيقي للرفض.. فالنص المسرحي تم تقديمه إلى الرقابة يوم 24/4/1974 أي بعد خمسة أيام من نشر«ورقة أكتوبر» المنشورة يوم 19/4/1974 في جريدة «الأهرام»، التي أعلنها للعالم الرئيس «محمد أنور السادات» راسماً فيها استراتيجية مصر حتى عام 2000، ووضع فيها - تلميحاً وتضميناً - علاقة مصر مع أمريكا وإسرائيل مستقبلاً، بالإضافة إلى وضع بذور السلام في شكل الباب الموارب لاتفاقية السلام التي تمت سريعاً وفقاً لرغبة القيادة السياسية!! 

ويضيف أنه بناءً على ورقة أكتوبر تغيّرت نظرة الرقابة المسرحية إلى النصوص المسرحية المقدمة، بحيث إنها كانت ترفض - بصورة غير مباشرة أو غير صريحة - أي نص يذم أمريكا أو ينادي باستمرار الحرب أو يرفض السلام مع العدو الصهيوني!! ولعل هذا التوجه كان السبب المباشر في قلة عدد النصوص المسرحية المجازة رقابياً عن حرب أكتوبر، مقابل كثرة النصوص المُعدّلة أو المرفوضة رقابياً!! 

غياب قسري

ويختم إسماعيل كلامه بأن هذا الموقف يفسر لنا السؤال المطروح منذ عام 1973 حتى الآن وهو: أين مسرحيات أكتوبر؟ لماذا لم يُكتب نص مسرحي قوي عن حرب أكتوبر؟! لماذا لم نجد نصوصاً مسرحية مكتوبة بعمق عن حرب أكتوبر حتى الآن؟ فالإجابة من وجهة نظري أن أغلب المبدعين والمثقفين والأدباء والنقاد يرفضون ما جاء في ورقة أكتوبر، رغم الاستفتاء عليها بنعم!! مما يعني رفضهم السلام أو التطبيع مع الكيان الصهيوني منذ اتفاقية السلام وحتى الآن!
---------------------------------
استطلاع: د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية








اعلان