29 - 06 - 2024

كيف احتفت المخيلة الشعبية بحرب أكتوبر

كيف احتفت المخيلة الشعبية بحرب أكتوبر

ربما لا يختلف اثنان على أن الأدب الرسمي - في الشعر والرواية والقصة القصيرة - لم يجسد انتصار حرب أكتوبر بالصورة اللائقة لأسباب متفاوتة منها أن الأحداث المؤلمة أكثر وقعًا في النفس ودفعًا للكتابة من الأحداث السعيدة، هو ما يفسر الحضور القوي لنكسة يونيو على سبيل المثال. لكن إذا نظرنا إلى المخيلة الشعبية سنجد أنها قد فعلت العكس أسقطت من ذاكرتها الأحداث المؤلمة كما هي العادة، فلم نرصد في تتبعنا للحكايات الشعبية من سير وغيرها توثيقا لأي من الأحداث المؤلمة التي مرت بها بلادنا على مر تاريخها وهي حافلة بالمآسي المختلفة من حروب وأوبئة واضطرابات سياسية، فلا يحضر ذلك.

وإذا ذكرت أي منها فلا تأتي دون أن تضمن النهاية السعيدة، حيث يأتي البطل الذي يتخطى هذه الصعاب ويحقق الانتصار. ففي أوقات الأزمات تستدعي المخيلة الشعبية وتخلق حكايات عن أبطال خارقين قادرين على تغيير الواقع المؤلم مثلما هو الحال مع (عنترة بن شداد، الزير سالم، الظاهر بيبرس، الأميرة ذات الهمة، حمزة البهلوان، أبوزيد الهلالي، علي الزيبق، أحمد الدنف، سيف بن ذي يزن). مخيلة شعبية تحتفي بالنهايات السعيدة وتطلبها وترفض التعايش مع الواقع القاتم، فترسمه جميلًا كما تتمناه في إبداعها الشعبي.

فنلاحظ أنه في مقابل الآداب الرسمية التي كانت الهزيمة أكثر حضورًا فيها، فإن الفنون الشعبية احتفت احتفاء واسعًا بنصر أكتوبر، وكانت صورة الانتصار أكثر حضورًا عندها، ومن ذلك ما قاله الشيخ «أحمد أب برين» ابن مدينة إسنا صاحب الصوت الرخيم والأداء المتفرد. فقد خصص لحرب أكتوبر شريطًا كاملًا يحكي فيه عن بطولات المصريين في هذه الملحمة أطلق عليه اسم «قصة العبور» حيث يتحدث في أول مواويله على لسان موشيه ديان يا ولاد مصر يا طيبين يجعل كلامنا عن ديَّان: «يا ناس قاعد ما داريش( لا أدري)، ده قدري وأنا ما بيديش (ليس بيدي)، يوم السبت قاعد خلف الجيش، ميل عليَّ واحد شاويش، من خلعتي أصابني التشويش،... في ظاهر شاويش؛ لكن في الباطن درويش، ضربني وضيعني يا عين جند من أولاد الحسين».

يعيد أحمد برين ما قاله مرة أخرى لكن دون موسيقى: كلامي يرجع على ديان: قال يا ناس أنا قاعد وماداريش، ده قدري وأنا ما بيديش، يوم سبت قاعد خلف الجيش، ميل علي واحد شاويش، من خلعتي أصابني التشويش، فالظاهر شاويش وفي الباطن درويش، ضربني وضيعني يا عين واحد من أبناء الحسين.

يتخيل أحمد أب برين حورًا يدور على لسان موشيه ديان بأنه كان جالسا في راحة دون أن يدري ما الذي يحدث، فما حدث كان قدرًا مقدرًا وليس في يديه شيء ليفعله حيال ذلك الأمر، ويكمل الحوار على لسان ديان بأنه في يوم السبت - وهو اليوم الذي اندلعت فيه حرب أكتوبر - وهو خلف جيشه أتاه «شاويش» ولم يكن هذا الشاويش حقيقًيا إنما هو ولي من الأولياء «درويش» لكنه يتخفى في زي العسكري وقام بضربي وضيعني وتسبب في خسارتي، وقد أرعبني حضوره وأفقدني القدرة على التفكير.

ويبرز في هذا الموال المعتقد الشعبي بأن الأولياء حاربوا مع المصريين في هذه المعركة، والمقصود بابن الحسين الذي ضرب ديان هو السادات حيث يعود نسبه إلى قبيلة الجعافرة الأشراف أحفاد الحسين رضي الله عنه وأرضاه.

وينتقل الرنان إلى موضوعات أخرى من قصة العبور قائلًا:

«فيصل متين، مش عاوزه قُول، بالعربي يعني كان راجل معقول/ في بلاده كان غلَّا البترول، منعوا من الغرب والأمريكان، ملك وله الروح والعين، في بلاده كان حامي الحرمين، سكن جوار مدينة الزين، جار طه النبي حبيبنا العدنان، يا ليالي الهنا عودي ببشاير، أنا وانتم جمعا للنبي زاير، عشت يا مغرب يا جزاير، واليمن والكويت وأبو ظبي وإيران»

ويكمل مواويله التي توجه الشكر كل من ساندوا مصر في هذه المعركة

«وتونس يا صحاب العزة، أدي تل أبيب صبحت على لذة (أي دفعة واحدة وتسقط إلى الأبد)، والعاقبة لما نوصل غزة، ونصلي جمعة في أرض الشام (وفي العريش ناكل رمان)، وتونس يا حسبي يا نصيبي، سلامي لك جعفر يا نميري، وأنت تعيشي يا سودان».

يوجه أحمد أب برين شكره للزعماء العرب الذين كان لهم دورًا مهمًا في انتصار أكتوبر يبدأها بدور الملك فيصل الذي يصفه بأن متين قوي وهذا القول لا يحتاج إلى شرح، لأنه منع البترول عن الغرب والأمريكان، وهذا ليس غريبًا عن خادم الحرمين الشريفين ومن سكن بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، ويواصل شكره لبقية الدول العربية والإقليمية المغرب والجزائر وأبو ظبي، واليمن والكويت وإيران وتونس ويخبرهم أنه بفضلهم أصبحت تل أبيب على بعد خطوة واحد من الإنهيار والاندثار، ويدعو إلى اكتمال هذا الانتصار بتحرير فلسطين والصلاة في القدس، ولا ينسى أب برين أن يرسل سلامًا خاصًا إلى شعب السودان ورئيسهم جعفر النميري وقتها تقديرًا لدوره في مساعدة مصر أثناء هذه المعركة

وينتقل المداح أب برين إلى جانب آخر من العبور قائلًا

«وعشتِ أنتِ يا بورسعيد، ده 5 يونيو هيكون عيد، عشان كافحتي كفاح مجيد، وناضلتي والنصر بان/ ما بين بورسعيد واسماعيلية، بورسعيد الفتية، ودور ملاحتنا الدولية، سبعين سفين فيها تجارية، بأمر العرب قطعوها أميال (يفسر: لما سدوا القناة بسبعين سفينة تجارية)»

ويكمل: «مصر بلدنا ووالله يا خال، غاليه وسكنوها الأبطال، أوحش ما فينا جندي عال، من الصعيد نهتف ونغني، يوم خمسة يونيو فتحوا القنال».

ويبعث الحج أحمد أب برين سلامه إلى أهل بورسعيد، حيث يكشف الموال عن المناسبة التي يغني فيها، ألا وهي إعادة فتح المجرى الملاحي مرة أخرى لقناة السويس وكان ذلك في يوم 5 يونيو 1975م، ولم يكن اختيار هذا اليوم عشوائيًا وله دلالة واضحة يذكرها الحج أحمد فبعد هذا اليوم لن يكون يوم 5 يونيو يومًا يذكرنا بالنكسة بل بالانتصار على العدو واسترداد حقنا. 

ولا ينسى أب برين الإشادة بالجيش المصري على هذا الانتصار والدعاء للشهداء فيقول
«بحق طه الذي أسرى، من بعد العسر أتى بيسرى، تعبان اللي يعاند مصرَ، لأنها ذكرت في القرآن/ على قلب طه بني قريش، اللي بمديحه ابتعيش (سوف تعيش وتحيا)، يا رب بارك لنا في الجيش، من المنزلة إلى سد أسوان.

يقول بأنه بحق رسول الله الذي أسري به إلى السماء السابعة، أنه بعد العسر قد جاء اليسر، وأن الذي يعاند الشعب المصري يعيش حياته في كد وتعب لأنها ذكرت في القرآن ومحروسة من الله عز وجل، ويدعو الله أن يحفظ الجيش المصري من كل شر ليقوم بدوره المنوط به في الدفاع عن الحدود المصرية من الأخطار الخارجية.

فن الواو

وفي هذا الصدد ننتقل إلى شاعر شعبي آخر معاصر عبَّر عن هذه الحرب بفن الواو وهو من الفنون القولية المنتشرة في جنوب مصر ويعيد البعض نشأتها إلى ابن عروس صاحب المربعات المشهورة

 فيقول الشاعر سعد أبوضو: « في أكتوبر طريق الخطر ده مريناه/ وكان علينا الحمل أكبر/ قومنا على خط برليف دمرناه/ قوم أسعفتنا الله أكبر» يستعيد في هذا المربع كيف عبر المصريون خط برليف المنيع الذي اعتقد الصهاينة أنه خط لا يقهر لكن براعة الجندي المصري التي نجحت في دكه بخراطيم المياه، وكيف كان لجملة الله أكبر أثر كبير في نفوس المصريين وينسب إليها الفضل في تحقيق المستحيل.

ويقول سعد أبوضو في مربع ثان: «من الماضي أخدنا عبرنا/ والعدو كفانا الله شروره/ توكلنا الله عبرنا/ والظالم كسرنا غروره». ويبتعه بمربع ثالث يقول فيه:

«كَسَرَ العدوَ جيشنا الحر/ وكان عن أرضه مدافع/ في عز الصوم والحر/ التكبيرات دانات مدافع».

ويشير سعد أبو ضو في المربعين إلى أصالة الشعب المصري فمن تاريخه الطويل المملوء بالبطولات استمد قوته وعبر القناة وكسر غرور الكيان الصهيوني، ويلفت أن ذلك كان في وقت الصيام في العاشر من رمضان، فالعاطفة الدينية كان لها دور كبير في الانتصار، من صوم وتكبيرات أرعبت العدو وكانت بمثابة المدافع. 

ومن الأشعار التي ينقلها عن نصر أكتوبر الشاعر مسعود شومان في كتابه « الشعر الشعبي في مجتمع البجا» وهم قبائل من العبابدة والبشارية والرشايدة يعيشون في مناطق الحدود المصرية الجنوبية على حرف الرعي وتربية البهائم، فمن المربعات التي عبروا بها عن هذا الانتصار

«انتصروا العرب يوم عشرة في رمضان/ انتصروا العرب وديان صبح مرضان/ وعشان جيش العرب قرض اليهود قرضان/ ومائير للصباح ما بطلت جضان».

«انتصروا العرب يوم سبت كان في العصري/ وعدينا القنال رافعين علمنا المصري/ وانهزم اليهود وجيشهم محتصري/ تبقى نفوسهم طول الأبد منكسري»

ويؤرخ المربعان تاريخ الحرب يوم العاشر من رمضان، وفي يوم سبت قبيل العصر، حيث انتصر العرب على ديان مما أصاب موشيه ديان بالمرض والقهر، فالعرب فتكوا بالصهاينة، وحال جولده مائير لم يكن أفضل من ديان فهي لم تتوقف عن الأنين والحسرة، بعد أن عبر الجيش المصري القناة ورفع العلم وحاصر اليهود وكسرهم وأذلهم.

«جيت أتسلى يوم في الجرنال لقيت صورتها/ لغاية الدقن نازله الجلود قورتها/ حتى الكلب ديان ماشي بشورتها/ وانتصر العرب مائير يا طول حيرتها».

ويسخر هذا المربع من مائير وديان، ويبرز شماتة الشاعر فيهم بعد أن رأى صورتهم في الجرنال هو يتابع أخبار الحرب، لقد قهرهم المصريون وأذلوهم كما هو واضح في الصور

«مائير تبكي وتقول الفكر احتار/ ديان اتسمح مين اللي يجيب التار/ ولسه من العرب راح يشوف بلاوي كتار/ والمنخار شبر والعين تلت تمتار».

ويكمل الشاعر الشعبي صورة مائير الباكية وهي تسأل ديان من سيأتي لهم بالثأر من العرب، فيخبرها الشاعر أن ما ينتظرهم من العرب ما هو أكسر ويختم المربع برسم صورة كاريكاتورية من المنخار الذي طوله شبر والبوز الذي يمتد إلى ثلاثة أمتار.

وتكشف تلك المربعات والمواويل التي جاءت من إبداع القريحة الشعبية عن مدى فرحة الجماعة الشعبية في أقصى جنوب مصر وفي كل شبر من المحروسة بهذا الانتصار العبقري والتغني به وأنهم لم يذكروا النكسة إلا بعد أن جاءت العدالة أو النهاية الشاعرية بانتصار الخير على الشر وقهر العدو.
-----------------------------------
تقرير - د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية







اعلان