29 - 06 - 2024

ما قدمه الأدب عن حرب أكتوبر – وكل حروب مصر - نراه شحيحا

ما قدمه الأدب عن حرب أكتوبر – وكل حروب مصر - نراه شحيحا

الحرب نشاط إنساني يصل إلى أعلى مراحل العنف، وهي فعل فردي وجمعي بشري، تجتمع وتتضافر فيه كل القيم الإنسانية من خير وشر، جبن وشجاعة، عشق وكراهية، دفاع عن الأرض واغتصابها، دفاع عن النفس والعَرضْ، وقتلها واستعبادها، وهي الكفاح من أجل استقلال الأوطان وهي نهبها واستحلال خيراتها. 

وعندما يتناول الروائي موضوع الحرب يجد نفسه أمام معضلة الوجود الكبرى، وهي مواجهة الموت بحثا عن الحياة، والروايات الجيدة التي ترتقي لأقصى المعايير الفنية والإنسانية، تلك التي كتبت عن الحياة تحت وابل الرصاص وقصف القنابل والقتال بالسلاح الأبيض على حواف الخنادق، هذه الروايات تصير خالدة، وبعضها يرتقي إلى فن الملاحم؛ الإلياذة هوميروس، الحرب والسلام لتولستوي، كل شيء هادئ في الحي الغربي تأليف إريش ماريا ريمارك، وداعا للسلاح ولمن تقرع الأجراس لأرنست هيمنجواي والأمل أندريه مالرو ، وامرأتان لألبرتو مورفيا. والقائمة تطول، ولكن يجب أن نعترف أن هناك بونا شاسعا بين تناول الأدب الكلاسيكي الغربي للحرب، والتناول المصري للحرب.

مفهوم الوطنية المصرية

تشكل مفهوم الوطنية المصرية بصورة تدريجية في مطلع القرن التاسع عشر مع حروب محمد على باشا، وانخراط الفلاح المصري في جيش إبراهيم باشا للمرة الأولي منذ احتلال روما لمصر عام 27 ق م، وطوال القرن التاسع عشر انخرط الجيش المصري الذي أنشأه محمد علي وابنه الغازي إبراهيم باشا وأبناؤهما في غزو المجال الجيواستراتيجي المحيط بمصر بدءًا من الحجاز إلى الشام والتوغل في أراضي السلطنة العثمانية، وحروب المورة باليونان والقرم، ونهاية بضم السودان حتى منابع النيل في البحيرات العظمى.

عشرات الحروب المتواصلة الناجحة، كونت لدي القادة العسكريين في محيط الشرق الأوسط صورة متنامية عن كفاءة الفلاح المصري في الحرب، ومع تنامي طموحات محمد على استنادا على كفاءة جيشه واقتدار قائده إبراهيم باشا من خلال توالي انتصاراته وظهوره كقوة سياسية وعسكرية تستند على القيمة الحضارية التاريخية لمصر، أثار هذا مخاوف الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، التي تكالبت على وأد تلك القوة الشابة وأحلامها المتصاعدة.

مع صدور اللائحة السعيدية عام 1887 التي أعطت الفلاحين المصريين حق حيازة الأراضي وأتاحت لأبنائهم الترقي في سلك الضباط حتى أعلى المناصب، تشكلت القواعد الموضوعية لبزوغ مفهوم الوطنية المصرية من الحالة السديمية التي كانت عليها مصر كمصر من الأمصار تحت الخلافة الإسلامية، أو بلد منتج للحبوب لحساب الإمبراطوريات الغازية. بعد أقل من ربع قرن خاض المصريون كفاحا من أجل دولة دستورية وطنية حديثة، كان الجيش المصري أحد القوى الاجتماعية التي خاضت الثورة ضد الخديوي وحلفائه.

الحرب من أجل فلسطين

وقد تكالبت الدول العظمى علي الجيش المصري وعملت على تفكيكه والقضاء عليه حيث أعلن الخديوي محمد توفيق بعد هزيمة الثورة العرابية حل الجيش وإحالته إلى الاستيداع في سبتمبر 1882.

وحتى عام 1939 اقتصر عمل الجيش على فرق الهجانة لحماية الحدود، ولكن مع ظهور احتمالات الحرب العالمية الثانية قررت بريطانيا تطوير الجيش المصري ليس ليكون قوة عسكرية حديثة ولكن كقوة مساندة لدخول إنجلترا الحرب العالمية المرتقبة.

ومنذ ذلك الحين ومع ظهور الدولة الصهيونية خاضت مصر خلال أقل من ربع قرن أربع حروب كبرى أثرت على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع المصري.

نحن إذن بصدد عشرات الحروب على امتداد التاريخ المعاصر، مات خلالها مئات الآلاف من المصريين وكل شهيد رحل عن الحياة له أم وأب، زوجة وأطفال صغار أو حبيبة، أي أن هناك في الزمن المعاصر فقط ملايين من القصص وروايات الحب والعشق والموت لم تجد من لديه الجرأة الفنية والمعرفية كي يرويها.

إذن الحقيقة الساطعة هو أن الأدب المصري متخلف تماما عن متابعة ذلك النشاط الإنساني المتعلق بالحروب المصرية بصورة دعني أقول تثير الخجل. صحيح هناك القليل من الروايات التي ركزت جهودها على معالجة الجوانب المدنية المصاحبة للحرب، أما فعل الحرب نفسه فنادرة هي الأعمال التي نزلت هذا البحر العميق المضطرب.

حرب أكتوبر في ميزان الأدب

تعد حربا يونيو 67 وأكتوبر 73 من أهم الحروب التي خاضتها مصر في النصف الأخير من القرن الماضي، ولكن يجب التنويه إلى وجود فارق موضوعي بين تناول هزيمة يونيو 67 وبين معالجة حرب أكتوبر 73، فلهزيمة يونيو أبعاد نفسية واجتماعية ذات ثقل يضارع وربما يتجاوز الجانب العسكري للمعارك الحربية، وهو ما يدفع الروائي إلى الاستناد على المعلومات والتجارب الإنسانية التي صاحبت النشاط العسكري، وهذا يوفرمساحة واسعة من حرية العمل الفني. بينما في حرب أكتوبر يمكن القول بأن جوهر السؤال المتعلق بالأدب وخاصة الرواية، يتمثل في تناول فن الرواية للمعارك الحربية بوصفها انتصارا للعسكرية المصرية. 

وتناول الروائي للمعارك الحربية كموضوع أساسي للنص، أمر متعلق بموضوعين جوهريين، الأول ثقافة الكاتب العسكرية وشغفه بالمعارك الحربية، قراءة كلاوزفتيز وليدل هارت وصن تزو، وجيفارا، وجنرال جياب، وفولر، وليس المعني من الثقافة العسكرية أن يكون الكاتب بالضرورة رجل عسكري أو حتى أنه مر بتجربة الحرب.

الأمر الثاني: متعلق بتوفر مادة المعارك الخام، وهو الأرشيف العسكري للحرب وسير المعارك، إسرائيل كشفت عن أرشيفها العسكري بعد مرور خمسين عاما على حرب أكتوبر، وهو أمر غير متوفر للروائي المصري أو السوري.

نعم الرواية هي فن المتخيل، ولكن كي يكون المتخيل مكتوبا ضمن المنطق الموضوعي للأحداث، ودون شطط ولا استغراق في رومانسية متهافتة، أو حماسة فجة وشعارات فظة، فلابد من توفر الرواية الحقيقية للأحداث الفعلية، وتوفير المعلومات للروائيين أمر حيوي، وهو يختلف في فن الرواية عن أساليب الدعاية الذي تصدره السلطات السياسية لشعبها. 

مراعي القتل

تنجح الأمم وتتقدم الى الأمام وتنتصر فقط، عندما تضع تاريخها العسكري على خارطة البحث والتمحيص والدراسة كي تتعلم من انتصاراتها وهزائمها، ولهذا فإن الإجابة على سؤال حول ما قدمه الأدب عن حرب أكتوبر سوف نراه شحيحا جدا ربما لسببين:الأول أن الغالبية العظمى من الروائيين المصريين لا يملكون ثقافة حربية عسكرية، ما يتعلق بالأسلحة وأنواعها، وكيفية استخدامها، وتكوين الجيوش والرتب، والوحدات العسكرية، من فصيلة إلى سرية إلى كتيبة إلى لواء إلى فرقة إلى جيش، الثاني: أنه لا يتاح لهم الاطلاع على أرشيف وزارتي الدفاع المصرية والسورية. والثالث: وهو من أهم العوامل في الكتابة عن رواية الحرب هو امتلاك الروائي لمخيلة تمكنه من صناعة مسرح العمليات وميادين المعارك، وحشد القوات، والتمكن من الكتابة على الورق بمشهدية تصور المعارك بجمال وحيوية وطاقة تتجاوز الفيلم السينمائي.

في روايتي"مراعي القتل"، تناولت بشكل رئيسي حرب الاستنزاف، وكذلك حرب أكتوبر 73، اعتمدت على عدد كبير من المراجع العسكرية، بعضها عن الاستراتيجية الحربية لكبار المفكرين العسكريين، بعضها عن الأحداث الحربية التي جرت. بعضها عن يوميات الحرب، بعضها عن مصادر عسكرية مصرية كتبها قادة الحرب أو مؤرخون عسكريون مصريون، بعضها عن مصادر أجنبية كتبها مؤرخون أجانب، بعضها كتبه قادة جيش الدفاع الإسرائيلي. ولكن كان المهم هو الاستماع بعناية فائقة إلى رواية أحد الجنود الذين خاضوا حرب الاستنزاف وأصيب في الحرب.

في النهاية يبزغ سؤال هام وهو: هل ماكتب عن حرب أكتوبر يتناسب مع ما حققته من نصر؟! والإجابة هي بالطبع لا، ولكن الأمر لا يقتصر على حرب أكتوبر، فالأمر ينطبق تقريبا على كافة الحروب التي خاضتها مصر.
-------------------------------
بقلم: فتحي إمبابي
من المشهد الأسبوعية


مقالات اخرى للكاتب

د. محمد مهران: سد النهضة يرقى لجرائم ضد الإنسانية ويستدعي تدخلاً دولياً عاجلاً





اعلان