لم يمر "اعتذار" جرجس شكري عن عدم الاستمرار في مهمة أمين عام النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة، والذي رفعه إلى المسؤول المعني، وإلى عموم من يهمهم الأمر، عبر صفحته على الفيسبوك قبل بضعة أيام، مرور الكرام. وهذا أمر طبيعي، في ضوء أن شكري أمضى في ذلك المنصب سبع سنوات، ومن ثم فإن هناك بلا شك ملاحظات على أدائه طوال تلك الفترة، سلبا أو إيجابا، سواء بشكل موضوعي، أو بشكل لا يخلو من أغراض شخصية.
ولنبدأ ببيان الاعتذار أو الاستقالة، الذي يقر فيه شكري بأنه تأخر في اتخاذ هذا القرار؛ "على الأقل ثلاثة أشهر"، حسب تعبيره. ويبرر شكري ذلك بأنه يرجع إلى "الظروف التي مر بها النشر الموسم الماضي"؛ سواء المتعلق منها بالطباعة والتي امتدت الإجراءات القانونية الخاصة بها حتى شهر ديسمبر 2022، "فلم نستطع البدء في الطباعة إلا بعد خمسة أشهر من بداية خطة العام الماضي، ثم توقفت الطباعة مرة أخرى بسبب توقف دار الكتب عن منح أرقام الإيداع لمدة شهرين بعد معرض الكتاب". ورغم هذا - يضيف جرجس شكري - صدرت مجموعة كبيرة من العناوين في معرض الكتاب، موضحا أنه قدم تقريراً لرئيس الهيئة السابق هشام عطوة يشرح له فيه الأمر.
وأول ما استوقفني في ردود الأفعال على هذا التطور هو تعليق الصديق سيد محمود، الذي رأى فيه أن الأمر يتلخص في أننا "لا نحب الناجحين". فهذا التعليق الذي يستنكر أن يترك مسؤول منصبه بعد أن قضى فيه سبع سنوات، يكاد يصور الأمر على أنه إقالة وليس استقالة، مع أن جرجس شكري نفسه أكد أنه هو الذي قرر أن يترك الجمل بما حمل. وللصديق سيد محمود موقف مشابه عندما قدم استقالته من رئاسة تحرير جريدة "القاهرة" التي تصدرها وزارة الثقافة. ووقتها بقدر ما حزنت شخصيا على وضع نهاية لتجربة ثقافية رسمية ناجحة، بقدر ما سرّني أن بمقدور مسؤول أن يستقيل من منصبه، بعدما جرت العادة منذ سنوات بعيدة على إقالة الموظف المثقف، لأنه غالبا يرفض الاستقالة ويتشبث بموقعه مهما كان حجم التنازلات التي يقدمها مقابل ذلك.
وعلى المنوال نفسه جاءت تعليقات عدد من المثقفين، فالكاتب الكبير رءوف مسعد المقيم منذ سنوات طويلة في مهجر أوروبي، كتب أن "خروج جرجس شكري من مواصلته العمل العظيم في نشر أمهات الكتب بأسعار رحيمة للفقراء من الشعب المصري كارثة قومية كبرى". وأضاف صاحب رواية "بيضة النعام": "نرجو ألا يكون سبب الخروج التضييق عليه من البيروقراطية المصرية الحديثة النيو ليبرالية التي تريد بيع الماء والهواء، ونأمل أن يكون من يحل محله في مستواه الثقافي الراقي العالي، وبالطبع مصر ولّادة لكننا. سنفتقد كرم وتواضع وثقافة ودأب جرجس شكري".
وهكذا يبدو وكأن لا أحد يصدق أن الشاعر والكاتب الصحفي والناقد جرجس شكري ترك موقعه بمحض إرادته، بعدما واجه عراقيل تمنعه من مواصلة العمل بسلاسة. سبق أن أعلن جرجس شكري استقالته من المنصب نفسه، منصب أمين عام النشر بهيئة قصور الثقافة في 2019، ثم تراجع عنها وقيل إن الوزيرة إيناس عب الدايم أقنعته بالعدول عنها، وهو بالفعل عدل عنها. وعلى ما أتذكر فإن حيثيات تلك الاستقالة لا تختلف عن حيثيات هذا الاعتذار. لكن لا أتذكر ما استند إليه جرجس شكري وقتها في تبرير إعلانه الاستقالة والذي تم من خلال جريدة "أخبار الأدب".
هل يمكن أن يكون الاعتذار المعلن مؤخرا من جانب جرجس شكري عن عدم رغبته في الاستمرار في منصب أمين عام النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة، أمرا قابلا للعدول عنه، كما حدث عام 2019؟ أم هل جرى دفع جرجس شكري إلى مغادرة منصبه هذه المرة بدون أن تكون هناك أي فرصة لأن يعود إليه مجددا؟ لماذا قوبل اعتذار جرجس شكري من جانب البعض وكأنه نهاية لمشروع النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكأنما هو الذي أوجده من عدم، وبالتالي فإن مفاتيح استمراره ستبقى معه وحده؟
مع خالص احترامي لما قدمه الصديق جرجس شكري خلال السنوات السبع الماضية، فإنني أرى أن لا مانع أن تسند المهمة لشخص آخر قد يكون إليه ما يضيفه. فجرجس شكري نفسه سبقه كثيرون إلى هذا العمل وأنجزوا من خلاله بقدر المتاح والمسموح به، وفي ظل ضغوط نعرفها جميعا لتقليص النشر عبر الهيئة العامة لقصور الثقافة مع أنه ينفرد بسعة الانتشار بفضل أسعار منخفضة جدا، وهو أمر لا تقدمه أي من الجهات الأخرى التابعة لوزارة الثقافة.
أخيرا، سأفترض أن جرجس شكري استقال بمحض إرادته، وفي هذه الحالة ينبغي أن نشكره ونتمنى لخلفه التوفيق، أن تكون لديه هو الآخر شجاعة الاستقالة عندما يدرك أنه لم يعد قادرا على مواصلة عمله بالنجاح الذي يجعله راضيا عن نفسه.
-------------------------
بقلم: علي عطا
..