17 - 07 - 2024

حارة نجيب محفوظ ومشهد الانتخابات الرئاسية

حارة نجيب محفوظ ومشهد الانتخابات الرئاسية

لا أعرف لماذا بالضبط تذكرت عالم الحارة عند نجيب محفوظ بفتواته وحرافيشه وكل ما يحيط به، وانا أرقب مشهد الانتخابات الرئاسية الحالي، ما الذي جعلني أستدعي شخصية الفتوة والبلطجية المحيطين به وهؤلاء الحرافيش المقهورين المغلوبين علي أمرهم وباقي أغنياء الحارة وكبًاراتها وهم يدفعون الإتاوات التي باتت تثقل كاهلهم هم أنفسهم وليس معظم سكان الحارة فقط، ورجال الشرطة وهم يغضون البصر عن أعمال الفتوة وبلطجيته غير المشروعة، بل ويحمونهم من جرائم الحرافيش الصغيرة، طالما يحصلون علي أنصبتهم من الإتاوات ويهنأون برغد العيش …

استخدم نجيب محفوظ عالم الحارة في الكثير من كتاباته الرمزية، كمسرح لأحداث تاريخية ومعاصرة في نفس الوقت، وتعامل مع الكثير من المشكلات السياسية الكبري والقضايا الاجتماعية الدقيقة والتفصيلية من خلال خشبة ذلك المسرح الكبير، وتجسد تألق نجيب محفوظ في وصفه لعالم الفتوات والحرافيش في الحارة المصرية، حيث أبدع في رسم شخصياته بأبعادها المختلفة في ذلك العالم الذي يضيق لحد الدخول في الوصف التفصيلي لعلاقة حب بين شاب وفتاة من سكان الحارة ويتسع لنري من خلاله المجتمع المصري بكل صراعاته الاجتماعية وأحداثه السياسية الكبري.

قدم نجيب محفوظ شخصية الفتوة في عدد من الصور والطبعات المختلفة المرتبطة بمراحل تطور ونمو شخصيته خلال الفترة التي كان يقضيها في الفتونة، والتي كانت تطول مع بعض الفتوات لمدد تصل ربما لأكثر من جيل، منها طبعة أو مرحلة الفتوة العادل المنحاز والمدافع عن حقوق الحرافيش، وطبعة من يدافع عن ويحمي مصالح التجار وأغنياء الحارة الذين يجزلون له العطاء ويطلقون يده في إدارة شئون الحارة دون قيد أو شرط، ومرحلة بسط النفوذ والهيمنة علي بعض الحارات الاخري، ومرحلة الفتوة المفتري علي الجميع المعتمد علي جيوش من الأتباع وتحت عيون وحماية العسس الذين يتوحدون معه كلياً …. وصولاً إلي مرحلة الضعف والترهل وضياع الحقوق وانتشار الرشوة والفساد وأعمال النهب علي كافة المستويات.

ورغم تباين شخصية الفتوة، كما قدمه عمنا نجيب محفوظ، إلا أنه حافظ له علي سمة أساسية مشتركة لم يحد عنها في جميع الأحوال، وهي سمة الاستبداد والتسلط …. سواء بالحق أو بالباطل.

يبدأ الفتوة عادة حياة الفتونة بمعسول الكلام واعلان وقوفه بجانب الحرافيش الذين أتوا به وبالوعود بحياة يسودها العدالة ووقف الظلم حتي تخال ان الحياة اصبحت وردية بين يوم وليلة.

بعد فترة، تطول أو تقصر حسب الظروف والطبيعة الشخصية لكل فتوة تتبدل الأحوال (وترجع ريما لعاداتها القديمة)، الفتوة يحاط بكبار التجار وأصحاب المال والأعمال، حيث يكثرون له العطاء لينعم في رغد العيش، تتباعد المسافة بينه وبين الحرافيش، يعيث رجال الفتوة في الأرض فساداً وبلطجة علي خلق الله تحت عيون، بل وحماية العسس، تزداد طلبات الفتوة ورجاله يوم بعد يوم ويحاصرون طبقة كبار الملاك والتجار بالمزيد من الإتاوات التي تتجاوز كل الحدود، وتتحول من مجرد إتاوات لحمايتهم الي شراكة في كل شئ وتصل الي حد تجريدهم من أملاكهم، ينتشر الفساد وتعم الفوضي واعمال النهب، تسوء حال الحرافيش الي اقصي الحدود، ويمارسون اعمال السرقة والنهب الصغير في جنح الظلام ليوفروا ما يتيسر من الطعام لاسرهم وذويهم ويزداد بطش الفتوة ورجاله، تعم البلاد حالة من الفوضي والرعب وغياب الأمن والأمان، وفي الأثناء يظهر من بين الحرافيش شخص له مواصفات القيادة يلتقي بمن ينتقيهم سراً في البداية، ويقوم بتحريضهم مستخدما نفس الخطاب القديم الذي استخدمه من قبله الفتوة الحالي كذلك جميع سابقيهم !!! يحشدهم للاطاحة بالفتوة القائم ويطرح نفسه بكل الجسارة المصحوبة بقدر كبير من التواضع في البداية كبديل للفتوة الحالي، مستبد عادل جديد لتتكرر المأساة عشرات المرات مع تغييرات طفيفة ولكنها تعبر عن تنوع الشخصيات، وخاصة شخصية الفتوة ولكي يعيد التاريخ نفسه مرات ومرات مع تغييرات طفيفة في السيناريو كل مرة عن الأخري …

وتبقي الفتونة نظام حياة لا يتغير، اللهمً في الشكل الخارجي فقط، ويبقي السؤال الأساسي المطروح طول الوقت: هل من طريقة وعمل جاد لتغيير نظام الفتونة؟ أم ستبقي الحارة طول الوقت بحرافيشها رهن نظام محكم يسيره الفتوة وبلطجيته تحت رعاية عسسه وبمعاونة رجال المال والأعمال القدامي والجدد وبمساندة جيران السوء احياناً للحفاظ في النهاية علي وضع الحارة والحارات المجاورة خاضعين لنفس نظام الفتوات الذي تتغير اشكاله والوانه من حارة إلي أخري حسب تاريخ نشاة الفتونة فيها وحسب الطريقة التي حكمت تطوره وصولاً الي اللحظة الراهنة.

نجيب محفوظ قدم لنا تحليلا ورؤية عميقة للحياة داخل الحارة علي مر الزمان، وتركنا نفكر ونتأمل في مجموعة الفرضيات والاسئلة التي يمكن قراءتها سواء بشكل مباشر أو بين السطور مثل :

الفرضية الأولي : تتعلق بالسمات الشخصية والخصائص المميزة للفتوة، سواء المتغير منها، حسب الحقبة التاريخية ومدة بقائه في الفتونة، والثابت المشترك بينه وبين من سبقوه ومن سيأتون من بعده.

الفرضية الثانية : تتعلق بعلاقة الفتوة بالحرافيش، حيث يلعبون الدور الرئيسي في عملية خلع الفتوة القديم وتنصيب الفتوة الجديد مكانه، وهي مهمة كبيرة لو تعلمون وشديدة الحساسية، ولا يتم اللجوء اليها الا عند الضرورات القصوي وعندما يحتدم الصراع بين فتوة قديم زائل وآخر جديد آت.

الفرضية الثالثة : تتعلق بعملية صعود وهبوط الفتوة والقواعد الحاكمة لها ( القوة، رضي الجيران وباقي فتوات الحارات الأخري، عمق أزمة الحرافيش، الوهن الشديد لمكونات عناصر القوة بالحارة، جور الفتوة وبلطجيته علي أنصبة شركائه ….. الخ. ).

الفرضية الرابعة : الفتونة كنهج وأسلوب حياة محكم لم تخرج الحارة منه يوماً.

الفرضية الخامسة : الحرافيش لم يكونوا يوماً شركاء حقيقيين للفتوة فالعلاقة بينه وبينهم لا تعدو أن تكون علاقة توظيفية.

الفرضية السادسة : البلطجية والعسس والتجار هم الشركاء الحقيقيين للفتوة، كل حسب دوره وثقله في إدارة شئون الحارة.

الفرضية السابعة والأخيرة : مفيش فتوة بينسحب أو يتراجع أو يسلم للحرافيش أو حتي للفتوة الجديد بالساهل، وفي أغلب الأحوال فإن رحيل الفتوة يرتبط بنهاية حياته، التي تتعدد طرائقها !!!

ويبقي السؤال هل من امكانية لتغيير النهج الذي تدار به الحارة من أساسه ؟

هل من طريقة لاقامة علاقات تشاركية حقيقية وجادة بين جميع أطراف الحارة ؟

هل من أفق لإعادة الروح وإعادة بناء الحارة من جديد، بعد أن أوشكت علي الانهيار الكامل وتصدع بنيانها ؟

ذلك هو التحدي الحقيقي وتلك هي الاشكاليات الكبري التي تحتاج الحارة الي مواجهتها بشكل شامل فهل أتي أوانها يا عم نجيب ؟؟؟
------------------------
بقلم: د. مجدي عبدالحميد


مقالات اخرى للكاتب

حارة نجيب محفوظ ومشهد الانتخابات الرئاسية