27 - 06 - 2024

مدينة المنصورة .. إبداع يتجدد في مهد الأعلام والنجوم الزاهية

مدينة المنصورة .. إبداع يتجدد في مهد الأعلام والنجوم الزاهية

يرتبط الإبداع ارتباطاً وثيقاً بالمكان، فلا علاقة للأدب دون ارتباطه بالأمكنة، سواء كان المكان مدينة أو مسقط الولادة "القرية"، فتلك الأمكنة على اختلافها تشكل للمبدعين شخصياتهم، ويبقى أن ارتباط المبدع بالمكان هو مصدر الإلهام الروحي والحقيقي لأريج القلم.

ومدينتنا "المنصورة" عروس النيل هي مدينة السحر والجمال والأدب والثقافة، غنية بمناظرها الطبيعية التي ساهمت في خلقها مياه النيل، وعلى أرضها نشأ كثير من المثقفين والأدباء والمفكرين، وكان الكاتب الكبير الأستاذ أنيس منصور يفتخر ويشيد ويستشهد بها كثيراً في مقالاته، فيذكر أنها "البلد الذي عرَف القراءة والكتاب أكثر من أي بلد آخر في مصر"، وأنها "عاصمة الطب والعلاج"، و"ليس (لها) نظير في عدد المستشفيات وعدد المرضى من مصر والبلد العربية ومعاهد البحث، وبها العدد الكثير من كبار الأطباء"، ونشأ بها "بناة المصانع والقرى السياحية والأكاديميات".

إنّ"المنصورة" لم تحتل من التاريخ الثقافي في "مصر" والوطن العربي هذا المحل الأوسع لأنها عروس النيل، وبلد الجمال والسحر، وإنما ملأت الدنيا خبراً، وشغلت صحائف الدهر ردحاً من الزمن؛ لأنها كانت جزءاً هاماً من التاريخ الإسلامي، وسجلًا حافلًا من تاريخ المقاومة والأصالة العربية،وتقف فيها الحضارات الإنسانية جنباً إلى جنب لتصنع منها ثوب ريادتها الثقافية، ولا تزال عنواناً للمعرفة، ورمزاً للثقافة، ومناراً للتعليم، ومصدر إلهامكثير من الأدباء والشعراء والمثقفين، ومنها صفوة الكبار من أدباء وشعراء ومفكري "مصر" ونوابغ الفنون والعلوم.

لستُ بصدد عرض تقييمي عن أداء الحركة الثقافية بالمنصورة، فالأمر لا يعدو أن يكون حالة من الرصد الإجمالي للعطاء المتدفق الذي لا ينتهي، وليس بإمكاني أيضًا أن أتجاهل أو أتغافل عن الكثير من المنتديات الثقافية والأمسيات الأدبية التي شهدتها هذه المدينة "بوابة مصر الثقافية" في القرن الماضي، ففي ذكرى أستاذ الجيل "أحمد لطفي السيد" الأولى كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان في مجلة "الرسالة" سنة 1964م مقالًا عن حضور كوكبة من روّاد مصر ذكرى أستاذ الجيل بالمنصورة؛ بناء على دعوة وجهت إليهم، وممن حضر من أساتذة الأدب والفكر والفلسفة: محمد عوض محمد، وبنت الشاطئ، وأحمد فؤاد الأهواني، وعبد الرحمن بدوي، وأحمد الشرباصي، وعثمان أمين، ومحمد مظهر سعيد، والسعيد مصطفى السعيد، ومحمد زكي عبد القادر، وعبد اللطيف حمزة، وحسين فوزي النجار، ومحمد جميل غازي، هذا بخلاف الكلمات التي كتبها أصحابها في حفل تأبين الفقيد ولم يحضروا لظروفهم الخاصة؛ كطه حسين، وأحمد حسن الزيات.

ويصف الأستاذ عامر محمد بحيري على صفحات مجلة "الثقافة" سنة 1965م الحالة الثقافية لمدينة المنصورة في مقاله "في مهرجان المنصورة"، حيث شهدت المنصورة -كعادتها- مهرجانًا ثقافيًا لعدة أيام، حضره من كبار الشعراء: أحمد رامي، وصالح جودت، وطاهر الجبلاوي، وعبد الله المبارك، وإبراهيم عيسى، ومحمود حسن إسماعيل، وعبده بدوي، ومحمد الجيار، ومن رجال الفكر والأدب:محمد الغزالي السقا، ولويس عوض، وبنت الشاطئ، ومحمد زكي عبد القادر، ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن الخميسي، وعبد القادر القط، ورجاء النقاش، وأحمد كمال زكي، ودارت بين هؤلاء الكثير من المعارك الحوارية والنقاشية في قضايا مجتمعية مختلفة آنذاك.

وعلى شاطئ المنصورة التقى أربعة من الشعراء الكبار في حقبة زمنية واحدة، فعقد الشاطئ والشعر بينهم حلفًا أنيقًا عجيبًا، ونوعاً من أنواع الصداقة العزيزة، وهم: إبراهيم ناجي، وصالح جودت، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وعلي محمود طه، ويصف صالح جودت في مقاله "شعراء المنصورة" بمجلة الرسالة أجواءهم الثقافيةفي قوله: "كان وجه الحياة في المنصورة يومئذٍ ضاحكاً مشرقاً، فمعهد الموسيقى بالمدينة مزدهر، وحياة الليل على طول مقاهي الشاطئ ممتدة، زاخرة بالرقص والغناء، وأسباب العيش رخية سخية، وأهل المدينة بطبيعتهم محبون للأدب والفن، في رجالهم ظرف وذكاء، وفي نسائهم رقة وشاعرية". 

ما أشبه الليلة بالبارحة!

ففي كلية الآداب بجامعة المنصورة تنعقد هذه الأيام أعمال مؤتمر عظيم حول القصة الشاعرة بعنوان: "القصة الشاعرة بين مضامين الأدب الرقمي والذكاء الاصطناعي" وهو المؤتمر الرابع عشر للقصة الشاعرة، وأقيم في الفترة من 11-12 أكتوبر 2023م في مقر كلية الآداب بجامعة المنصورة بإشراف أ.د محمود سليمان الجعيديوأ.د عزيزة الصيفي، ورعاية أ.د عصام شرف رئيس وزراء مصر الأسبق، ورئيس جامعة المنصورة أ.د شريف يوسف خاطر، ورئيس هيئة قصور الثقافة الأستاذ عمرو البسيوني، ويشارك فيه أكاديميون ومبدعون ومثقفون.

وقد يكفي لإدراك أهمية هذه المدينة من النواحي الثقافية والمعرفية أن نعرف أنها الموطن الروحي لكثير من روّاد الأدب المعاصرين، فبأجوائها عاشوا، وبأدبها تثقفوا، وبأمجادها افتخروا، ولعلّ إيراد جميع النابغين الذين خرجوا منها يخرج بنا عن المقصود، وهو مما لا يحتمله مقدمة مختصرة حددت لها عدد صفحات، لكن أورد هنا ثلاثة من كبار الكُتّاب والأدباء المعاصرين الذين عاشوا في المنصورة، ولهم جهود معرفية كبيرة وآثار واضحة،وهم:

الأول: الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات مؤسس مجلة "الرسالة"، خريج مدينة المنصورة، بلد الشعر والأدب، بزغ أدبه من بلاغة الأزهريين، وثقافة الفرنسيين، صاحب أسلوب واضح، ينحو منحى الجاحظ في كتاباته، وهو المعلم الكبير والأستاذ الأجل لأستاذي وشيخي الأكبر المؤرخ الراوية محمد رجب البيومي، ولد ونشأ في مدينة"المنصورة" التي أخرجت كثيراً من المثقفين، وتعلم في الأزهر، ثم سافر إلى فرنسا، وتعلم الفرنسية، ودرس القانون والآداب، ومن هذه الثُلاثية النادرة تكونت شخصيته: موطنه موطن شعر وثقافة، وتعلمه في الأزهر، وسفره إلى فرنسا واطلاعه على الثقافة الغربية، فبدا أسلوب الزيات، وبزغ نجمه الأدبي، وتميز بأسلوبه البياني الناصع بفنون البلاغة، حتى تربع على القمة، وصنع لنفسه أسلوباً بيانياً مميزاً يستلهم الآخرون منه أساليبهم. بدأ الزيات حياته العملية مدرساً سنة (1917م) فعمل في التدريس الأهلي، كان مدرساً لمادة اللغة العربية وأدبها بكلية الفرير بالخرنفش، إلا أنّ إدارتها ارتأت أن تزيد له حصة كل يوم بمدرسة "الفرير" الابتدائية بالفجالة، فعلّم العربية في مدرسة (الفرير) نحو سبع سنوات، ودَرّس الأدب العربي في المدرسة الأميركية بالقاهرة (1922م).

لقد بلغ حب الزيات لموطنه الأصلي "المنصورة" منتهاه، ولطالما كان يتذكر بمناظر بغداد مناظر مصر ومدينته "المنصورة" حين كان بالعراق لوجود المشابه بين هذه المدن في طريقة العيش والتعليم والثقافة، فقال في مقاله "تأمل ساعة .. من ذكريات العراق" المنشور بمجلة الرسالة، العدد 48، 4 يونيو 1934: "ذكرتني هذه المناظر مناظر غابت في سويداء القلب ولفائفه، ذكرني تقابل الرصافة والكَرخ على دجلة تقابل القاهرة والجيزة على النيل الأعلى، وتقابل المنصورة وطلخا على النيل الأسفل، وفي هذه الأماكن الحبيبة كان مدرج طفولتي وشبابي، وملتقى أحبتي وصحابي، فهاجت شجوني وسالت شؤوني ...".

والثاني: أستاذي الأكبر الراوية محمد رجب البيومي، مؤرخ الأزهر وأديبه، بقي اسمه في صدارة المتصدِّرين من المشتغلين بالأدب، وارتبط بفصاحــة الكلمة ونشر الفضيلة في كـتـاباتـه، وهومصدر إلهامنا للمضي قدماً في عالم الكتابة، ولا تــزال كــتبه محـلّ عنـايـة من المشتغلين، وقــد جمع الله له أسلوب الكبار، فأخذ من الرافعيّ التدثر باللغة وجزالة الألفاظ وعمق المعاني، وأخذ من المنفلوطي اعتناءه بالفضيلة ونشر الآداب وقوة الأحاسيس وعلوّ المشاعر، إلى جانب انفراده برصد الـحضارة الإسلامية وروادها الـمعاصرين في جوانبها المتعددة، انشغل بالكتابة عن جميع مباهج الحياة الاجتماعية، وامتلك بيتًا في مكتبته كما رأيتُـه، في حين أن غيره يمتلك مكتبة في بيته، وصار في نفسه منارة يهتدي بها الآخرون، وضوءًا ثابتًا يسعى إليه الدارسون، لقي الأساتذة والأعلام، بل هو أكثر أهل عصره اجتماعًا بالعلماء والأدباء الفحول؛ فأخذ عنهم العلوم والمعارف، وتفوق منذ صغره في فنِّ الكتابة، فأتقنها إتقانـًا بليغًا عــزَّ نظيره، ونشر منذ صغره في المجلات الأدبية، واجتمع له من أساليب الكبار ما لا تجده عند غيره؛ ففيه قوة بيان الرافعي، ونقد زكي مبارك، ومشاعر المنفلوطي، وتنوّع أسلوب الزيات، ومتعة حديث إبراهيم المازني، وعمق طرح البشري، وصراحة حديث عزام.

 تفوق أيضًا في الشعر تفوقـًا بالغًا؛ فجُمع له بين الشعر والنثر على حــدٍّ سواء، رثى زوجته في ديواني شعر في غاية الأدب الرفيع والشعر الرائق، وعبَّر فيهما بتعبيرات تفوق الوصف عن ألم الفقد ووقع المصيبة مع شاعرية وأحاسيس أصيلة، فيذكر ذكرياته مع زوجته وأخلاقها وطبائعها الفريدة، ثم يسرد الأحداث الأليمة التي مرَّت بهما في رحلتها مع المرض، وسفرها معه إلى أن عاد وحيدًا إلى أولاده دونها!

والثالث: الشاعر القدير محمد الشحات محمد، ولد في قرية "السمارة" بمركز السنبلاوين بالدقهلية، بدأ كعادة أهل الريف بحفظ كتاب الله، فدخل كتاب القرية، ولأسباب خاصة انتقلت أسرته الكريمة إلى القاهرة، ليسكن في حي "روض الفرج" الشهير، وينتقل في مساجده لإتمام حفظ القرآن الكريم، وتدرج في التعليم، فدخل الابتدائية، وامتحن في الصف الخامس، وكان الأول على منطقة شمال القاهرة (منازل) في الصف السادس الابتدائي، وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية التحق بالإعدادية بمدرسة "شبرا"، وبعد انتقال الأسرة إلى حي "عين شس" التحق بمدرسة "الطبري" الثانوية إلى أن حصل على شهادة "الثانوية العامة" سنة 1984م التي أهلته للالتحاق بكلية "الهندسة" قسم ميكانيكا بجامعة عين شمس، وفاز بعدة مسابقات شعرية بالجامعة ونادي القصيد.

وهو شاعر، وقاص، وناقد، وكاتب مسرحي، ومؤسس الجنس الأدبي "القصة الشاعرة" الذي يعدّ إنجازاً إبداعياً عربيّ الاتجاه، ومصريّ النشأة، وقد ساهم هذا التأسيس المبتكر بقوة في مواصلة التجديد والإبداع، وبناء الفكر والوجدان الإنساني، وإظهار الوجه الحضاري لتكامل المعارف، والقصة الشاعرة كما يقدمها رائدها هي: "قص إيقاعي تدويري وفق نظام التفعيلة، مؤسسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية"، وقد أشارت دراسات كثيرة وأبحاث إلى القصة الشاعرة، وعقدت من أجلها مؤتمرات كثيرة جاوزت اثني عشر مؤتمراً، وللقصة الشاعرة حضور في المشهد الأدبي والدراسات الأكاديمية والمجلات الأدبية العلمية.

ويأتي مؤتمر المنصورة برعايته الكريمة في سبيل النهوض بهذا الجنس الأدبي العزيز ومواصلة الجهد الثقافية لأبناء المنصورة، وله غرض آخر، وهو محاولةتكريم أستاذنا العلامة الأكبر محمد رجب البيومي، حيث أطلق على هذه الدورة اسمه المبارك "دورة الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي" وفي هذا إشادة بفضله على الساحة الأدبية، كما أنه يفيدنا أن القائمين على هذا المؤتمر -ومنهم رائد القصة الشاعرة الأستاذ محمد الشحات محمد- قد ضربوا المثل في الوفاء النادر الذي يكاد لا نراه إلا في بطون الكتب والقصص القديمة، وحتى هذه اللحظة لا أعلم جهة تبنت الاحتفاء بمئوية العلامة محمد رجب البيومي غيرهم، فتحية إجلال لهذا المؤتمر والقائمين عليه.

إنّ الاحتفاء بالمبدعين والكبار وذوي المواهب وأصحاب العطاء المتميز قيمة عظيمة وفعل ممدوح، وقيام الأستاذ الرائد بهذا الاحتفاء لعلم من أعلام الأزهر الشريف هو صفحة مضيئة في حياته الثقافية!

تضم مدينة "المنصورة"أسماء أخرى لعلماء ومثقفين وأدباء ومفكرين، منهم على سبيل المثال: المؤرخ العظيم الأستاذ محمد عبد الله عنان، والمفكر والكاتب أنيس منصور، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، والأديب الدكتور محمد حسين هيكل، والشاعر كامل الشناوي، والشاعر الغنائي مأمون الشناوي، والشاعر الكبير محمود أبو الوفا الشريف، والإمام الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر السابق، والشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي، والدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، والشيخ رزق خليل حبة شيخ عموم المقارئ المصرية، ورائد الصحافة الحديثة محمد التابعي، وغيرهم كثير، وفي الإحاطة بجهود كل هؤلاء المعرفية ما لا يطاق، وما لا يحتمله هذا المقال،فجوانب العظمة والإجلال لديهم لا تستوفى.

إنّ الآمال معقودة على مواصلة الأبناء مسيرة ودرب الآباء؛ حتى تعود الروح إلى الحياة الثقافية بمدينتنا "المنصورة" للمساهمة في الحضارة الإنسانية.

وبعد ... فإذا كان للمثقفين من مختلف مدن "مصر" آثار وجهود فإنّ لأهل "المنصورة" حرصاً على أن يكون لمعارفهم المتنوعة مظهر صحيح؛ كهذا المؤتمر الفريد "القصة الشاعرة بين مضامين الأدب الرقمي والذكاء الاصطناعي"، وللجمال أثره في أمزجتهم فهم مبدعون بالفطرة!
---------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني
كاتب وأديب أزهري 

مقالات اخرى للكاتب

البيومي ونقد عبد الفتاح أبو مدين





اعلان