27 - 09 - 2024

في دراسة د. محمد العربي حول "الاستخبارات الاستباقية": أجهزة الاستخبارات تعاني ضعفا في الكفاءات البشرية

في دراسة د. محمد العربي حول

- تحليل البيانات هو نوع من حل الأغاز ووفرتها أو تضاربها قد يكون مربكا لصانع القرار
- محللو الاستخبارات يعملون في عالم مغلف باللا يقين والفوضى والتعقيد لتقديم توقعات وتنبؤات لصانع القرار
- أجهزة الاستخبارات تقدم كـ“كبش فداء“ لإخفاق سياسة الدولة حيث يتم تصوير الإخفاق باعتباره "فشلا استخباراتيا"
- الوكالات المتنافسة تقوم بـ”تجزئة المعلومات الاستخباراتية“وتتعامل كل منها مع الأجزاء التي تخصها ما يسبب الكوارث
- تحليل الاتجاهات المستقبلية يشحذ قدرة المحللين على ”التنبؤ“ من خلال استكشاف "نقاط التحول" قبل نموها

التنبؤ والاستشراف الأداة الرئيسة لاستباق المستقبل. وفي المجتمعات الحديثة، تمثل أجهزة الاستخبارات أداة الدولة الرئيسة في استباق المخاطر الأمنية من خلال جمع وتحليل المعلومات، وإنتاج استخبارات، تسهم بشكل رئيس في اتخاذ قرارات معينة أو إنشاء مبادرات من شأنها استباق التحديات أو تخفيف آثار التهديدات في حال وقوعها.

انطلاقا من هذه الرؤية تسعى هذه الدراسة "الاستخبارات الاستباقية.. التنبؤ وبناء سياسات الأمن القومي" للباحث د.محمد العربي الصادرة عن مركز المستقبل بأبوظبي، إلى توضيح طبيعة وظيفة ”التنبؤ“، وموقعها المركزي في وظائف مجتمع الاستخبارات الحديثة بمنظماته المختلفة، واختلاف نطاق عملها، كما تتناول أيضا المقاربات التقليدية في الاضطلاع بهذه الوظيفة والتي ارتبطت بالأدوات التقليدية في جمع ومعالجة وتحليل المعلومات الاستخباراتية، وكذلك الاتجاهات الجديدة في التنبؤ الاستخباراتي، والتي أخذت في الظهور، مع تعقد نماذج التحليل والظواهر واتساع نطاق عمل أجهزة الاستخبارات، ومن ثم انفتاحها على مقاربات الاستشراف الحديثة مثل التنبؤ الفائق، وحشد المصادر وإدماج الذكاء الاصطناعي.

يرى العربي أن تحليل البيانات التي يتم جمعها بطرق ووسائل مختلفة من قبل جهاز الاستخبارات الأجنبية في الدولة "س" حول أنشطة معادية أو تمس الأمن القومي تقوم بها الدولة "ص" هو نوع من حل الألغاز، وأحيانا تكون الصورة واضحة، إلا أنها في أحيان كثيرة قد تكون مربكة لمتخذ القرار، خاصة مع تضارب البيانات، أو توفر حجم هائل من المعلومات، بما يصعب استقراء مضمونها. وتعتبر المشكلة الأساسية في هذه المرحلة هي تمييز الحقائق عن التقديرات الشخصية أو المتحيزة، وعلى محللي الاستخبارات هنا إبعاد تقييماتهم عن التحيزات السياسية أو الحزبية، فضلاعن الثقافية أو التاريخية. وأحد التحديات الحالية التي تواجه هذه العملية ليس نقص المعلومات بل كثرتها على نحو قد يعوق التوصل إلى تقديرات موضوعية أو محايدة..

ويضيف "يقع في نطاق عمل محلي الاستخبارات "تقييم واستباق" التطورات الممكنة في الشؤون الدولية. سواء كانت الجوانب الاقتصادية أم السياسية أم الأمنية أو تلك المتعلقة بالقيادات السياسية في البلدان المعنية. ولا يقتصر تحليل المعلومات الاستخباراتية على وكالات الاستخبارات المعنية بالخارج فقط، فبعض جهات الأمن الداخلي لديها محللون أمنيون. ويقدم المحللون "تقديرات" مكتوبة لصانع القرار من خلال التسلسل القيادي لأجهزة الاستخبارات. وتأخذ هذه التقديرات شكل "مختصر سياسات"أو "المختصرات اليومية" حيث يتم إرسالها إلى صناع القرار بشكل يومي في حال عدم وجود أزمات، حيث يزداد معدل هذه المختصرات مع كل تطور. وأحيانا يأخذ المنتج التحليلي شكل مؤشرات وتحذيرات؛ حيث يركز على الخطوات المتخذة من قبل بعض الأطراف في الداخل أو الخارج على مصالح الدولة الحيوية. ولا يخاطب المحللون الرؤساء المباشرين وحدهم؛ فبعض التقديرات ترسل مباشرة إلى الوزراء، والأخرى إلى الجيش أو الدبلوماسيين؛ خاصة لو كانوا في سياق تفاوض دولي وفي هذه المرحلة تأتي "التنبؤات الاستخباراتية".

ويؤكد إنالتنبؤ“ يمثل المحك الأساس الذي يقاس على أساسه مدى نجاح أو إخفاق أجهزة الاستخبارات، فقدرة الجهاز على توقع حدث أو نفي آخر هو المعيار الرئيس للحكم بكونه يقوم بكامل مهامه، على الأقل في نظر السياسيين وجهات الرقابة البرلمانية، فضلا عن دوائر الإعلام والصحافة، وإن كان التنبؤ الوظيفة الوحيدة التي تقوم بها وكالات الاستخبارات، إلا أنه بمثابة قمة جبل الثلج التي تخفي تحتها وظائف أعمق".

معضلات التنبؤ

وحول معضلات التنبؤ الاستخباراتي يقول العربي "ليس التنبؤ بالمهمة السهلة، خاصة عندما يتعلق بالأمور الأكثر حساسية وأهمية لأمن الدول ومصالحها.وتجد أجهزة الاستخبارات ومحللوها أنه من الضروري ملاحقة التطورات ومراقبة التحديات المتداخلة، لكي تصيب في تقدير الأمور، ولكي تقوم بوظيفتها في خدمة صانع القرار. وبشكل عام، يعمل محللو الاستخبارات في عالم مغلف باللا يقين والفوضى والتعقيد، من أجل إخراج تقديرات تفسر الأحداث التي يتعرضون لها، وتقدم توقعات وتنبؤات لصانع القرار .إن ”وضعية اللا يقين“ تختلف عن ”التعامل مع المخاطر“؛ ففيما تشير المخاطر إلى ”معرفة صناع القرار والمحللين بالآثار المترتبة على القيام بخطوة ما، كما هو في حال لعبة الشطرنج، أو اتخاذ قرار ما، فإن اللا يقين نطاقه أوسع من المواقف ذات الاحتمالات والآثار غير المعروفة، والتي يتعذر الإلمام بها بدقة، وتأتي وظيفة التنبؤات كمحاولة لتقليل مساحة اللا يقين وليس القضاء عليها.

ويتوقف العربي محللا للمعضلات التي تواجه الوظيفة التنبؤية للاستخبارات، ومنها: طلب صناع القرار لنتائج محددة، وتحمل الاستخبارات أعباء الإخفاق، ففي حال إخفاق سياسة الدولة، غالبا ما تقدم أجهزة الاستخبارات كـ“كبش فداء“ للإخفاق؛ حيث يتم تصوير الإخفاق باعتباره "فشلا استخباراتيا". 

تعقد الظواهر

 حيث أصبح التنبؤ أكثر صعوبة في عالم اليوم بسبب التعقد والتداخل الشديد بين الظواهر، الأمر الذي وصل إلى حد الفوضى. ويشير إلى أن أجهزة الاستخبارات بأفرعها المختلفة، فضلا عن وكالاتها المتنوعة والمتنافسة، تقوم على مبدأ ”تجزئة المعلومات الاستخباراتية“. ونظرا لكونها أجهزة بيروقراطية، فإن المحللين لا يتعاملون إلا مع الأجزاء التي تخصهم وتخص وكالاتهم فقط من الصورة، وبالتالي فهم ليس بمقدورهم الإحاطة بجوانب التطور أو الحدث أو القضية، التي قد يرى المديرون أو السياسيون أنها خارج تخصصهم. ومن هنا، تكون تقديراتهم حتما منقوصة أو تعالج جوانب محددة، فيما يتولى المخططون تجميع الصورة الأكبر. وقد يتخذ هؤلاء قرارا سياسيا باستبعاد أو تأكيد بعض التقديرات دون أخرى.وقد تنطوي مخاطر التجزئة هذه، وما ينتج عنها من تنافس داخل وعبر الوكالات الاستخباراتية، على كوارث محققة. والمثال الأبرز في هذا السياق ما كشفت عنه لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر من فجوة في التواصل بين وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالية، والناتج عن التنافس طويل الأمد؛ حيث لم يشارك المكتب الوكالة المعلومات شبه المؤكدة لديه، حول إمكانية وقوع هجمات ينفذها متطرفون تابعون لتنظيم القاعدة.

ويوضح العربي أن تحليل الاتجاهات المستقبلية يشحذ قدرة المحللين على ”التنبؤ“ من خلال استكشاف "نقاط التحول" قبل نموها. إلا أن منطق الاستخبارات في عالم ما بعد الحرب الباردة، والتغير المتسارع يدفع أغلب الموارد والجهد نحو التركيز على المتغيرات الآنية، وإنتاج تقديرات قصيرة المدى ومباشرة للرد على تطور ما.ويطلق على هذه الحالة طغيان المخصصات في مقابل رصد الاتجاهات المستقبلية، حيث يجعل طغيان المخصصات المحللين يلهثون وراء التطورات التي قد تغطي على القضايا الأهم، وفي مواجهة ذلك، تحاول أجهزة الاستخبارات خلق التوازن بين القضايا المستمرة والمخصصات.

ويكشف أن أجهزة الاستخبارات تعاني ضعفا في الموارد البشرية، وقد يكمن ذلك في ضعف القيادة المؤسسية أو خضوعها للقيادة السياسية؛ أو في تراجع القدرات الثقافية والفكرية للمحللين. وقد اتضح هذا التراجع في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث توسعت أجهزة الاستخبارات في التوظيف دون التدقيق في خلفية المعينين، بفعل ضغط ظروف الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي تراجع فيه عدد المتخصصين من حملة الشهادات العليا، وهو ما أدى لتدهور المرجعية الثقافية للمهنة، التي عرف عن أصحابها على مر التاريخ المستوى الفكري العالي، وإتقانهم اللغات الأجنبية والآداب. وقد تتجسد نتائج ضعف الموارد البشرية في تراجع دراسة أجهزة الاستخبارات للنماذج التاريخية الضرورية لفهم الواقع الحالي. مثال، يرى ديفيد أوماند، المدير السابق لمكتب الاتصالات الحكومية البريطاني ”GCHQ”، أن الاستخبارات الغربية أخفقت في قراءة نيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكل صحيح عندما اختار التدخل في شرق أوكرانيا، وقام بضم القرم في مارس 2014 على الرغم من تشابه الاستراتيجية المستخدمة من خلال ”الرجال الخضر الصغار“، مع الاستراتيجية التي وظفها يوري أندروبوف رئيس جهاز الاستخبارات السوفيتية السابق، للتدخل في تشيكوسلوفاكيا للقضاء على النظام الإصلاحي لألكسندر دوبشيك عام 1968، وفي هذا الموضع ، فإنه من الضرورة بمكان الإشارة إلى مستويات أكثر تدهورا في نتائج أعمال أجهزة الاستخبارات في البلدان التي تشيع فيها أشكال الفساد المؤسسي وتراجع الكفاءات.

تعقيدات مؤسسية

ويلفت العربي إلى أن العملية الاستخباراتية قد تعاني تعقيدات مؤسسية، تأتي في أشكال عديدة، من بينها وجود تنافس بين الأجهزة، بما يجعل تقاريرها متضاربة وغير قابلة للتصديق، أو عرضة للتشكيك. وربما الحالة الأبرز في هذا السياق إحجام إدارة باراك أوباما عن اتخاذ سياسة أكثر فعالية تجاه تدهور الأوضاع في سوريا والعراق، ما أدى لظهور تنظيم ”داعش“. فبعد سلسلة من المداولات مع الإدارة، كتب السفبر الأمريكي السابق في سوريا، روبرت فورد، في أواخر عام2012 ، تحذيرا مباشرا للبيت الأبيض من إمكانية انتقال عدد كبيرمن المقاتلين التابعين للقاعدة من العراق إلى سوريا، وانضمام المقاتلين الأجانب، واستيلائهم في النهاية على مساحة واسعة من الأرض مع تراجع السلطة المركزية في دمشق، وعودة التمرد السني على حكومة نوري المالكي في بغداد. وكان الحل الذي كان يدفع فورد تجاهه هو تسريع عملية تسليح المعارضة السورية، ممثلة فيما يسمى الجيش السوري الحر، ليكون بديلا أكثر اعتدالا للمعارضين الراغبين في الإطاحة بنظام الأسد. 

في تلك الحالة، جاء التحذير من خارج مجتمع الاستخبارات. ولم تفلح الاستخبارات المركزية في معالجته بسبب تردد إدارة أوباما في اتخاذ خطوة ”أكثر فعالية“ في التعامل مع نظام الأسد، خاصة بعد إلغاء الرئيس باراك أوباما لأمر الضربات العسكرية ضد نظام الأسد، بسبب التقارير الواردة عن استخدامه لأسلحة كيميائية ضد مدنيين سوريين في كرم الزيتون وتوافقه على حل دبلوماسي مع روسيا، يقضي بتسليم دمشق للأسلحة الكيميائية. 

وقد أظهرت هذه الحالة تنازعا بين مجتمع الاستخبارات والإدارة الأمريكية، ففي حين أشارت الإدارة إلى أن الاستخبارات فشلت في توقع صعود التنظيم، فقد رفضت وكالة الاستخبارات المركزية هذه الاتهامات، وأكدت أن كافة تقديراتها حول التنظيم منذ وجوده في العراق تحذر من مخاطر توسعه.

ويتابع العربي أن العمل الاستخباراتي ارتبط منذ البداية بالتطور التكنولوجي، خاصة فيما يتعلق بعمليات جمع المعلومات، من خلال المراقبة ومسح الإشارات، والصور التي يتم جمعها عبر الطائرات المسيرة وأجهزة الاستشعارعن بعد وغيرها؛ إلا أن التطور الحادث الآن في الخوارزميات وتحليل البيانات الكبرى، يبشر بمشاركة الآلات أيضا للمحللين البشريين في عملهم ضمن عملية الاستخبارات. 

ويرى أن دعاة الدمج بين العمل البشري والآلات يرون أن توظيف الذكاء الاصطناعي في التحليل الاستخباراتي بإمكانه تعزيز ”دقة“ التنبؤات والتقديرات، من خلال الكشف عن النقاط التي يصعب على الإدراك البشري تحديدها، ومن ثم تعزيز قدرة المحللين على إصدار التحذيرات والإنذارات المبكرة، ومن ناحية زيادة قيمة المدخلات البشرية في عملية التحليل. أي من خلال منح المحللين البشر المساحة للتركيز على مدخلات أكثر قيمة بدلا من التركيز على إشارات مجزأة. وقد بدأ برنامج إياربا، منذ منتصف العقد الماضي، إطلاق مشروعات لتعزيز التنبؤ الفائق، من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي. وتوسع البرنامج لاستخدام الحوسبة الكمومية وتقنيات التعرف إلى الوجوه وبرامج الترجمة العالمية وغير ذلك من تقنيات، قد نجدها معروضة في أفلام السينما الأمريكية، وبالتالي، تستطيع هذه البرامج أن تخترق كل حزم البيانات الخاصة بالأفراد، بما في ذلك تفاعلات الأفراد على فيسبوك وتويتر ويوتيوب وكل استخدام لخاصيات الاستشعار عن بعد، وكل بحث على محركات البحث وكل مقطع مصور، وكل حجز إلكتروني، وكل ما يمكن أن يمحو المفاجأة من على مائدة الاستخبارات.

تعزيز التنبؤات

ويحلل العربي مشروعات إياربا التنبؤية التي أطلقها برنامج إياربا لتعزيز التنبؤات الاستخباراتية، من خلال الدمج بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، ومنها: 

- أولا مشروع ميركوري: أطلق برنامج إياربا، في 11 يوليو 2018 تحدي ”ميركوري“ والذي يسعى إلى تقديم حلول وأدوات تحليل ابتكارية، عبر إجراء أبحاث حول النشاط العسكري في ثماني دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإمكانية نشوب مرض وبائي في بعض الدول، واضطرابات دورية وغير عنيفة في دول أخرى. كذلك يحاول المشروع رصد الابتكارات التقنية التي تشمل رصيد السلوك الاجتماعي المتغير على مستوى المجموعات السكانية المختلفة، كردة فعل أو كاستباق للتحولات، وتقنيات استخراج البيانات، التي تركز على الحجم وليس العمق، من خلال تحديد المعالم السطحية لبيانات استخبارات الإشارات التي تتعلق بهذه الأحداث؛ وتطوير نماذج التوقعات الأكثر احتمالا للأحداث المستقبلية والتي تدمج الأبحاث عالية الجودة والقادرة على تطوير قدرات توقعية رصينة من بيانات الاستخبارات الإشارية.

- ثانيا: مشروع ساچ SAGE أو "الاستباق المتآزر للأحداث الجيوسياسية": وهو يسعى للتنبؤ بالأحداث المستقبلية من خلال إدماج البشر من غير الخبراء والقادرين على استخدام ”التعلم الآلي“ في الذكاء الاصطناعي، من أجل إنتاج تقديرات ذات جودةعالية حول ما قد يحدث. كما يسعى المشروع إلى تطوير تقنيات التوقع والقيام بتنبؤات بناء على توظيف أكبر عدد من المستخدمين من البشر. كما يستهدف المشروع المساعدة في الحصول على تنبؤات كمية، من خلال استخدام نماذج التعلم الآلي، التي تتمثل في خرائط السلاسل الزمنية، التي هي سلاسل بيانات ومعلومات تاريخية، تشير إلى الاتجاهات.

- ثالثا نموذج إمربز EMBERS: ويستند النموذج إلى التحليل اللغوي لكم هائل من البيانات، يتم جمعها من مختلف المصادر، مثل مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والتقارير الحكومية، وذلك بهدف ”إثراء المحتوى“، ومن خلال تفكيك وتحليل النصوص واستخراج أصولها ودلالاتها، وتحديد الأنماط الشعورية للكلمات المستخدمة في سياقها. ويؤخذ على هذا النموذج أنه يقتصر حتى الآن على اللغة الإنجليزية، وقد لا تفلح ترجمة النصوص من لغات أخرى إلى تحديد الدلالات الشعورية لبعض للكلمات الأصلية، كما قد لا يمكنه التعرف إلى الدلالات الشعورية للكلمات المترجمة. كذلك، اقترنت التجارب التي طبق فيها هذا النموذج على بعض طلاب قسم علم النفس في جامعة فلوريدا في المرحلة العمرية من 18-20 عاما، بكل ما يحملونه من خصائص ديمغرافية وثقافية واقتصادية. وبشكل عام، أوضح الاختبار أن الدلالات القيمية والشعورية والثقافية للكلمات المستخدمة تعكس أنماطا معينة مرتبطة بالدين المسيحي والديمقراطية والقيم الليبراليةوبالتالي فالبنية اللغوية المصمم عليها البرنامج قد لا تتناسب مع أنماط ثقافية ولغوية أخرى، بل إنها قد لا تستوعب الخطاب المرتبط بالحركات الاجتماعية الجديدة في الغرب، مثال ذلك المرتبط بالحركات المدافعة عن المثلية الجنسية.

ويخلص العربي أن الاستباق وإصدار التنبؤات، سيستمر كجزء أصيل في عمل الاستخبارات الحديثة، ومعيارا للحكم على إخفاقها أو نجاحها في الحفاظ على الأمن القومي ومصالح الدول. وهنا يمكن الإشارة إلى عدة حقائق، على المحللين وصناع القرار وغيرهم التعاطي معها. 

- أول هذه الحقائق هي أن وقوع المفاجآت سيكون أمرا حتميا؛ ولا تعني قدرة محللي وأجهزة الاستخبارات على الوصول إلى معلومات سرية أنهم بالضرورة سيقضون على عنصر المفاجأة، سواء عى المستوى التكتيكي أو الاستراتيجي.

- الحقيقة الثانية هي أن عناصر القصور البشري ستظل قائمة، سواء كانت في شكل تحيزات إدراكية أو أحكام قيمية أو تصورات خاطئة. فالاستخبارات، كالسياسة والحرب، هي عمل بشري. وبالتالي، من الضروري التفكير في وظيفتها من هذا المنطلق بدلا من محاولة التوصل إلى اليقين الكامل الذي لا يتلبسه أي شك أو خطأ، أو ترك الأمر للآلة كي تقرر. 

- أما الحقيقة الثالثة، فهي أنه في ظل التوسع في الاعتماد على المصادر المفتوحة، فستزداد صعوبة آليات التحليل البشري والآلي على السواء، في معالجة وتحليل البيانات ومحاولة بناء معنى منها، مع اتسام هذه البيانات بالتحيزات والعاطفية والخداع والتلاعب .في ظل فوضى البيانات، التي يتصف بها العصر الحالى، فعلى أجهزة الاستخبارات بذل جهد إضافي في التفسير والشرح والتأكد من الحقائق الأساسية للتطورات، التي تعرض للدولة وصناع قرارها. 

وبالتالى سيكون على هذه الأجهزة إجراء البحوث الأساسية حول القضايا الجديدة أو الناشئة، وإعمال الفكر التأملي والاستشراف فيما يمكن أن يطرأ في المستقبل من تحديات. لذا سيظل تطوير العنصر البشري هو الضمان الرئيس لقيام هذه الأجهزة بدورها على أكمل وجه، وبعد هذا يأتي الدور المساعد للآلة.
----------------------------
قراءة - محمد الحمامصي
من المشهد الأسبوعية